اغتيال تشارلي كيرك: بين تصدّع الداخل الأميركي وتوظيف إسرائيل

شكّل اغتيال الناشط الأميركي المحافظ والموالي للرئيس ترامب[1] تشارلي كيرك برصاصة أودت بحياته فورًا أثناء إلقاءه كلمة في حرم جامعة يوتاه، حدثاً مفصليًا تصدّر المشهد السياسي والإعلامي، وأثار ضجّة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي داخل الولايات المتحدة وخارجها. حيث كَثُرَت التكهُنات والتحليلات حول خلفيات الحادثة وتداعياتها المحتملة، وما قد تكشفه من تحوّلات في المشهد السياسي الأميركي.
وأعاد ذلك إلى الواجهة نقاشا قديمًا-متجدّدًا حول الاغتيال السياسي كأداة للصراع والتصفية، طالما حُصِرَ في المخيال الغربي والعالمي ضمن سياق الشرق الأوسط بينما سعى “المعسكر الغربي” إلى تكريس ذاته كنموذج متفوّق نأى بنفسه عن منطق الاغتيال السياسي ويُغلِّب لغة الحوار ويحتكم للعقلانية. وهو ما يضعنا أمام سؤالٍ محوري: كيف يعكس اغتيال كيرك هشاشة النموذج الديمقراطي الأميركي، وما أبعاده على التوازنات الإقليمية والدور الإسرائيلي؟
مَنْ هو كيرك؟
كيرك كظاهرة سياسية–إعلامية تمثل صعود الشعبوية المسيحية-الإنجيلية الجديدة.[2]، وهو يمثل حالة دراسية لفهم كيف يتقاطع النفوذ الرقمي مع الخطاب الشعبوي في إعادة تشكيل اليمين الأميركي. ارتبط اسمه بالتيار الترامبي وصعود اليمين الشعبوي في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من عدم إكماله دراسته الجامعية، إلّا أنه انخرط في السياسة فورَ تخرّجه من المدرسة الثانوية إذ قام بتأسيس منظمة “نقطة تحوّل الولايات المتحدة الأميركية” Turning Point USA.[3] التي انتشرت في أكثر من 850 جامعة وأصبحت أحد أهم المنابر الشبابية اليمينية، مُعلِنَةً رسالتها في مواجهة ما يسميه كيرك “الهيمنة الليبرالية على الحرم الجامعي”. وهو بذلك، تميّز بقدرته على التأثير في الأجيال الشابّة متجاوزًا الأطر الجيلية التقليدية، من خلال فهم أدوات التأثير عليها واستقطابها.
يمثل كيرك حالة دراسية لصعود الشعبوية المسيحية–الإنجيلية الجديدة في الولايات المتحدة
إلى جانب نشاطه الميداني، رسّخ كيرك حضوره عبر برنامجه الإذاعي والبودكاست [4]The Charlie Kirk Show، إلى جانب نشاطه الكثيف على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتابعه ملايين المستخدمين. كما أصدر عام 2020 كتابه “عقيدة ماغا- الأفكار الوحيدة التي ستنتصر في المستقبل”، والذي تبنّى فيه شعار ترامب لنجعل أميركا عظيمة من جديد”[5] كإطار أيديولوجي لمشروعه السياسي، مقدّمًا إياه كسبيل لاستعادة “الحكم الذاتي” ومواجهة ما يعتبره “انحرافًا للنخب الليبرالية”.
أيديولوجيًا، يُعتبر كيرك من أبرز المروّجين لفكرة ” تفويض الجبال السبع”، وهي رؤية لاهوتية إنجيلية متطرفة تعتبر السياسة صراعًا روحيًا بين الخير والشر، ما جعله في طليعة القادة الإنجيليين الذين يمزجون الدين بالسياسة ويطرحون مشروعًا هيمنويًا يتجاوز البعد الديني إلى إعادة تشكيل المجال العام الأميركي.
السياسي–المؤثر: النموذج الأميركي الصاعد
اعتبر مراسل ديلي بيست أن كيرك يتمتع بنفوذ استثنائي رغم عدم شغله أي منصب رسمي[6]، إذ يجسد الجيل الجديد من المحافظين الذين تجاوزوا دور الكواليس إلى صدارة المشهد السياسي والتأثير المباشر في صناع القرار والحزب الجمهوري. ويعكس هذا الوصف صعود ما يُعرف بـ’المسيحية السياسية’، حيث يتقاطع الخطاب الديني الإنجيلي مع الديناميات الحزبية ليؤسس لنموذج جديد من ‘الدين السياسي’ في الولايات المتحدة، يتجاوز البعد العقائدي إلى دور فاعل في إعادة تشكيل الهوية السياسية للجمهوريين وتوجهاتهم الاستراتيجية.
كيرك يعكس صعود تيار ‘المسيحية السياسية’ الذي يمزج الدين بالسياسة ليعيد تشكيل الهوية الجمهورية
كل ذلك أسهم في منح تشارلي كيرك مكانة استثنائية داخل الدوائر السياسية المحافظة، لدرجة أنه حصل على مقعد مميز خلال مراسم أداء دونالد ترامب لليمين الدستورية في قاعة الكابيتول، متفوقًا حتى على معظم أعضاء الكونغرس، وفقًا لما أشار إليه مراسل صحيفة ديلي بيست وقد برر السيناتور الجمهوري عن ولاية إنديانا، جيم بانكس، هذا الامتياز بالقول إن كيرك قدم من الدعم والمجهود في سبيل إيصال ترامب إلى البيت الأبيض ما يفوق ما قدمه كثير من أعضاء الكونغرس أنفسهم.
ويمكننا وصف هذا التوجه الخطابي بـ”المسيحية السياسية”، وهو تيار متصاعد في الولايات المتحدة يطالب بتفعيل دور الدين المسيحي في الحياة السياسية.
تاريخٌ مظلم وطويل من الاغتيالات
غالبًا ما يتم تحليل الاغتيالات الكبرى عند المنعطفات التاريخية باعتبارها مؤشرات على اهتزاز البُنى السياسية والاجتماعية، لا مجرد جرائم فردية معزولة عن سياقها البنيوي. فمن اغتيال يوليوس قيصر في روما، الذي شكّل منعطفا في تاريخ الجمهورية الرومانية، وصولاً إلى اغتيال الأرشيدوق فرانتس فرديناند الذي فجّر اغتياله شرارة الحرب العالمية الأولى. وبذلك ارتبط الاغتيال السياسي دومًا بلحظات الانكسار والتحوّل.
والتاريخ الأميركي حافلٌ بالاغتيالات، فقد شهد القرن العشرين حوادث اغتيال سياسية مهمة من أبرزها اغتيال الرئيسين: أبراهام لينكولن وجون كينيدي، وحتى اغتيال زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينع جونيور، مرورًا بهجوم مناصري ترامب على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021. وما تلاه منذ مطلع العام الحالي، أبرزها محاولـة اغتيال الرئيس دونالد ترامب أثناء السباق الرئاسي، إلى اغتيال النائبة الديمقراطية ميليسا هورتمان وزوجها في حزيران/يونيو الفائت. من هذا المنظور، يصبح اغتيال كيرك قابلًا للتفسير ضمن إطار العنف السياسي كأداة لإعادة تشكيل التوازنات الداخلية. إحصائيا، تشير الدراسات[7] إلى وقوع أكثر من 150 هجوما منذ مطلع العام الحالي حوادث العنف على الاغتيالات فقط، بل تمتد أيضًا إلى التهديدات والأعمال العدائية المرتبطة بالتحريض السياسي وغيرها.
العنف السياسي بات سمة صادمة في الحياة الأميركية، ما يضع الديمقراطية على مفترق طرق
إضافةً إلى تصاعد الحديث عن العنف السياسي والتحذيرات المستمرة من آثاره وتبعاته على مستقبل الولايات المتحدة[8]، إذ يقول روبرت بيب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، في مجلة Foreign Affairs [9]“في أقل من عقد، أصبح العنف سمةً شائعةً في الحياة السياسية الأمريكية بشكلٍ صادم”. وأضاف: “أصبح دعم العنف السياسي سائدًا… فالاتجاهات السياسية لا تسير في خط مستقيم، والتنبؤ بالمستقبل قد يكون مسعىً أحمق”. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة تواجه طريقًا وعرًا، واحتمالية تطورها إلى صراع أشد أو ما يشبه حربًا داخلية، مما يضع النظام الديمقراطي على مفترق طرق ويطرح أسئلة جدية حول استدامته وقدرته على الصمود أمام هذه التحديات[10].
من هذا المنظور، تكتسب حادثة اغتيال كيرك بعدًا يتجاوز الفردي، إذ تكشف عن تصدّع الديمقراطية الأميركية، وتعكس عودة وتكريس العنف السياسي إلى المشهد اليومي، وتفاقم الاستقطاب والانقسامات العميقة، ما ينذر بإمكانية استمرار وتيرة العنف وتأثيره على استقرار النظام السياسي والاجتماعي الأميركي.
ردود الفعل الإسرائيلية: صديق قُتل أم ورقة استثمار؟
بعد اغتياله، توالت ردود الفعل الإسرائيلية التي أبرزت مكانته في الدفاع عن “الحضارة اليهودية-المسيحية” على حد وصف الرئيس الإسرائيلي فقد نعاه نتنياهو بوصفه “صديقًا لإسرائيل” إذ دعاه قبل أسبوعين من مقتله إلى زيارة إسرائيل[11]. أيضًا، نعى وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير واصفًا ما أسماه “التحالف بين اليسار العالمي والإسلام الراديكالي” كأكبر خطر على البشرية وهو ما أفنى كيرك حياته محذِّرًا منه[12].
مع ذلك، تزايدت التكهنات في بعض الأوساط الإعلامية والسياسية حول احتمالية تورط الموساد الإسرائيلي، خاصة مع تكرار توصيف العملية بأنها عمل قنّاص محترف، وتوظيف الخطاب الإسرائيلي للحادثة بصورة مباشرة، والأهم من ذلك، توالي التصريحات التي عززت هذه الشكوك، إذ نقل الصحفي الأميركي هاريسون سميث قبل شهر عن أحد المقربين من كيرك مخاوفه من احتمال تعرضه للاغتيال على يد إسرائيل في حال عارضها أو انقلب عليها.
إسرائيل نعَتت كيرك كـ’صديق’ لكنها توظف اغتياله براغماتياً في استراتيجياتها الإقليمية
وتكتسب هذه الشكوك وجاهة إضافية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة مناظراته العلنية التي سمحت بطرح أصوات مناوئة لإسرائيل داخل الجامعات الأميركية. وقد اعتبر خصومه ذلك محاولة لتطويع الخطاب الصاعد المؤيد لفلسطين، خصوصا في أوساط جيل Z لخدمة السردية الصهيونية. وهكذا جرى ربط الحادثة وتعليلها بوصفها مُحصِّلَة لهذا الدعم المتزايد، الذي صُوِّرَ في الخطاب الصهيوني كوجه من وجوه “التطرّف” “ومعادة السامية”.
خاتمة
ما يزال من المبكر الحديث عن التداعيات الكاملة لاغتيال أحد أبرز منظري ووجوه اليمين الأميركي الجديد، لكن من الواضح أن الحادثة جاءت في وقت تتصاعد فيه الانقسامات والاستقطابات داخل المشهد الأميركي. ومن المُرجّح أن هذا الحدث سيكون فارقًا في التاريخ السياسي الأميركي. خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حجم التفاعل الإعلامي والإدانات، وبأن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها فالتاريخ الأمريكي حافل بالاغتيالات السياسية التي تصاعدت وتيرتها خلال الأشهر الماضية
يبقى السؤال المفتوح هو مدى قدرة اليمين الأميركي على توظيف هذه الحادثة لتعزيز موقعه في مواجهة خصومه، وما إذا كانت ستشكل ذريعة لتوسيع سياسات المواجهة إقليميًا، بما في ذلك تبرير استهدافات إسرائيلية إضافية، وسط تخييم مشهد من تبادل الاتهامات بعد الحادثة. والأهم من ذلك، تكشف الحادثة عن تلاقي مسارين: تصدع داخلي أميركي متسارع، وتوظيف إسرائيلي براغماتي لأحداث دولية (كمحاولة اغتيال قادة حماس في قطر على سبيل المثال) كأدوات في إعادة هندسة ميزان القوى.
[1] قناة المملكة، “ترامب: مقتل الناشط اليميني الأميركي تشارلي كيرك بعد عملية إطلاق نار.” 10 أيلول 2025، متاح عبر الرابط التالي:
[2] BBC عربي. “من هو تشارلي كيرك حليف ترامب الذي دعم حيازة السلاح؟” 11 أيلول 2025، متاح عبر الرابط التالي:
[3] “فرانس 24. “ما هي منظمة ’ Turning Point USA’ التي أطلقها تشارلي كيرك لدعم دونالد ترامب وحركة ’ماغا’؟” 12 أيلول 2025
[4] The Charlie Kirk Show. Apple Podcasts
[5] الجزيرة نت. “حركة ماغا.. منظمة سياسية تبنت شعار ترامب الانتخابي.” 8 أيلول 2024
[6] The New York Times. “Breaking News: Charlie Kirk has died after being shot while speaking at a Utah college.” Posted on X, September 10, 2025. Available at: .
[7] Rachel Kleinfeld. “The Rise of Political Violence in the United States.” Journal of Democracy, October 4, 2021
[8] Louis Jacobson and Amy Sherman. “‘Rough road ahead’: Charlie Kirk’s assassination highlights the rise in US political violence.” PolitiFact, September 11, 2025. Available at:
[9] Robert A. Pape. “Our Own Worst Enemies: The Violent Style in American Politics.” Foreign Affairs Newsletter, November/December 2024, published September 23, 2024. Available at: https://bitly.cx/TgFlo
[10] John Shiffman, Ned Parker, and Linda So. “Nation on edge: Experts warn of ‘vicious spiral’ in political violence after Kirk killing.” Reuters, September 11, 2025. https://bitly.cx/PWxyb
[11] Benjamin Netanyahu. X \[formerly Twitter], September 11, 2025. https://x.com/netanyahu/status/1965888327938158764
[12] Itamar Ben-Gvir. X [formerly Twitter], September 11, 2025. https://x.com/itamarbengvir/status/1965896327167955394