شهد ملف الاستيطان في الضفة الغربية مؤخرًا تطورًا نوعيًا مع إعلان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في أغسطس/آب 2025 إعادة تفعيل مشروع E1، بما يشمل بناء نحو 3,400 وحدة استيطانية. هذا الإعلان ترافق مع تصريحات صريحة بأن الهدف المباشر هو “دفن فكرة الدولة الفلسطينية”، ما يؤشر إلى انتقال المشروع من حالة الجمود الطويلة بفعل الضغوط الدولية إلى طور التنفيذ الفعلي. وفي ظل هذه الظروف، تبرز الحاجة اليوم إلى تجسيد المشاريع الاستيطانية على الخرائط التوضيحية لبيان أثرها على البنية الجغرافية.

يبرز مشروع “نسيج الحياة“ (أو “طريق السيادة”) كجزء من هجمة استعمارية إسرائيلية تهدف لإعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا في القدس والضفة الغربية. فالمشروع “الذي أقرّه المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت) وتم تخصيص حوالي 335 مليون شيكل (نحو 91 مليون دولار) لتمويله من أموال المقاصة الفلسطينية “يتضمن إنشاء نفق من الزعيم (شمال القدس) إلى العيزرية (جنوب القدس)، يُزعم أنه لتحسين حركة الفلسطينيين، لكنه في الواقع يُسهّل السيطرة الإسرائيلية ويمنع وصولهم من وسط القدس إلى أريحا من طريقهم التقليدي. هذا النفق يعد تمهيدًا لمخطط أوسع يُعرف بـ”القدس الكبرى”، ويهدف إلى تمرير المستوطنات كمعاليه أدوميم ضمن إطار بلدية القدس، وقطع الضفة الغربية إلى شطرين شمالي وجنوبي، ما يُنهِي إمكان قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا.
المشروع ينتهك اتفاقية أوسلو من خلال تنفيذه في مناطق “ب” (مثل العيزرية) حيث تملك السلطة الفلسطينية صلاحية التخطيط المدني. كما يتسبب في عزلة نحو عشرات التجمعات مثل خان الأحمر المهددة بالتهجير، ويعزلها من شبكة الطرق الفلسطينية الرئيسية، ويُسهم في تقويض أي أمل بالاتصال الجغرافي المستدام بين شمال الضفة وجنوبها.

مشروع E1 يُعتبر أحد أخطر المخططات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية، إذ يهدف إلى ربط مستوطنة معاليه أدوميم بمدينة القدس عبر ضم المنطقة الفاصلة بينهما إلى حدود بلدية القدس. هذا المشروع يعني فعليًا تطويق القدس الشرقية وعزلها عن الضفة الغربية، وقطع أوصال الضفة إلى شطرين شمالي وجنوبي، ما يقضي على إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا.
المخطط يتضمن بناء ما يقارب 4,000 وحدة سكنية، عشرة فنادق، ومنطقة صناعية، بما يعزز التوسع الديموغرافي للمستوطنين ويدفع عددهم داخل حدود بلدية القدس إلى عشرات الآلاف. كما يستهدف التجمعات البدوية المحيطة (مثل جبل البابا ووادي الجمل) عبر أوامر هدم وإخلاء، تمهيدًا لإحكام السيطرة على الأرض.
إلى جانب هذه المشاريع، تشير تصريحات نتنياهو الأخيرة إلى البعد الأيديولوجي الذي يحكم رؤيته السياسية، إذ يقدّم نفسه باعتباره صاحب “مهمة تاريخية وروحية” مرتبطة بفكرة أرض الميعاد، ما يضع مشروع “إسرائيل الكبرى” في قلب خطابه السياسي. ويتعزز هذا التوجه في خطاب آخر خلال زيارته لمستوطنة “عوفرا” شمال رام الله، حيث أعلن بوضوح أن الدولة الفلسطينية قد “دُفنت”، في إشارة صريحة إلى طي صفحة أي تسوية سياسية مستقبلية.
هذا إلى جانب تصريح وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كرعي بأن “ضفتا نهر الأردن، إحداهما لنا والأخرى لنا، والضفة الغربية أولا” ومن هنا، تصبح هذه المقولات أكثر من مجرد تصريحات ظرفية، بل تعبير عن مرحلة جديدة تتداخل فيها الرمزية الدينية مع الأهداف الأمنية والميدانية لتكريس السيطرة الكاملة على الأرض.
تصريحات نتنياهو تأتي في ظرف سياسي وأمني بالغ التعقيد، يسعى من خلالها إلى إعادة إنتاج شرعيته الداخلية التي تآكلت بفعل طول أمد الحرب على غزة، وتعثر الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهداف حاسمة. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن نحو 63% من الجمهور الإسرائيلي يطالبون باستقالته، ما يعكس حجم التراجع في مكانته الشعبية. وإدراكًا منه أن بقاؤه السياسي مرتبط ارتباطًا مباشرًا باستمرار حالة الحرب، يتعمّد نتنياهو فتح جبهات جديدة وتوسيع نطاق المواجهة، والعمل على كسب الشرعية من خلال المشاريع الاستيطانية، سواء في الضفة الغربية عبر مشاريع استيطانية مثل E1، أو في غزة عبر الإيماء بـ “الاحتلال الكامل”.
ومن خلال خطاباته المكثفة وتصريحاته ذات الطابع الروحي–التاريخي، يسعى نتنياهو إلى كسب شرعية بديلة عن تلك التي فقدها في الداخل، عبر استثارة المشاعر القومية والدينية وربط مشروعه السياسي بقدَر تاريخي. بهذا، تتحول تصريحاته من مجرد مواقف إعلامية إلى أداة سياسية للبقاء في الحكم، إذ يقدّم نفسه باعتباره رجل المرحلة الذي لا يمكن الاستغناء عنه في زمن الصراع والحروب.
فيما يتعلق بغزة، فقد أعلن نتنياهو أن السابع من أكتوبر لهذه السنة سيكون نقطة التحول التي تبدأ معها “عملية السيطرة” على القطاع، ملمحًا إلى نية لا تتوقف عند العمليات العسكرية، بل تمتد إلى تغييرات ديمغرافية شاملة، حيث بات يتحدث بصراحة عن “طرد السكان” من غزة. وفي ظل استمرار الحرب دون أفق واضح، ومع تراجع مستويات الردع الدولية، يتصرف نتنياهو وفق منطق “سُعار الحرب المفتوحة”، غير آبه بالتداعيات القانونية أو الإنسانية.
هذا النزوع نحو إطالة أمد الصراع لم يعد مجرد استنتاجات، بل تأكد في رواية مسؤولين أمريكيين سابقين، حيث كشف المتحدث السابق باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر أن نتنياهو أبلغ واشنطن بنيته مواصلة الحرب “لعقود”، وهو ما يعكس أن منطق الاستمرارية الحربية بالنسبة له مشروع سياسي طويل الأمد أكثر منه ظرفًا عسكريًا طارئًا.
يمكن القول إن نتنياهو يستثمر اللحظة الراهنة – الممتدة من جبهات الحرب السبعة إلى مشاريعه الاستيطانية – لتحقيق مشروع متكامل للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، وفرض وقائع ميدانية تُنهي عمليًا أي مسار سياسي قائم على حل الدولتين، وترسّخ معالم “إسرائيل الكبرى” من النهر إلى البحر.