كيف أعادت “البنيامينية” تشكيل السياسات الإسرائيلية داخليًّا وخارجيًّا؟
مر ما يزيد على عام منذ أن وقعت أحداث “7 أكتوبر”، وما يزال بنيامين نتنياهو متربعًا على عرش السلطة ما بين ثنائية السخط الشعبي ومربع الاغتيالات السياسية الحساسة في إسرائيل؛ حيث يستمر تلميذ المدرسة الأمريكية، عرّاب الاقتصاد الاسرائيلي و “السلام الإقليمي” وصاحب الـ 75 عامًا بتولي مهمة القيادة بشراسة وكأنه يبدأ اليوم الأول من الحرب كل يوم ممسكًا بخيوط ائتلافاته الهشة، إلى جانب ما راكمه طوال السنين الماضية من علاقة فريدة من نوعها مع الولايات المتحدة.
سواء استمر نتنياهو في الحكم أم لا، فإن هنالك فائضًا من التراكمات السياسية والتاريخية التي أصبحت تمثل بناءً مؤسسيًّا إسرائيليًّا سيتركه نتنياهو وراءه لمعارضيه قبل مواليه السياسيين، فالحالة الطويلة التي مثلها باتت أقرب إلى البارادايم Paradigm الذي ينطلق من فلسفة إدارة نتنياهو للأمور وينتهي بإعادة ترتيبه لأولويات منطقة ملتهبة.
سنناقش هذا الطرح من خلال عدة نقاط جوهرية في فهم شخصية، نتنياهو، وطبيعة السجل السياسي والعسكري الذي يحمله لغاية اللحظة.
قد يتشابه مصطلح “البنيامينية” مع مصطلح “الترامبية” اليميني الذي ساد العالم بعد ظهور طاغٍ لشخصية الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، على سير السياسة الأمريكية داخليًّا وخارجيًّا وعلى إثرها أصبحت تقاس العديد من العوامل ومنها الشعبوية والهوية. لكن يشير مصطلح البنيامينية إلى الحالة القومية اليمينية ورفع أهمية القضايا الأمنية على أي ملف آخر بالإضافة لطريقة نتنياهو في إدارة المشهد المنقسم في إسرائيل خلال موجة الإصلاحات القضائية.
مؤسسيًّا، نتنياهو هو أطول رئيس وزراء مدة في تاريخ إسرائيل وأصغرهم في تولي فترة حكمه الأولى، وهذا يضيف لذاكرته السياسية في تنوع فترات الحكم والأزمات التي كان جزء منها، بالإضافة لقدرته على استحضار تجاربه السابقة حكوميًّا وإقليميًّا. أما في مرجعيته الأولى هو ابن المدرسة الأمريكية والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ فقد درس في جامعة MIT الأمريكية وخدم في وحدة الكوماندوز. وفي الحيز العملي الأمريكي فقد كان نائب رئيس بعثة في السفارة الاسرائيلية في العاصمة الأمريكية واشنطن بالإضافة لكونه سفير إسرائيل في الأمم المتحدة، وهذه الخبرات أضافت -على ما يبدو- للأدوار الدبلوماسية والخارجية التي قام بتمثيلها لإسرائيل.
مقارنة بباقي القادة ورؤساء الوزراء الذين قضوا فترات حساسة وحرجة وذات رمزية عالية عند الإسرائيليين، فإن التوقيت السياسي دائمًا ما خدم نتنياهو خاصة مع تكرار توليه منصب القيادة أكثر من مرة فاستطاع أن يحفظ لنفسه بذاكرة عالية نسبيًّا من الناحية الشعبية والسياسية، فمثلًا، بن غوريون، وضع حجر أساس الدولة وشكل القائد السياسي الأول، غولدا مائير ولجنة “أغرنات” عام 1973 وارتباطها بفترة حرجة إقليميًّا، إسحاق رابين والسلام الأول والاغتيال التاريخي وانتهاء عصر المنحى اليساري، ومن قبله مناحيم بيغين الذي مهد ليمينية دولة ستنطلق من حينها حتى وقتنا هذا بشكل متوغل غير مسبوق. بينما حمل بنيامين نتنياهو سلسلة من الأحداث التي أصبحت على رأسها واقعة “السابع من أكتوبر” وما بعدها من إعادة ترتيب الشرق الأوسط وموقع محور الممانعة في المنطقة.
الوجود النوعي الذي أمضاه، نتنياهو، في الولايات المتحدة بأدوار متعددة وقدرته على إتقان اللكنة الأمريكية بطلاقة اليوم في خطاباته التي يوجهها للإدارة الأمريكية والمقابلات الموجهة للعالم الغربي تعتبر جزءًا من التأثير الشخصي الذي يعكسه، إلى جانب باقي الأدوات اللغوية والمعنوية التي يستخدمها ليُحسن صورته السياسية التي وظفها بشكل بارع والتي كفلت له البقاء في السلطة لغاية هذه اللحظة والبقاء في المشهد بشكل عام حتى بعد انتهاء هذه الحرب.
قد يغادر نتنياهو حياة الحكم والمناصب في إسرائيل لكن أثره السياسي يصعب مسحه بسهولة، فقد خرج أغلب معارضيه اليوم من مكتبه السياسي بعد خبرة عمل طويلة معه، حيث وضع بصمته في إعادة ترتيب أولويات اسرائيل بل تأطيرها بما يتماهى مع منظوره في فهم الوقائع، حتى بات منظور نتنياهو والسردية التي يتبناها هي إحدى وجهي الحقيقة في تقييم المسائل والقضايا، ومن منطلق إنساني فإن إنكار أعداد الضحايا في غزة إلى ربع الأرقام الواقعية أصبح جزءًا من المخيال الاسرائيلي الذي انتقل من فم نتنياهو في المقام الأول، وهكذا نشاهد في العديد من الأنماط سياسيًّا، وخاصة عند الحديث عن المستوطنين ورفع وتيرة جرأتهم بعد السابع من أكتوبر.
في قيادة الحرب، أبدى نتنياهو رغبة سلطوية جامحة في إبقاء حكمه وائتلافاته قائمة إلى هذه المدة إلى جانب تخطيط كامل للحرب مع حالة تأييد سياسية وشعبية ضعيفة أو ليست ترتقي للبقاء في الحكم بشكل مستقر نسبيًّا، لكن مع تحقيق أهداف إقليمية في فترة زمنية قصيرة إلى حد كبير. إلا أن استعراض مهارات استخباراتية ليست وليدة اللحظة، والترويج لرواية يهودية عصرية “مؤلمة” تحاكي الهولوكوست بل تتجاوزها أحيانًا، جميعها أعطى نتنياهو من خلالها للعالم رسالة أن هناك طابعًا شخصيًّا يستخدمه قد يفوق الهدف القومي الاسرائيلي وهو مهتم في استمرار الحرب وقيادتها بشكل رفيع المستوى وتوسيع الأهداف والجبهات.
فلسطينيًّا، لم يعش الفلسطينيون أفضل الأحوال في مختلف أشكال القيادة الاسرائيلية لكن مع الحكومة اليمينية الحالية فإن أي أفق لدولة فلسطينية ضمن مشروع “حل الدولتين” لا يمكن ذكرها أساسًا على طاولة نتنياهو، ومع توّجه الأنظار لقطاع غزة فإن الوضع الأمني في الضفة الغربية لم يكن أسوأ مما هو عليه الآن في ظل إدارة أمنية يترأسها بن غفير وغيره. ويعتبر التوسع الاستيطاني والتشجيع على أحد المشاريع الرئيسية في رئاسة نتنياهو جزءًا من استحقاقات الأحزاب الدينية التي أصبحت واقعًا سياسيًّا لا مفر منه في الحكومة الإسرائيلية.
وهذا يعني في المحصلة، تصدير الحالة اليمينية بشكلها المركزي لكل من يتبع هذه الحكومة، باعتباره يتفاعل مع واقع راهن لا يستطيع أخذ خطوة فيه إلى الوراء أو العمل على إزالته، وهذا جزء مما قام نتنياهو بمأسسته اجتماعيًّا وسياسيًّا حتى مع كافة أشكال الضغوط من الائتلافات الحاكمة لضمان تطبيع المجتمع مع أولوياته الرئيسة مع وبدون حكومته.
أما في ملف الرهائن، فاستمرار الحالة على ما هي عليه بالإضافة لرفض نتنياهو تعاليم واشنطن في العديد من القضايا، منها وقف إطلاق النار بالرغم من الدعم غير المحدود الذي قدمته في هذه الحرب، ساهم في زيادة توجيه الاتهامات لقيادته والآلية التي يُسيّر فيها الحرب ويوسع رقعتها لدرجة اتهامه بالتواطؤ بجر حماس للمبادرة في السابع من أكتوبر كذريعة لتحقيق مكاسب سياسية وإقليمية كانت حينها مؤقتة لكن واقعها المطوّل ساق إلى عدم إدراك للمدى التي طالت به الحرب.
المتتبع للمزاج العام ما قبل قضايا الفساد والإصلاحات القضائية وبالطبع السابع من أكتوبر بحيثياته الواسعة، يجد أن هناك قبولًا إعلاميًّا ومجتمعيًّا لوجود نتنياهو في الحكم مع تحفظات على الحالة الدينية السياسية التي أصبحت ركنًا أساسيًّا في المؤسسة الاسرائيلية السياسية.
اقتصاديًّا وإقليميًّا، ساهم نتنياهو بإنعاش الاقتصاد الاسرائيلي وتشكيل منظومة الشركات الناشئة Startup Ecosystem في ظل حاضنة أمريكية لم تحظ بها إسرائيل من قبل في ظل أي رئيس سابق، وخاصة علاقة ترمب الوطيدة جدًّا مع نتنياهو التي أثبتت تماسكها في الحملة الانتخابية الحالية لترامب ورغبته بالمباشرة في تحقيق المصلحة الاسرائيلية فوق أي اعتبار في الشرق الأوسط.
منذ يومه الأول في الليكود، كان نتنياهو معارضًا شرسًا لكل ما يندرج تحت مصطلح “السلام” وعلى رأسها، أوسلو، مع الجانب الفلسطيني، لكن تأطر في عهد نتنياهو السلام الاقتصادي الاقليمي وعلى رأسها التطبيع العربي الذي تمسك به بشدة إقليميًّا. وكان لمعارضته، أي محادثات السلام، نقطة فاصلة بتشكيل الخط السياسي لكل من يتبع أيديولوجيا صهيونية تؤيد الرؤية اليمينية الرافضة للسلام؛ فبعد أن كانت المرجعيات الدينية تابعة للأحزاب السياسية التي تمثل مصالحها المجتمعية دينيًّا فقد أصبحت منذ زمن قصير ذات أحزاب خاصة تمثل مرجعياتها وقوميتها بشكل علني وواضح في الكنيست.
يكمن السؤال اليوم، مع عودة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب وتكرار مصطلح (الحسم) في سياسته المتبعة عالميًّا وشرق أوسطيًّا، حول تحركات نتنياهو وحجم الإزاحة الأمريكية ما بعد ترتيب البيت الأبيض والكونغرس في العام القادم والتي ستكون مؤشرًا على نهاية الحرب أو بداية فترة جديدة في اللايقين الحالي تبعًا لرؤية السياسة الأمريكية الجديدة، ولطموحات نتنياهو ومشاريعه سواء في إسرائيل أو محيطها الإقليمي.