المشهد بعد الاغتيال: حزب الله.. الاستمرار أم التغيير الصعب!

تأسس حزب الله في لبنان كحزب عقائدي مقاوم بعد انشقاقه الكبير عن حركة أمل الأكثر مرونة والأقرب إلى الحركة الليبرالية غير الدينية. تولى حسن نصرالله قيادة الحزب عام 1992 بعد اغتيال أمينه العام آنذاك، عباس الموسوي، الذي اغتالته إسرائيل مع عائلته.

وضعت إيران جهدًا كبيرًا في تنمية قدرات الحزب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية كجزء من عقيدتها الأيدولوجية بعد الثورة الإيرانية عام 1979.  تبنى الحزب وبرعاية إيرانية مباشرة القضية الفلسطينية كهوية شرعية للحزب، حيث كسب عاطفة الفلسطيني الوطني المتدين والأقرب إلى الوسطية المحافظة، كم هدف إلى كسب أكبر عدد ممكن من المناصرين العرب، خاصة الطائفة السنية على وجه التحديد، لترسم حدود جديدة بين النظام الرسمي العربي ومواطنية باعتبار حزب الله الملهم الجديد للشباب العربي المسلم الذي يريد أن يرى فلسطين حرة من محتليها. 

وضع هذا الإطار في تشكيل حزب الله قادة الحزب وهياكله القيادية والعسكرية بموضع أقرب إلى القداسة السياسية والعقائدية التي تحصن الحزب وقيادته من الانتقاد أو تقيم الفعل، مما جعل الحزب عظيم المهابة في داخل لبنان وخارجه واحتل زعيمه الأسبق، حسن نصرالله، المكانة الخاصة في هذه البيئة، وأصبح ينظر إليه أنه المنقذ والمخلّص، وخاصة بعد دحر الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000.

جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ليشكل حالة رافدة لمن يدعي أنه الراعي للمقاومة الإسلامية القادرة على إعادة رسم المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وبرزت إيران كلاعب وحيد -على مستوى دول المنطقة- يتبنى المقاومة والرواية التي يرغب ويود الشارع العربي سماعها، حيث سعت إلى تثبيت دعائم سياساتها القائمة على توسيع النفوذ من خلال هذا الالتصاق وتبني محور المقاومة ضد العدو الصهيوني.

لم تنعكس تداعيات الربيع العربي إيجابيًّا على إيران وأذرعها في المنطقة بعد عام 2011؛ حيث تورط حزب الله إلى الجانب الإيراني والروسي في تصفية الثورة السورية والمساهمة في قتل وتهجير الشعب السوري مما أحدث شرخًا كبيرًا بين الحزب وقيادته وبين العدد الأكبر من البيئة الداعمة والتي كانت تعتبر الحزب ومهمته هي للتحرير ومشاركة الشعب الفلسطيني الخلاص من الاحتلال الجاثم على صدور الشعب الفلسطيني لسنوات طويلة. تحول الحزب وقيادته في هذه المرحلة إلى الدفاع عن النفس ومحاولة تعويض السقطة التاريخية والمتوقعة لدى كثير من المتابعين من خلال العودة إلى المربع الأول للتأسيس وإلى مصدر الشرعية القادر على تجنيد وتحشيد الدعم السياسي للحزب وقيادته.

أتى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في عام 2023 -والمستمر لغاية هذه اللحظة- كاختبار تاريخي لعقيدة المقاومة والحزب وقيادته في تنفيذ عقيدته العسكرية والسياسية والتي منحت الحزب الشرعية الوجودية لسنوات طويلة والانتصار لقطاع غزة تنفيذًا لما سمي في وقتها بوحدة الساحات. كشفت الحرب على قطاع غزة أن الراعي الرسمي للحزب غير معني بالمواجهة المباشرة مع إسرائيل لأن ذلك سيقود إلى فقدان إيران ورقتها الرئيسية عندما يتعلق الأمر بصراع النفوذ مع دولة الاحتلال. لذلك، حاول الحزب أن يبقى فقط مع حالة الاشتباك المرسومة بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي، لكن ما حققته إسرائيل في قطاع غزة زاد من ضغوط قوات الاحتلال على الحزب وقيادته في صورة لم يكن يريدها ومن خلفه إيران.

أجرى الساسة والعسكريون الإسرائيليون تحولات  في خطط العدوان في تجاوز الفكرة القائمة على عدم الاشتباك المباشر مع حزب الله إلى الذهاب إلى عمق المشكلة -كما يعتقد الإسرائيليون- وهي رسم سياسات واضحة وجديدة يتم من خلالها تحويل الحزب إلى منظومة غير قادرة على تهديد أمن “دولة” إسرائيل.

لذا، قامت -على إثر ذلك التحول- باستهداف البنى الأساسية للحزب من هياكل قيادية إلى البنية الداخلية للحزب لإضعافه، إذ كان لا بد من إنهاء حالة القلق الاستراتيجي التي عانت منه إسرائيل لسنوات طويلة والعودة لفكرة الردع القائمة على تحجيم الخطر إلى اقصى ما يمكن، حسب العقيدة الصهيونية.

بدأت الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة بالاستهدافات المتتالية من خروقات استخبارية وأمنية أفضت للوصول لأكبر عدد ممكن من أفراد الحزب وشبكة الاتصالات الخاصة به وانتهت بالقضاء على كتيبة الرضوان الأكثر تدريبًا والأكثر خبرة في قتال إسرائيل، ثم القضاء على قيادات الحزب السياسية ومعظم القيادات العسكرية مما أدخل الحزب ولبنان والمنطقة بحسابات وسيناريوهات عسكرية وسياسية يمكن إجمالها بالتالي:

  • يمكن أن يتأثر الحزب بغياب قادته المهمين، والاستهداف الأخير الذي تعرض له وتأثر البيئة الداخلية قد يدفعه إلى الاقتراب من مربع الدولة اللبنانية التي تخلى عنها لسنوات طويلة لحساب قوى إقليمية تسعى دائمًا لتحويل المكتسبات إلى فرص نفوذ.
  • لن تسمح إيران بغياب الحزب عن المشهد؛ لأن غيابه عن المشهد سيؤثر بشكل كبير على منظومة المقاومة المفترضة والتي تمكن إيران من تحقيق مصالحها وخاصة عند الحديث عن العلاقة التفاوضية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
  • ستتأثر بيئة الحزب بما جرى من عمليات قصف وتدمير مما يفتح الطريق أمام خيارات جديدة أمام الحزب منها أن يتحول الحزب لمعارضة داخلية بعيدًا عن حشر البيئة في زاوية أيدولوجية ومذهبية معينة.
  • ضعف الحزب وبالتالي ضعف البيئة الداخلية له سيساهم في تنشيط البيئة السياسية اللبنانية الداخلية الأخرى بحيث لم تعد نفس الهالة التي كانت تعيق بناء الدولة وتعيد التوازن داخل الدولة ومشاركة كافة القوى السياسية في إعادة الأمل لبناء لبنان على أسس جديدة.
  • كجزء من إعادة ترتيب الأوراق للحزب بعد اغتيال زعيمه وهيكل القيادة، قد يتم سحب قوات حزب الله من سوريا محاولة لترميم لحمة البيئة الخارجية التي فقدت بريقها في الأعوام الأخيرة وخاصة في البيئة العربية السنية.
  • الانسحاب التدريجي لإيران من الدعم الكامل للحزب وتبنيه كحركة إشغال للإسرائيليين مقابل أثمان سياسية تريدها إيران من الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بالرغم مما قد تسببه هذه الخطوة من انقسام داخل دوائر التفكير الإيراني.
  • يمكن أن تكتفي ايران بمشاغلة الحوثي لإسرائيل ومشاكستهم كبديل لحزب الله في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وتحقيق المصالح التي تسعى إليها وإن لم تكن بنفس مستوى أهمية حزب الله الاستراتيجية. 
  • المشهد الأهم هو سعي إسرائيل إلى غياب الحركات الأيدولوجية والعسكرية في كل من فلسطين ولبنان حيث إن هذا الغياب هو الهدف النهائي لعملياتها العسكرية التي لم تتوقف وامتازت بقوة تدميرية هائلة وسلوك جرمي لم تعهده الحروب الحديثة.
  • يمكن أن تستغل إسرائيل حالة الارتباك في الجنوب اللبناني وتدخل في معركة برية محدودة هدفها بناء منطقة عازلة.

زر الذهاب إلى الأعلى