اغتيال حسن نصر الله.. ماذا عن الرد الإيراني؟

لم يتوقع أي من الخبراء والباحثين -بشكل عام- أن يُفضي التصعيد الأخير ضد حزب الله في لبنان إلى اغتيال أمينه العام، حسن نصر الله؛ إذ تحظى هذه الشخصية بثقل ورمزية ونفوذ تجعل التوقعات دائمًا تنصب في اتجاه أنه يقطن في مكان آمن ومحصّن أو أن إسرائيل لن تقدم في تصعيدها إلى درجة ان تتخذ قرارًا باستهدافه واغتياله.

استند رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالإضافة لإعادة المستوطنين إلى الشمال، إلى معادلة يجد فيها ما يبرر توسع العمليات العسكرية، وهي أن تل أبيب لن تنتظر أن يداهمها الخطر حتى تقوم بردعه. هذه المعادلة جعلت إسرائيل تكثف من استهداف الأراضي اللبنانية وضرب القيادات العسكرية البارزة في حزب الله، حتى وصل الأمر أخيرًا إلى أمينها العام.

لا يمكن بأي حال من الأحوال، إلا اعتبار الحدث مفصليًّا في المنطقة، وعدّه مستوى تصعيد غير مسبوق وصلت إليه الحرب على غزة وتداعياتها الإقليمية مع حلول عامها الأول. بل إن حادثة بحجم اغتيال نصر الله تعد الأبرز والأهم سياسيًّا في المنطقة والأفظع بالنسبة لإيران، فلأول مرة تقع حادثة اغتيال تفوق حجم خسارتها اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في محيط مطار بغداد يناير/كانون الثاني 2020؛ إذ يعد نصر الله الزعيم الديني السياسي الثاني بعد المرشد الأعلى علي خامنئي بالنسبة لإيران ووكلائها وحلفائها وأنصارها في المنطقة.

وبالتالي، فقد وجدت إيران في نصر الله الذي تولى قيادة الحزب عام 1992 الرجل الأمثل لتوسيع وقيادة نفوذها في المنطقة، وتنظيمه الذي استطاع بقيادته أن يكون الأقوى والأكثر أهمية في مواجهة إسرائيل، وهو مرتبط أيضًا -نصر الله- باستحقاقات الحزب ومعاركه ضدها، مما يعني أن حادثة الاغتيال تمثل ضربة موجعة للحزب وكوادره ولإيران وللحرس الثوري الذي كان ينسق مع نصر الله وقياداته العسكرية مثل علي الكركي وغيره من القيادات، وللعناصر المرتبطة بـ “محور المقاومة”؛ فالقدرة على استهداف حزب الله وأمينه العام وتقليص قدراته يعني أن مهمة إسرائيل في تقويض أو تحييد الجماعات الأخرى المرتبطة بالمحور وشبكة النفوذ الإيرانية قد تبدو أكثر سهولة.   

لا تقتصر الخسارة الإيرانية على شخص حسن نصر الله، بل أيضًا على الدور الذي كان يلعبه هو والحزب سواءً في لبنان أو في المنطقة، إذ تولى الحزب في سوريا وبعد اغتيال الجنرال سليماني، تحديدًا، مهمات أوسع بعد أن عجزت إيران عن تعويض سليماني بإسماعيل قاآني الذي بدا عاجزًا في كثير من الأحيان عن إدارة المشهد الإقليمي بطريقة مماثلة لسابقه؛ فالحزب هو بمثابة المشرف على النفوذ، ومن يقوم بتدريب وإنشاء الوكلاء، ودعمهم اقتصاديًّا عبر خطوط تهريب البضائع الممنوعة.   

يمكن القول، إن السياسة الإيرانية إزاء الحرب على غزة، لا يمكن عدها ضمن معادلة “الصبر الاستراتيجي” بقدر ما هي محاولة لتجنب الوقوع في مزيد من الخسائر؛ إذ ذهبت منذ البداية التصورات والتحليلات إلى أن ظرف إيران المحلي والإقليمي والدولي يجعلها تسعى جاهدة لتجنب الانزلاق نحو المواجهة المفتوحة بعد حالة الاستنزاف التي مورست عليها خاصة من خلال العقوبات الاقتصادية والهجمات العسكرية التي استهدفت العديد من قياداتها، الأمر الذي جعلها تدفع بالوكلاء وتناور في مستوى أدوارهم بين الفينة والأخرى، وتجنب تكرار الرد كما حدث في عملية “الوعد الصادق” في إبريل/نيسان 2024، في ظل محاولة نتنياهو استثمار أي حدث أمني أو عسكري لتوسيع رقعة الحرب ووضع إيران والولايات المتحدة في المواجهة، وهو ما قد يفسر عدم الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في 31 يوليو/تموز 2024، رغم توقع الكثيرين من إيران حتمية الرد وهجومًا واسع النطاق.   

تبقى الأسئلة الأكثر طرحًا في هذه اللحظات بعد اغتيال حسن نصر الله واستمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان وجنوبها تحديدًا والتلويح بغزو بري إلى جانب احتمالية أن تتوسع إسرائيل في استهداف الوكلاء في المنطقة، ما هي حدود الرد الإيراني والخيارات المتاحة؟

منذ بداية الحرب على غزة وإيران تُظهر قدرًا عاليًا من ضبط النفس وحذرًا لا متناهٍ من الوصول إلى مواجهة عسكرية إقليمية مفتوحة، لكن اغتيال حسن نصر الله اليوم يفتح الباب على مصراعيه أمام كافة الاحتمالات والسيناريوهات، فمن المنطقي القول، إن إيران ستبدي ردة فعل على ما حدث ولن تتقاعس عن القيام بذلك، خاصة وأنها تعلم بأن إضعاف حليف لها لطالما استثمرت فيه لعقود ويقع في موقع جيوسياسي يعني إضعاف مشروعها الإقليمي ورمزية المحور الذي تقوده ورؤيتها الاستراتيجية، لكن في المقابل فإن الحكومة الجديدة التي يقودها كل من الرئيس مسعود بزشكيان ووزير خارجيته عباس عراقجي تسعى اليوم إلى إعادة تفعيل مسار التفاوض حول الملف النووي والذي يعد ملفًا ضمن المشروع الاستراتيجي أيضًا بالنسبة لإيران والانخراط في الحرب أو زيادة التوتر في المنطقة حتمًا سيعرقل تلك المباحثات، إلا أن المأزق بالنسبة لإيران يكمن فيما لو استثمرت إسرائيل في ردود طهران الخجولة للإيغال مزيدًا بقوى المحور بل وقد تنفذ عمليات داخل العمق الإيراني لدفعها باتجاه ساحة الصراع وإفشال أي مساعٍ إيرانية لإعادة إحياء الملف النووي. وبالتالي قد تجد إيران اليوم نفسها أمام مجموعة من الخيارات:    

الأول، التصعيد عبر وكلائها في المنطقة: ويقوم هذا الخيار على أن تصعّد إيران عبر وكلائها وتكثف استهداف إسرائيل بشكل مباشر، أو استهداف إسرائيل والمصالح الأمريكية في آن معًا لزيادة الضغط باتجاه لجم التصعيد الإسرائيلي، وقد يكون الخيار الأرجح بالنسبة لإيران في حال استمرار التصعيد الإسرائيلي على لبنان ومواقع الوكلاء في الدول الأخرى. 

الثاني، الاستمرار بعدم الانخراط والإبقاء على السياسة الحذرة: ويأتي هذا الخيار من منطلق منع تفاقم أزمة العقوبات المفروضة على إيران في ظل حالة الانهاك الاقتصادي، وتجنب الإضرار مزيدًا بمصالحها في حال المخاطرة، وعدم منح نتنياهو الفرصة التي ينتظرها. كما أن إيران تسعى، منذ أن جاءت حكومتها الجديد، إلى فتح قنوات المحادثات مع الغرب، وقناعتها اليوم -على ما يبدو- تنصب في أن المسار الذي يحقق مصالح إيران في هذه المرحلة هو مسار التفاوض، وأي تصعيد مباشر مع إسرائيل سيدفعها نحو سيناريوهات حاولت تجنبها منذ سنوات إلى الحرب على غزة.   

الثالث، شن ضربة على إسرائيل بشكل مباشر: يعتمد هذا الخيار على تطور السلوك الإسرائيلي بشكل رئيسي خاصة إذا ما عمدت الأخيرة استهداف العمق الإيراني، مما يجعل إيران مضطرة للرد لكن هذه المرة بمستوى أعلى من الرد الذي قامت به في إبريل/نيسان العام الجاري، وهو ما تحاول إيران تجنبه بشكل مستمر. 

ختامًا، كسرت إسرائيل عبر سلسلة الاغتيالات والضربات التي شنتها على كتائب حزب الله اللبناني الكثير من المعادلات التقليدية أو حتى التصورات التي ظهرت بعد واقعة “السابع من أكتوبر”؛ إذ استطاعت إسرائيل -مبدئيًا- إضعاف التوقعات بما يتعلق بالدور المستقبلي على مستوى الأمن الإقليمي لفواعل ما دون الدولة – Non State الذي يعبّر عنه بالدرجة الأولى كتائب حزب الله والذي بدا ينهار سريعًا في غضون 10 أيام على مستوى القيادات وبعض المواقع المهمة عسكريًّا.

كما أن حادثة اغتيال حسن نصر الله وضعت إيران ومشروعها وقيمته الحقيقية والرمزية في مأزق حقيقي، ستجعلها تشعر بآثاره لسنوات وقد تحتاج إلى مدة طويلة لإعادة بناء معادلة ردع جديدة وفقًا لمعادلة الجيوبوليتك التي تتحكم بها. إلى جانب أن حادثة الاغتيال قد تفتح الباب على مصراعيه في أي لحظة أمام واقع لطالما حاولت إيران أن تتجنبه. 

زر الذهاب إلى الأعلى