التحول الاستراتيجي في البحر الأحمر

استراتيجيات الحوثيين، الحرب على غزة وعملية حارس الازدهار

نُشر هذا المقال في العدد الأول من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع (JPS) والذي جاء ملفه تحت عنوان “التداعيات الإقليمية للحرب على غزة”.

لتحميل المجلة أنقر على الصورة أدناه

المقدمة

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة عقب السابع من أكتوبر؛ شهد إقليم الشرق الأوسط حالة من الغموض الاستراتيجي، حيث توجهت الأنظار صوب إيران وحلفائها ووكلائها في كلٍ من؛ العراق، ولبنان، واليمن، الذين يشكلون ما يُعرف بـ “محور المقاومة”، بعد أن قدمت الحرب على غزة اختبارًا حقيقيًا لاستراتيجية روّج لها سابقًا محور المقاومة تحمل اسم “وحدة الساحات”، والتي تهدف إلى تصعيد الجبهات بشكل موحد، كوسيلة ردع ضد الولايات المتحدة وإسرائيل عند حدوث أي صراع موَّسع.

وبينما كانت التوقعات تشير إلى احتمالية التصعيد الإقليمي واسع النطاق، واندلاع مواجهات في مختلف جبهات “محور المقاومة” في وقت متزامن لدعم حماس في غزة؛ انحصرت معظم هذه الجبهات ضمن إطار المواجهات المحدودة، في حين ظهرت جبهة أكثر تأثيرًا في مجريات الصراع الإقليمي على سواحل اليمن، حيث جماعة أنصار الله أو ما تُعرف بـ(الحوثيين)، والتي اعتمدت استراتيجية التصعيد التدريجي وزادت من حدتها عبر موجات من التصعيد العسكري، وبرز منها تهديد بمنع للسفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل عبر مضيق باب المندب، وهو الممر الرئيسي لخطوط الملاحة المتجهة لإسرائيل من الصين والشرق عمومًا.

     في المقابل؛ ردت الولايات المتحدة الأميركية بتشكيل عملية عسكرية مشتركة حملت اسم “حارس الازدهار” لمواجهة التصعيد في البحر الأحمر، وفي الوقت الذي يُصوّر به الحوثيين انخراطهم في الصراع الإقليمي على أنه مناصرة للفلسطينيين بعد الحرب على غزة؛ تُصدِر الولايات المتحدة سرديتها عن حماية خطوط وممرات الملاحة البحرية، مما يعكس تضاربًا في السرديات بين الطرفين، ففي حين تُبرر الرواية الحوثية الهجمات على السفن الإسرائيلية والمتجهة لإسرائيل كخطوة مُقابلة لاستهداف إسرائيل للمدنيين في غزة؛ تُصور الولايات المتحدة عمليات الحوثيين بأنها تهديد لأمن خطوط التجارة والملاحة العالمية.

يهدف هذا التحليل إلى تقييم التصعيد في جبهة البحر الأحمر في ضوء تداعيات استمرار الحرب على غزة والتحولات الإقليمية المرافقة لها، كما يسعى لفهم دوافع وأهداف الحوثيين من الانخراط في الصراع الإقليمي، وتقييم الاستجابة الأميركية من خلال العملية العسكرية “حارس الازدهار”، وتحليل التداعيات الإقليمية لهذا التصعيد العسكري المستمر في البحر الأحمر.

التصعيد التدريجي وتوازن التهديد

بعد أيام من اندلاع الحرب على غزة عقب أحداث “السابع من أكتوبر”، أعلن عبد الملك الحوثي في 11 أكتوبر/تشرين الأول أن الحوثيين يُنسقون من حلفائهم في محور المقاومة، تبع ذلك بأربعة أيام تصعيد واشتباكات في جبهة حزب الله في الجنوب اللبناني، إلا أن جبهة حزب الله بقيت منضبطة إلى حد كبير ضمن قواعد الاشتباك المحدودة، مقابل انخراط الحوثيين في الصراع الإقليمي بشكل أوسع.

ومع تطور الأحداث تصاعدًا، شَن الحوثيون هجمات بهدف تعطيل الملاحة الدولية المتجهة نحو الموانئ الإسرائيلية، خاصة عبر خطوط الملاحة التجارية الممتدة على ساحل عدن والبحر الأحمر، حيث يشغل الساحل اليمني البحري مسافة تقريبية تصل إلى 2500 كيلومتر، ويُعد مضيق باب المندب نقطة جيوسياسية محورية في حركة الملاحة في البحر الأحمر، وقد مثّل استهداف الحوثيين نقطة تحول في التصعيد الذي حدث في 17 نوفمبر/تشرين ثاني 2023، حيث بدأت الجماعة بتوجيه هجماتها نحو السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل، سواء من حيث الملكية أو الوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.

     تبع ذلك توسيع نطاق ومدى الاستهداف الحوثي ليشمل بالإضافة للسفن العابرة لمضيق باب المندب؛ نحو السفن المتجهة جنوبًا إلى رأس الرجاء الصالح، عبر بحر العرب، وحتى اليوم، يُعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن استهداف أكثر من 120 سفينة[1] إسرائيلية أو متجهة لإسرائيل، وهو ما يهدد الاقتصاد الإسرائيلي بشكل أو بآخر، خاصة أن الحرب تستمر على غزة لأكثر من 230 يوم، وهي حالة غير مشهودة سابقًا في طول أمد الصراعات مع إسرائيل.

     في ضوء ما سبق؛ تكشف استراتيجية الحوثيين عن نمط جديد في استراتيجية “محور المقاومة” إقليميًا، ففي الوقت الذي يتعذر فيه إيجاد توازن قوى (Balance of Power) حقيقي بين إيران وحلفائها من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، تظهر صيغة جديدة تتمثل في فكرة توازن التهديد (Balance of Threats) عمليًا، حيث تُفضي حالة الضغط على خطوط الملاحة والتجارة البحرية لإسرائيل في البحر الأحمر، إلى تشكيل تهديد اقتصادي يمارسه الحوثيون على إسرائيل نتيجة لاستمرار الحرب على غزة، ويُنتج ذلك الكشف عن خاصرة رخوة لإسرائيل اقتصاديًا، مما يعيد إنتاج معادلة جديدة، قد تتوازن بها التهديدات لا القوى بين الأطراف، وهي ما ترتبط بنمط الحروب غير المتكافئة بين الجيوش العسكرية والجماعات المسلحة، حيث يستخدم الحوثيون الطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية بهدف خلق تكاليف وعواقب اقتصادية وسياسية -محليًا- بدرجة مهمة على إسرائيل، وبالتالي ممارسة ضغوط غير مباشرة منبعها تهديد نقاط الضعف في المجالات الاقتصادية بشكل خاص على إسرائيل.

ويضاف لذلك تشكُل درجة من مصداقية التهديد التي يمارسها الحوثيون عمليًا باستهداف السفن، مما يزيد من فعالية حالة الردع القائمة في البحر الأحمر، خاصة في ضوء التكنولوجيا الإيرانية التي يستخدمها الحوثيون، وهو ما يعزز قدرات الحوثيين الجوية خاصة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، ويتجلى ذلك بشكل خاص في موجات التصعيد الأربع التي أعلن عن آخرها عبد الملك الحوثي في 9 مايو/أيار 2024، والتي توضح مدى تطور قدرات الحوثيين وتحقيق درجة مهمة من مصداقية التهديد، وهي ما تؤدي في نهاية المطاف لإيجاد نوع من تعويض فارق القوة العسكرية الضخمة ما بين إيران وحلفائها وإسرائيل والولايات المتحدة، وكسب نفوذ إقليمي أكبر لـ”محور المقاومة” على المدى استراتيجي، أو حتى في مسار المفاوضات اللاحقة.

أما سياسيًا، فيمكن تفسير سياسة الحوثيين الجديدة بشكل أو بآخر ضمن ما يُعرف بـ “تكتيك الرجل المجنون”[2]، فمن الناحية النظرية يعزز الجنون المُتصور بمصداقية الفعل بعد التهديد التي يُصرح بها قادة الحوثيين، كما يُفسِر التصعيد التدريجي للحوثيين الهادف للتأكيد على موقفهم لربط جبهة البحر الأحمر بغزة بهذه السياسة عمليًا، كما يهدف هذا التحول لخلق ديناميكية سياسية جديدة لصالح الحوثيين في أي مفاوضات مستقبلية، وهو ما قد يؤدي لمطالب حوثية جديدة في سياق مفاوضات إنهاء الصراع الجامد في اليمن، مما سيرفع مكتسباتهم السياسية بطبيعة الحال.

تحليل دوافع وأهداف الحوثيين

يطرح تصعيد الحوثيين التدريجي في النزاع، والذي يختلف عن باقي جبهات “محور المقاومة”، تساؤلات جوهرية بشأن الدوافع والمحفزات التي دفعت الجماعة لاعتماد هذه الاستراتيجية، وبينما تتعدد الدوافع، تُبرر السردية الرسمية للحوثيين لهذا الصراع وفقًا لعقيدتهم الأيديولوجية المناهضة لإسرائيل، يشير الواقع العملي إلى عدة أهداف سياسية محلية وإقليمية تدفع الحوثيين للانخراط في مشهد الصراع إقليميًا، وفيما يلي أبرز الدوافع التي ساهمت في تشكيل حافز للانخراط في الصراع، لعل من أبرزها:

1- تعزيز الشرعية محليًا والتأثير الإقليمي: تهدف أعمال الحوثيين في البحر الأحمر لربط هذه الجبهة بمسار الأحداث في قطاع غزة، ويمكن تتبع ذلك في السياسة المحلية اليمنية بهدف تعزيز الدعم والتأييد في الشارع اليمني لمشروعية سيطرة الحوثيين على أجزاء من اليمن بحكم الأمر الواقع، من خلال تكييف أفعالهم الخارجية مع القضية الفلسطينية، والتي -بطبيعة الحال- تحظى بتأييد واسع النطاق داخل اليمن، مما يوفر للحوثين فرصة تعزيز موقفهم داخل اليمن، وخارجه كذلك.

2- صرف الرأي العام المحلي عن التحديات الداخلية: يوفر انخراط الحوثيين بالصراع الإقليمي فرصة لتحويل الاهتمام في الداخل والمراقبين الخارجيين للأوضاع في اليمن، عن القضايا الهامة التي تواجه مناطق سيطرة الحوثيين في شمال وشمال غرب اليمن، ومن أهمها: المصاعب الاقتصادية، أوجه القصور في الحكم والإدارة العامة، الفقر وتردي أو غياب الخدمات العامة، ومن المحتمل أن يُضعِف الحوثيون قبضتهم العسكرية في مناطق سيطرتهم في ضوء العمليات العسكرية التي تَشنها الولايات المتحدة عبر عملية “حارس الازدهار” العسكرية، وهو ما قد يعزز من شعبية الحوثيين بين صفوف الشعب اليمني المؤيد والمتضامن مع القضية الفلسطينية، وخاصة في ضوء الحرب على غزة ومشاهد الدمار والضحايا هناك، ويهدف الحوثيون على المدى البعيد لتنصيب أنفسهم كحكام شرعيين لكامل اليمن[3].

3- تعزيز مكانة الحوثيين داخل محور المقاومة: يؤدي استهداف الحوثيين للسفن الإسرائيلية لرفع مكانتهم بين بقية أطراف “محور المقاومة”، مما يُكسبِهم اعترافًا ودعمًا أكبر من الحلفاء في هذا المحور، وتُبرز هذه المكانة تجاوزًا للخلافات الطائفية والمذهبية بين أطراف المحور، مع إمكانية تصوير الحوثيين لأنفسهم على أنهم يقاومون إسرائيل والولايات المتحدة على الرغم من كل الخلافات الدينية خاصة أنهم ليسوا من الطائفة الإثنا عشرية الشيعية والتي تمثل التشيع بمعناه المعاصر، وهو ما قد يضفي مزيدًا من المكانة للحوثيين داخل المحور.

4- التأكيد على المشاعر المعادية لإسرائيل والغرب: يهدف الحوثيون لوضع أنفسهم كمعارضين حقيقيين لإسرائيل والمصالح الغربية وخاصة الولايات المتحدة في المنطقة، ويحظى مثل هذا الموقف باستقبال جيد في الشارع اليمني وفي بعض الشوارع العربية كذلك، لا سيما أن الدعم الغربي الثابت ومنقطع النظير لإسرائيل خلال الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر؛ أصبح أكثر إثارة للجدل في ضوء تدهور الواقع الإنساني في غزة.

5- رفع الحرج عن محدودية تدخل باقي أطراف المحور: يسعى الحوثيون لرفع الحرج عن بقية أطراف “محور المقاومة”، التي اعتمدت التصعيد المحدود منذ السابع من أكتوبر، نظرًا لعدم انخراطها بشكل كامل في الصراع وفقًا لمبدأ “وحدة الساحات”، فقد خلق هذا الوضع حالة من عدم الرضا والتشكيك في مصداقية الجبهات التي كان يُفترض أن تدعم حماس والفصائل الفلسطينية في غزة، وهو ما يمكن أن يفسر جزءًا من دوافع الحوثيين للانخراط في الصراع.

الرد الأميركي وعملية “حارس الازدهار”

استجابت الولايات المتحدة والدول الغربية بطريقة عسكرية لاستهداف الحوثيين للسفن الإسرائيلية، وانتهجت سياسة فصل المسارات في مقابل ربط الحوثيين للتصعيد بالحرب بغزة، وأعلنت عن تشكيل عملية عسكرية بحرية دولية[4] بتاريخ 18ديسمبر/كانون أول 2023، وضمت 14 دولة من أبرزها: (الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، إيطاليا، النرويج، هولندا، كندا، الدنمارك، اليونان، والبحرين، وفرنسا، وإيطاليا، وسنغافورة، وسيرلانكا، وجزر سيشيل)، وبقيادة فرقة العمل المشتركة (CTF-150) ومقرها البحرين، كما قامت الولايات المتحدة بإعادة تصنيف الحوثيين ضمن قوائم الإرهاب الأميركية بتاريخ 17 يناير/كانون ثاني[5]2024، في خطوة قد تُفسَر على أنها تهدف لإضفاء المزيد من الشرعية على أنشتطها العسكرية بشكل رئيسي.

ومن اللافت أن أبرز الغائبين عن هذا الائتلاف العسكري هي القوى الرئيسية في البحر الأحمر، وخاصة المملكة العربية السعودية، ومصر، ويمكن تحليل غياب السعودية عن هذه الائتلاف على أنه سلوك سياسي واقعي يسعى للنأي بالنفس عن تبعات التصعيد الإقليمي، خاصة في ضوء الطموحات السعودية لتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والتحديث المحلي، والتي أفضت لخفض درجة تدخلها في الصراع اليمني، والدخول في محادثات تسوية مع الأطراف اليمنية كوسيط أو طرف خارجي على الأقل. أما مصر، فجملة من انكفائها عن الانخراط في عملية “حارس الازدهار” يُعزى لاشتباكها السياسي والدبلوماسي والأمني في غزة كأولوية، خاصة في ضوء الاحتقان الشعبي في الشارع المصري تضامنًا مع غزة، ومع تباين الأسباب في غياب هاتين القوتين عن الائتلاف العسكري الرامي للتصدي للحوثيين، إلا أن النتيجة واحدة ويمكن اختزالها في؛ انخفاض فاعلية وتأثير “حارس الازدهار” في البحر الأحمر.

وعلى الرغم من ذلك، ففي 4 يناير/كانون ثاني 2024، أشار مجلس الأمن أن هجمات الحوثيين قد عطلت 15% من الشحن العالمي في البحر الأحمر وفقًا لتقرير الأمين العام للمنظمة البحرية الدولية (IMO)، وفي وقت لاحق، اعتمد مجلس الأمن القرار رقم (2722) في 10 كانون الثاني/يناير 2024[6]، والذي يدين هجمات الحوثيين على السفن المتجهة لإسرائيل، ويدعو القرار لضرورة وقفها و”معالجة أسبابها الجذرية”، وقد تبع ذلك سلسلة من الضربات الجوية ضد الحوثيين يفوق عددها 73 غارة[7]، في حين صوّرها الحوثيون على أنها عدوان على الأراضي اليمنية غير مبرر بهدف دعم إسرائيل.

في حين يشير الواقع الحالي أن الائتلاف العسكري “حارس الازدهار” لا يزال يفتقر لاستراتيجية شاملة تعالج الأزمة في اليمن[8]، خاصة في ضوء استهداف الحوثيين للسفن والقطع العسكرية البحرية الأميركية والبريطانية عبر الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، وهو ما يتطلب تأمين دفاعات لهذه القطع قبل تأمين السفن التجارية، وهكذا، فإن المشهد الحالي يؤكد على حالة عدم اليقين والغموض حول قدرة الائتلاف العسكري “حارس الازدهار” على تحقيق أهدافه المعلنة.

تداعيات التصعيد في البحر الأحمر على الشرق الأوسط

تؤدي استراتيجية الحوثيين بالتصعيد المتدرج وربط مساره بالحرب في غزة، وتشكيل عملية “حارس الازدهار” بقيادة أميركية؛ لجملة من التداعيات على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط بشكل عام، وفيما يلي أبرز هذه التداعيات:

1- عدم إمكانية الفصل بين مسار الأحداث في البحر الأحمر والحرب على غزة: فمنذ بدء التصعيد الحوثي، سعت الولايات المتحدة لفصل التصعيد في البحر الأحمر عن الحرب في غزة، في محاولة لإدارة الملفين بشكل منفصل، وهو ما يعكس تجاهلًا في التعامل مع المطالب الحوثية وفقًا لسرديتهم حول التصعيد والمتعلقة بغزة، وتطالب بإنهاء الحرب وإدخال المساعدات كمقابل لوقف الهجمات على الملاحة البحرية المتجهة لإسرائيل.

2- تبني الحوثيين لاستراتيجيات جديدة: حيث يعتبر تهديد خطوط الملاحة البحرية التي أفضت لتوتر اقتصادي في إسرائيل؛ استراتيجية غير مسبوقة ناجمة عن التصعيد العسكري الحوثي، كما أنه يعكس ازديادًا في نفوذ الحوثيين إقليميًا، وتعتبر استراتيجية توازن التهديد (Balance of Threats) حالة جديدة في صورة الصراع الأكبر بين “محور المقاومة” وإسرائيل وحلفائها، وسياسيًا؛ فإن انتهاج سياسة “الرجل المجنون” (Madman Tactic) يعزز من تصوير قيادة الحوثيين كفاعلين غير عقلانيين سياسيًا، مما ينعكس أيضًا على مصداقية تنفيذ التهديدات التي يُصرح بها قيادات الحوثيين، ويهدف التصعيد التدريجي كذلك إلى التأكيد على الموقف الرامي لربط جبهة البحر الأحمر بمسار الأحداث في غزة، وهو ما ينتج في نهاية المطاف ديناميكيات جديدة قد تُفضي للمزيد من المطالب الحوثية في أي مفاوضات لاحقة، خاصة في سياق الصراع اليمني، وهو ما قد ينعكس على تعظيم مكاسب الحوثيين عمومًا.

3- تعزيز شرعية الحوثيين محليًا في اليمن: كسلطة أمر واقع في اليمن؛ يرفع دخول الحوثيين في الصراع الإقليمي وفقًا لسردية مساندة غزة من قبولهم الشعبي المحلي والإقليمي. حيث تضفي الأعمال العسكرية واستهداف المصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر، إلى زيادة بريق الأيديولوجيا المعادية للصهيونية والغرب عمومًا، خاصة في ضوء تردي الواقع الإنساني في غزة، والذي يُفضي لمزيد من الاستنكار الشعبي.

4- رفع كلفة الصراع في غزة: حيث يؤدي التصعيد في البحر الأحمر لرفع التكاليف السياسية والاقتصادية على كل من إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة إذا طال الصراع دون حل أو تسوية أو هدنة في غزة، وتحديدًا إذا فشل “حارس الازدهار” في تحقيق أهدافه.

5- التحول من مفهوم “وحدة الجبهات” إلى “الجبهات المساندة” في محور المقاومة: حيث يكشف المشهد الإقليمي الحالي عن تحول في استراتيجية التدخل الجماعي والتضامن بين أطراف “محور المقاومة”، خاصة عند الحديث عن الانتقال لمساندة حماس والفصائل الفلسطينية في جبهة غزة، عِوضًا عن التدخل الكلي في الصراع وفقًا لمفهوم “وحدة الساحات”.

6- تنامي النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط: يعزز الدور الحوثي الأخير والمهم في البحر الأحمر من مساحة تأثير إيران ونفوذها في المنطقة، ويظهر ذلك في التكنولوجيا العسكرية التي وفرتها إيران للحوثيين، وفي تصور إمكانية التفاهم السياسي مع إيران لممارسة ضغوط على الحوثيين لإيقاف عملياتهم في البحر الأحمر، وهو ما يعكس في جملته تناميًا وتصاعدًا للنفوذ الإيراني في المشهد الجيوسياسي الشرق أوسطي.

مستقبل التصعيد في البحر الأحمر

يشوب الغموض مستقبل التصعيد في البحر الأحمر تبعًا لما تقدم، وتبقى إمكانية تصور مستقبل هذه الحالة الصراعية في غاية التعقيد، إلا أن عدة مسارات قد يُتصور أن يسلكها المشهد الحالي في البحر الأحمر، وعلى النحو التالي:

أولًا، سيناريو وقف العمليات من جانب واحد

نظرًا لصعوبة حسم المواجهة كليًا مع الحوثيين، وصعوبة تحقيق عملية “حارس الازدهار” لأهدافها الرئيسية في تأمين خطوط الملاحة والتجارة بشكل كامل، وبالنظر إلى تبني الحوثيين لسردية تربط تصعيدهم وعملياتهم بمسار الحرب في غزة؛ فإن مسار وقف العمليات من جانبٍ واحد يُعتبر راجحًا، خاصة إذا نجحت المفاوضات في التوصل لوقف إطلاق نار في غزة، فقد يؤدي ذلك إلى وقف استهداف السفن الإسرائيلية من قبل الحوثيين، مما سيحقق مكاسب سياسية لهم، ويعزز من شرعيتهم ويمنحهم دورًا أكبر في المنطقة، إضافة إلى تعزيز مصداقية سرديتهم في التضامن مع غزة، التي تزيد من حصولهم على دعم بين أوساط الشعب اليمني.

     كما من المحتمل أن تسلك المواجهة مسار تجميد العمليات العسكرية لعملية “حارس الازدهار” من طرف واحد، وهو ما يعني عدم قدرة الائتلاف على تحييد هجمات الحوثيين ومنعهم من استهداف السفن، مما قد يؤدي إلى نصر مضاعف للحوثيين حينها، كما أن استمرار التوتر في البحر الأحمر سيُعقد من جهود تأمين الملاحة وقد يؤدي إلى تحولات في موازين القوى في الشرق الأوسط على المدى الطويل، مما يستدعي التفاوض على تسوية شاملة للحرب في غزة، وهو ما سيفضي لضمان استقرار البحر الأحمر بالضرورة، خاصة أن السردية الحوثية تُصر على ربط مسار التصعيد بالحرب في غزة، إلا أن المعضلة التي ستتبع هذا السيناريو هي المكاسب غير المسبوقة للحوثيين، والتي قد تكتسب بعدًا اقليميًا يتجاوز حدود الصراع الجامد في اليمن.

المؤشرات الرئيسية:

1- مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة: إذا ما نجحت المفاوضات الدبلوماسية الجارية من التوصل لوقف إطلاق نار في غزة، سيؤدي ذلك إلى وقف هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية أو المتجهة لإسرائيل، وهو ما يضع الادعاء الحوثي بربط الجبهات موضع اختبار حال توقف الحرب في غزة.

2- بحث الحوثيين عن مكاسب سياسية: إن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار أو وقف العمليات العسكرية من جانب واحد في البحر الأحمر، سيعزز من شرعية الحوثيين محليًا ونفوذهم إقليميًا، وبالتالي فإن مؤشر سعي الحوثيين لتحقيق أهداف سياسية يُدِعم تحقق مثل هذا السيناريو، والذي سيعني صورة انتصار للحوثيين بطبيعة الحال.

3- إعادة تقييم أهداف “حارس الازدهار”: قد يؤدي إعادة تقييم الائتلاف العسكري لأهدافه العسكرية لخفض وتيرة الغارات والضربات الجوية ضد الحوثيين في اليمن تدريجيًا، مما سيعزز فرص توقف العمليات في البحر الأحمر من جانب واحد.

ثانيًا، سيناريو الجمود والصراع منخفض الحدة

وثمة مسار آخر محتمل لمستقبل التصعيد الجاري في البحر الأحمر، حيث يتصور أن يؤدي إطالة أمد حالة الجمود في المواجهات مع الحوثيين؛ إلى انخفاض في حِدة النزاع بين الحوثيين وائتلاف “حارس الازدهار”، وفي هذا السيناريو، لا يحقق الحوثيون ولا الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة انتصارا حاسمًا، مما قد يبقي المناوشات مستمرة ولكن بشكل متقطع، وهو ما قد يعني عمليًا اخفاق “حارس الازدهار” في تحقيق الأهداف الرئيسية.

المؤشرات الرئيسية:

1- التقطع في هجمات الحوثيين: حيث يُتصور انخفاض وتيرة هجمات الحوثيين على السفن التجارية المتجهة لإسرائيل، وعلى القطع العسكرية لـ”حارس الازدهار”، مما قد يُبقي درجة منخفضة من الضغط الاقتصادي على إسرائيل، والأمني على “حارس الازدهار”، ولكن بصورة متقطعة، ودون التصعيد للوصول إلى مرحلة المواجهة المفتوحة. 

2- عمليات الائتلاف الدفاعية: يركز “حارس الازدهار” الذي تقوده الولايات المتحدة على التدابير الدفاعية، مثل مرافقة السفن التجارية وتعزيز المراقبة البحرية لحماية طرق الشحن، وهو ما قد يخفض من وتيرة وحدة الصراع ولكن بكلف مادية أعلى بطبيعة الحال.

3- الجمود الدبلوماسي: قد يؤدي الجمود في المفاوضات المستمرة لبحث وقف إطلاق النار في غزة؛ إلى حالة من الجمود العسكري في جبهة البحر الأحمر، لا سيما إذا وصلت الأطراف لمرحلة الإرهاق (Fatigue)، ولكن دون التوصل لتسوية، أو حسم للعمليات العسكرية في البحر الأحمر.

ثالثًا، سيناريو التدخل العسكري المباشر

يتصور هذا السيناريو تشاؤمًا؛ استخدام التوافق الحاصل في مجلس الأمن حول ضرورة خفض التصعيد في البحر الأحمر، كذريعة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها للتدخل المباشر ضد الحوثيين في اليمن، بحجة استعادة الاستقرار الإقليمي وحماية خطوط الملاحة الدولية، هذا القرار قد يتم تصوريه كمستند قانوني للتدخل العسكري المباشر، ويشمل ذلك عمليات بحرية وجوية لتحييد قدرات الحوثيين على تهديد الشحن البحري مستقبلًا، ويؤيد ذلك قرار مجلس الأمن 2722 المُقر في 10يناير/كانون ثاني 2024، والذي يعد تطوراً هاماً في الاستجابة الدولية للتصعيد الحاصل في البحر الأحمر، حيث يتطرق القرار مباشرةً لهجمات الحوثيين ضد السفن التجارية بشكل رئيسي، وعدم التعاطي مع سردية الحوثيين حول ربط مسار التصعيد بغزة، كما أنه تضمن إدانة مباشرة للحوثيين، مع  دعوة القرار لضرورة وقفها و”معالجة أسباب الأزمة الجذرية”.

     وبالرغم من إمكانية إيجاد مبررات لتدخل عسكري مباشر في اليمن، إلا أن وجود عوائق كبيرة تقلل من احتمالية حدوث ذلك، ومن أهم هذه المعطيات؛ السيطرة الفعلية والانتشار العسكري للحوثيين على المناطق الاستراتيجية في شمال وشمال غرب اليمن، مما يجعل أي تدخل مباشر معقدًا ومكلفًا، حيث سيؤدي إلى خسائر بشرية ومالية كبيرة، خصوصًا في ظل التضاريس الصعبة والدفاعات يمتلكها الحوثيون، كما أن مشهد تعقيدات السياسة الدولية، قد يُفضي لتشكل معارضة دولية وإقليمية، خصوصًا من الدول التي ترفض الحلول العسكرية أو تعتبر التدخل خيارًا غير مبرر، ومن أهم هذه الدول روسيا والصين، خاصة في ظل عدم استهداف الحوثيين لمصالحهم في البحر الأحمر، وامتناعهم عن التصويت على قرار مجلس الأمن آنف الذكر.

كما أن تحالف الحوثيين الصلب مع إيران قد يدفعها -إذا ما حدث تدخل عسكري مباشر ضد الحوثيين- إلى انقاذ هذا التحالف بالتصعيد في جبهات أخرى مع حلفائها، خاصة جبهة لبنان التي لا تزال تشهد اشتباكات محدودة ضمن قواعد الاشتباك.

خلاصة القول، يبقى سيناريو التدخل العسكري المباشر خيارًا محفوفًا بالمخاطر والتعقيدات، خاصة في ضوء استمرار ضبابية المشهد الإقليمي، واستمرار الحرب على غزة، والتحولات التي يشهدها الشارع الشعبي في العواصم الغربية والمدن الكبرى بتأييد الحقوق الفلسطينية بوتيرة غير مسبوقة.

المؤشرات الرئيسية:

1- الاستناد على قرار مجلس الأمن 2722: يوفر تأويل قرار مجلس الأمن غطاءً دوليًا لـ”معالجة الأسباب الجذرية” التي تُخل بالأمن البحري، وهو ما يتيح مساحة في تكييف القرار على اعتبار أنه مستند قانوني لتوفير غطاء دولي لأي تدخل عسكري مستقبلًا، إذا ما تشكلت الإرادة لذلك.

2- ارتفاع درجة المخاطر: يؤدي التدخل العسكري المباشر لارتفاع درجة المخاطر العسكرية والسياسية بدرجة كبيرة، بما في ذلك التصعيد المحتمل مع إيران وحلفائها إقليميًا، وتصور ارتفاع عدد الضحايا، مما يؤدي إلى مأزق كبير للمتدخلين في اليمن.

3- المعارضة الإقليمية: قد يشكل أي تدخل عسكري مباشر معارضة إقليمية ودولية مهمة تضع قيودًا على التدخل، خاصة من قبل الصين وروسيا وإيران، لا سيما أن روسيا والصين قد امتنعتا عن التصويت لصالح القرار 2722 في مجلس الأمن.

خاتمة

إن تصعيد الحوثيين باستهداف السفن المتجهة لإسرائيل في البحر الأحمر، والتدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة من خلال ائتلاف “حارس الازدهار”، يعكس جزءًا مهمًا من تعقيدات المشهد الجيوسياسي الحالي في الشرق الأوسط، حيث يبقى الصراع المعرّض للاتساع بين “محور المقاومة” و إسرائيل والولايات المتحدة بشكل رئيسي في قطاع غزة وعلى الجبهة اللبنانية، خاصة في ضوء عدم التوصل لتسوية شاملة للصراع في فلسطين، مما يؤكد على ضرورة استمرار الجهود الدبلوماسية في مساعي خفض التصعيد، وإيجاد حلول دائمة تأخذ في الاعتبار المطالب السياسية، لا سيما بالضغط في اتجاه تسوية وفقًا لحل الدولتين عمليًا، حيث يتأكد في كل مرة يتجدد فيها الصراع في فلسطين مدى تأثير القضية الفلسطينية على عموم الإقليم، وهو ما يدعم صحة الافتراض القائل: أن أي استقرار أو سلام في الشرق الأوسط لا بد من أن يبدأ من تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وعدم الارتهان لأطروحات إدارة الصراع دون التسوية الشاملة، كما يبقى مستقبل الصراع في البحر الأحمر عُرضة لمتغيرات السياق الأوسع لمسار الحرب في غزة، وهو ما يثبته الواقع العملي، مهما سعت الأطراف الأخرى للفصل بين هذه المسارات.


[1] عرب نيوز، “تقول بعثة الاتحاد الأوروبي في البحر الأحمر إنها دافعت عن 120 سفينة من هجمات الحوثيين”، 19-مايو-2024، الرابط: https://www.arabnews.com/node/2513266/middle-east

[2] Schwartz, Joshua A. 2023. “Madman or Mad Genius? The International Benefits and Domestic Costs of the Madman Strategy.” Security Studies 32 (2): 271–305. doi:10.1080/09636412.2023.2197619.

[3] Nasser, Afrah, “Instead of Houthi Designation, the United States Should Embrace

a Comprehensive Approach”, Arab Centre Washington DC, 28-Feb-2024, link: https://arabcenterdc.org/resource/instead-of-houthi-designation-the-united-states-should-embrace-a-comprehensive-approach/

[4] U.S. Department of Defense, Statement from Secretary of Defense Lloyd J. Austin III on Ensuring Freedom of Navigation in the Red Sea”, 18-Dec-2023, link: https://www.defense.gov/News/Releases/Release/Article/3621110/statement-from-secretary-of-defense-lloyd-j-austin-iii-on-ensuring-freedom-of-n/

[5]  U.S. Department of State: Terrorist Designation of the Houthis”, 17-Jan-2024, Link: https://www.state.gov/terrorist-designation-of-the-houthis/

[6] United Nations, Adopting Resolution 2722 (2024) by Recorded Vote, Security Council Demands Houthis Immediately Stop Attacks on Merchant, Commercial Vessels in Red Sea”, 10-Jan-2024, link: https://press.un.org/en/2024/sc15561.doc.htm

[7] Reuters, “US and Britain strike Yemen in reprisal for Houthi attacks on shipping”, 13-Jan-2024, link: https://www.reuters.com/world/us-britain-carry-out-strikes-againsthouthis-yemen-officials-202411-01-

[8] Jonathan Fenton-Harvey, “The US’ Red Sea strategy has failed to deter the Houthis”, The New Arab, 3-Apr-2024, link: https://www.newarab.com/analysis/us-redsea-strategy-has-failed-deter-houthis

زر الذهاب إلى الأعلى