“ويكليكس” في ميزان القيم الغربية
حظي الموقع الشهير ويكليكس WikiLeaks لمؤسسه الأسترالي جوليان أسانج صاحب 175 سنة سجن ، بمكانة شهيرة على مختلف مستويات وطبقات العامة والنخب لما قام بنشره من آلاف الوثائق الأمريكية السرية منها العسكرية كحرب العراق، وهجوم الفلوجة، وفترات انطلاق مواجهة الإرهاب العالمية، وغيرها الألوف، والتي يتم تداول أثرها النوعي في التاريخ الأمريكي كخروقات شرخت المنظومة الأمنية لأمريكية وغيرت شكل وهيبة العمل الدبلوماسي وقامت بتعرية المسميات الوظيفية وفضحت وقالت الكثير مما تم الإغلاق عليه في الصناديق والحواسيب الضخمة التي على إثرها تم اتهام أسانج بالتجسس والاختراق.
لأسانج سجل حافل في المحاكم وعلى رأسها المحاكم الأمريكية والدول التي سحبت جنسيتها منه مثل الأكوادور بعد تغير رئيسها. وبين صولات وجولات بين قضبان لندن والشرطة البريطانية على مدار سنوات طويلة، فإن آخر التحديثات تشير إلى موعد مؤقت في 20 مايو/أيار القادم في جلسة ينتظرها أسانج بينما تستمر الحركة الدولية بشأن الضمانات المقدمة من الولايات المتحدة التي تتصارع معه ما بين حرية التعبير والتسليم للولايات المتحدة وقضاء المدة المطلوبة وانتهاء الملاحقة الطويلة.
كانت قد أعربت منظمة العفو الدولية أن الوثائق التي نشرت في ويكيليكس هي بالأصل جرائم حرب أمريكية وكل ما حدث مع أسانج يتعارض مع أي مبدأ من مبادئ الصحافة الاستقصائية، أما في أحدث ما نُشر عن موقع ويكيليكس كان في عام 2021 حول “COP 26” قمة المناخ والبيئة في جلاسكو التي أكد فيها ما نُشر على حق الجمهور في المعرفة وكشف الضغوطات الأمريكية على المؤتمر وحجم التجسس والابتزاز وحالات الفساد والتلاعب الحكومي بالإضافة لسلسلة الاستغلال الاستعماري.
وفي علامة فارقة تدلل على مدى الاحتكاك لدى الأكاديمي والمنظر السياسي ،في ظهور مميز ونوعي لأستاذ العلاقات الدولية ورائد الواقعية الجديدة ، جون ميرشايمر الذي ظهر بمقطع منذ شهرين على قناة أحد القضاة المشهورين على يوتيوب وضح موقفه وتحليله الذي نقض فيه مسمى ( مجرم وجريمة ) الذي تستخدمه الأوصاف الأمريكية، فطالب ميرشايمر بحرية أسانج واعتبر أنها قضية مباشرة وواضحة، أكد فيها على أداء أسانج لواجبه كصحفي فهو لم يخرق القوانين حيث تعد الوثائق والتسريبات جزء شائع ومتداول في العمل الصحفي وهنا قارب ميرشايمر بين من يُسرب المعلومات الحكومية من الداخل – Insider والذي يعتبر مُنتهكًا للقوانين، وبين الصحفي وواجبه العملي في استقصائه، اعتبر ميرشايمر أنه إذا سلمنا أن نشر الوثائق السرية من قبل الصحفيين يؤدي للسجن فالنتيجة ستكون سجون مليئة بالصحفيين الأكثر شهرة من نيويورك تايمز، واشنطن بوست ووال ستريت جورنال والذي لا يحصل بشكل معتاد.
ختم ميرشايمر تحليله بأن كل الحكومات حتى الليبرالية الديمقراطية منها كالولايات المتحدة وبريطانيا يخطون خطوات أكبر وأوسع ليصعب تلمس أثرهم ومحاسبتهم من قبل العامة وانتقاد وتقييم تصرفاتهم، وفي مثال شهير ضربه ميرشايمر عن الواقعة الشهيرة لما بعرف بـPentagon Papers في عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إزاء حرب فيتنام المتمثلة في الشخصية الشهيرة دانيال إيلسبيرغ، حيث لم يتم سجنه واعتبر أن ما قدمه كان خدمة للجمهور، وهنا مفارقة كون دانيال كان موظف في البنتاغون أي Insider بينما أسانج صحفي وتعرض لكل ما تعرض له من ملاحقة وتجريم بالرغم من عدم لحاق أي ضرر أو تهديد بالخطر لأي يُذكر وأي دفع الثمن فإنه تم استحقاقه خلال السنوات التي مضت من عمره.
من الجدير بالذكر أن المدرسة التي ينتمي لها ميرشايمر (الواقعية الجديدة) والتي تُعنى بتفسير تصرفات الدول من منطلق هيكلية النظام الدولي التي تتحرك وفق معادلة الفوضى التي لا يوجد فيها قوة أعلى من الدول، وفي غياب هذه السلطة/القوة الأعلى عند تأزم وضع الدول فإن الدول ستتنافس بين بعضها من أجل تحقيق فارق القوة لتحقيق البقاء أولًا وباقي الأهداف ثانيًا، ومن هذا المنطلق الذي نأى به ميرشايمر في تحليله لظاهرة أسانج إلى الصعيد الحقوقي الإجرائي فإن تصرفات دولة عظمى كالولايات المتحدة لا تُفهم إلا في سياق تمسكها بأدوات ضبط الفوضى التي قد تُسهل قلب معادلات الهيمنة عليها، فتسريبات بهذا الحجم وهذا المضمون لا تصب بصالح الحقوقيات والحريات القيمية في المنظومة الأمريكية أكثر من أنها تهديدات صريحة وواضحة لمنظومة عمل تسير عليه مؤسسات معقدة في دولة عظمى كالولايات المتحدة، يُعتبر فيها أي نقص في نسبة هيمنتها وإحاطتها الكوكبية في الساحة الدولية علامة خطر للصورة التي تحملها ولمستقبلها في السيطرة الممتدة.
لم تقتصر هذه الظاهرة على المحطات الإخبارية بل امتدت بشكل واسع في باحات الأبحاث في الجامعات الغربية التي أخذت تتناول آفاق مثل هكذا حدث ضخم على عدة أصعدة، اعتبر مايكل ماير محاضر علم الاجتماع وعلم الجريمة في جامعة ليفربول، أن إتاحة مثل هكذا مواد للجمهور أفسح المجال للباحثين للوصول لقضايا حساسة ضرورية في أبرز القضايا ولا ينبغي منع مثل هكذا ملفات تطغى فيها أسئلة المساءلة والشفافية عند الحكومات، وفي كلية LSE للاقتصاد والسياسة ناقش البروفيسور بارت كاميرتس أستاذ السياسة والاتصال بأن أساس فكرة أهمية وجود أمثال أسانج “المبلغين عن المخالفات” Whistleblowers في الديمقراطيات وأدوراهم في فضح الفساد وسوء استخدام السلطة، وحجم الحماية المفروض تقديمها لهم بالنقيض من الاضطهاد القانوني الذي يتعرضوا له، وأن هذا الحق الذي يحمل مخاطرة عالية لكل من يريد امتهانه في الولايات المتحدة.
بينما في منشورات آراء جامعة بوسطن اعتبر الكاتب والصحفي ريتش بارلو أن بطولية أسانج زائفة حيث قام بعكس اعتبارات أهمية المعلومة على حساب علاقاته في روسيا، ودوره في تهديد الأعمال الدبلوماسية وقام بتوجيه أصابع اتهام لطبيعة سير عمله والتشكيك بالشفافية التي ينتهجها هو ومؤسسته في المقام الأول والأجندات التي يحملونها واعتبار معرفة الكثير من المعلومات حول الحكومة والدولة يشكل خطر لحالة الأمن القومي والقوى المعادية التي تستغل هذا القدر من المعلومات.
ويكيليكس ومؤسسه أسانج الذي رسم خارطة طريق جديدة وشكّل ظاهرة ممتدة نجدها في العديد من الدول والأفراد والجهات التي قد وقد لا تكون الحقيقة ومحورية المعلومة هدفها الأسمى، لكنها بلا شك أعادت تدوير زوايا الحقيقة والمصادر التي تؤدي إليها مما ساهم بتغيير وجهة المواطنين في استقبال المعلومة، وهنا تُطرح العديد من التساؤلات منها ما هو مدى تصديقنا لأي رأي عام يشق طريقه الطبيعي تحت مظلة الدول والمؤسسات؟ وما حجم الفساد الذي يصل إلى أقصى حده لضمان حماية كل ما هو مشبوه وغير قانوني؟ وكيف يمكن تحديد جداول الأعمال السرية بينما تعتبر القضايا العامة محط تشكيك وتزوير في المقام الأول؟