مشروع قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد: قراءة أردنية
تقدير موقف
ملخص تنفيذي
– إن الحَسم المُفترض في سياسة الولايات المتحدة، والانتقال من الصمت عن الانفتاح على نظام الأسد، إلى صياغة تشريعات طويلة الأمد بهدف فرض عزلة دولية حازمة على النظام، يحمل تداعيات كبيرة على المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط، ويُعقد من خيارات الدول المحيطة بسوريا.
– يسيطر نظام الأسد على الحيز الأكبر من الجغرافيا السورية، ويتمتع بعلاقات استراتيجية وطيدة بإيران وروسيا الغارقتين في العقوبات الغربية، مما يعني ارتفاع فُرص استمرار الوضع الراهن وبقاء النظام، كما يُتوقع أن تزداد صلابة الروابط الاقتصادية واللوجستية بين هذه الأطراف، خاصة إذا انتفت فُرص إعادة تأهيل نظام الأسد في محيطه العربي.
– ربما يحمل الحَسم الأميركي مزيدًا من العُقد والصعوبات للأردن، خاصة بعد الجهود الأردنية لترتيب أوراق الجوار، وتصفير المشكلات المحيطة به، والتي كانت تواجه جمود نظام الأسد أصلاً قبل التحول الأميركي الأخير، مما قد يدفع عمّان لتجميد جهودها الدبلوماسية مع النظام.
– قد يطرح التحول لسياسية الوضع الراهن فُرصًا للأردن، والبحث في خيارات أمنية بديلة لتأمين الأوضاع في الجنوب السوري، خاصة القوى الاجتماعية في السويداء، ومبادرة حركة (رجال الكرامة)، والتي قد تحمل فُرصًا وتداعيات في ذات الوقت ولكلا الطرفين.
تمهيد
صوّت مجلس النواب الأميركي (الكونغرس) بأغلبية كبيرة على مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع نظام الأسد” يوم الأربعاء 14 فبراير/شباط 2024، والذي -إن تم وتحول لقانون نافذ- سيمنع أي رئيس أميركي قادم من تطبيع العلاقات بأنواعها السياسية والاقتصادية أو غيرها بين الولايات المتحدة وأي حكومة يوجد فيها بشار الأسد، ومعاقبة الأطراف المتعاونة مع النظام ماديًا أو معنويًا، وسواءً أكانت دولًا أو كيانات أو أفراد، كما يَنص القانون على فرض إجراءات رقابية تستهدف أنشطة إعادة الإعمار في مناطق سيطرة النظام، ومعارضة اعتراف وتطبيع أي دولة مع أي حكومة سورية يرأسها بشار الأسد، وينص القانون بوضوح على إتاحة استخدام كافة الصلاحيات للإدارة الأميركية لتنفيذ بنود القانون، وإجراءات رقابية لاحقة للتحقق من مدى الالتزام بتنفيذه، وهو ما قد يعتبر مؤشرًا على صلابة الموقف الأميركي، وتوجهًا نحو فرض عُزلة دولية على النظام، ومن المفترض أن تمتد تداعياتها لدول الإقليم ومنها الأردن، وقد تُغيّر من معادلات تسوية الصراع الحالية في سوريا، بالإضافة للأثر المتوقع على مستقبل النظام بصيغته الحالية.
توجه السياسة الأميركية الجديد
تعود نُواة مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع نظام بشار الأسد” الذي قدمته لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس في 11 مايو/أيار 2023، وذلك قُبيل انعقاد قمة جامعة الدول العربية في جدة، والتي شهدت حضور بشار الأسد لأول مرة منذ 2011، وكان من اللافت عقد لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس لجلسات عاجلة ومطولة خلال أقل من أسبوع، بهدف ضمان إقرار مشروع القانون في اللجنة قبل انعقاد القمة العربية، وهو ما حدث، حيث اعتُمد مشروع القانون في 17 مايو/أيار 2023، وقبل يومين من انعقاد القمة العربية في جدة.
يُقرأ مشروع قانون مناهضة التطبيع كتحول في السياسة الأميركية منذ إقرار (قانون قيصر) في ديسمبر/كانون الأول 2019، حيث يمدد مشروع القانون الجديد زمن العقوبات لغاية 2032، كما يعالج العديد من الثغرات الموجودة في (قانون قيصر)، وقد طُرح مشروع القانون للتصويت عليه في الكونغرس يوم الأربعاء 14 فبراير/شباط 2024، وحاز أغلبية كبيرة بلغت (389 نائبًا مع القانون، مقابل 32 ضده)، ويعكس التصويت الأخير إجماعًا عابرًا للخلافات الحزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين.
ليُكمل مشروع القانون الجديد مساره الدستوري، يتبقى تصويت مجلس الشيوخ الأميركي عليه، ومن ثُم عرضه على الرئيس الأميركي للتوقيع عليه، ومن المتوقع أن تستغرق هذه المراحل عدة أشهر، ومن المُفترض أن تتجه جماعات المصالح المتضررة نحو ممارسة ضغوط أكبر على صناع القرار الأميركيين، خاصةً الجماعات المؤيِدة للتطبيع السياسي مع نظام الأسد، أو التي قد تتضرر اقتصاديًا من بعض بنود القانون، وتعتبر هذه المرحلة المناورة الأصعب في المسار التشريعي حاليًا، خاصةً أن ممارسات هذه الجماعات قد تؤثر على صيغة القانون كالتخفيف من حِدته وخفض قيوده، أو لمحاولة صياغة بعض الاستثناءات الزمنية أو الإجرائية، وعلى أية حال، تبقى فُرص مرور القانون مرتفعة، وذات صدى وتأثير مهم، حتى وإن خُففت بعض القيود القانونية من بنوده في حال نجاح الضغوط، ويَدعم ذلك حالة التوافق الحزبي الحالية، ونضوج تيار سياسي أميركي رافض للتطبيع مع نظام الأسد، وهو ما يعكس توجهًا سياسيًا يدفع باتجاه ترجمة مناهضة نظام الأسد في السياسة الخارجية الأميركية عملياً بعد إقرار القانون.
الواقع في سوريا بعدسات أردنية
يقرأ الأردن الواقع في سوريا بطريقة مختلفة عن بقية الدول العربية، نتيجة لخصوصية العلاقة الثنائية، والترابط الجغرافي والاجتماعي، وحالة التأثير المباشر لما يجري في سوريا وانعكاسها على الأردن، ويتأثر الأردن من استمرار الوضع الراهن في سوريا بلا حل، كما يتضرر الأردن من الخطر المحدق بانتشار الفصائل المسلحة المدعومة من إيران في الجنوب السوري، حيث يشغل تأمين الجنوب السوري على مختلف المستويات، الأمنية والمجتمعية والإنسانية، الحيَّز الأكبر من أولويات الأمن الوطني الأردني في سوريا، وفي سبيل تحقيق هذه المصلحة العليا للأردن، تحتم على الخارجية الأردنية الاشتباك السياسي مع مختلف الأطراف الفاعلة في الجنوب السوري.
يظهر التحدي الأهم للأردن بتعاظم النفوذ الإيراني في الجنوب السوري ذو الحساسية الجيوسياسية للأردن، والمنبثق عنه شبكات تصنيع وتهريب المخدرات التي تستهدف الأردن بصورة ممنهجة بعد أن كانت عمليات التهريب فردية، فلا يكاد يمر أسبوع، في الآونة الأخيرة، دون إعلان القوات المسلحة الأردنية عن إحباط محاولات تهريب كميات كبيرة من المخدرات، ومنذ تفجر الأوضاع في غزة عقب السابع من أكتوبر؛ تصاعدت وتيرة محاولات التهريب من حيث الكم والنوع، وحملت صيغة جديدة في أنشطة التهريب بما يشبه نمط الاستنزاف، حيث تزداد وتيرة محاولات التهريب، وترتفع نوعية ما يُهرب لتشمل بالإضافة للمخدرات الأسلحة المتوسطة في بعض المحاولات.
يتعامل الأردن مع هذه القضية أمنيًا عبر رفع قواعد الاشتباك على الحدود المشتركة، وسياسيًا عبر المبادرات العربية والانفتاح على دمشق، ولهدف استراتيجي عربي طموح، تمثّل في استمالة نظام الأسد، والحد من النفوذ الإيراني في سوريا، واستعادة دمشق للعمق العربي، وأخيرًا، لوضع حد لشبكات تهريب المخدرات، كما أن استمرار استعصاء الحل في سوريا؛ يعني استمرار حالة الاختناق الاقتصادي، والتي ترفع من حِدة الأعباء الاقتصادية التي يعاني منها الأردن لأكثر من 12 سنة من الصراع في سوريا، هذا ناهيك عن القضايا العالقة بين الأردن والنظام، كالمسائل الاقتصادية والتبادل التجاري، والمياه، واللاجئين السوريين، وتأمين المناطق الجنوبية في سوريا.
بناءً على ما سبق، انتهج الأردن مقاربة عقلانية مبنية على حسابات الربح والخسارة، وتنطلق بشكل رئيسي من أولوية الحفاظ على الأمن الأردني، ووضع حد عملي لشبكات تصنيع وتهريب المخدرات، كما يرفض الأردن استمرار الصراع السوري بلا حل سياسي، ويرى الأردن في البيئة المصاحبة للتحولات الإقليمية الأخيرة فرصة لـ”تصفير المشكلات” المحيطة به، خاصة في ضوء التقارب السعودي-الإيراني، وهو ما حفّز الأردن لترتيب الأوراق والبحث عن حلول في جواره القريب، وبطبيعة الحال لا يمكن التوصل لحلول دون الاشتباك الدبلوماسي المباشر، وبالتالي فإن توجه الأردن نحو نظام الأسد يمكن أن يُقرأ على أنه لتحقيق وحماية المصالح الأردنية، وليس انفتاحًا لأجل التقارب المحَض مع النظام بصيغته الحالية.
خيارات الأردن ومعضلة البديل الأوحد
يشير التحول في السياسة الأميركية تُجاه نظام الأسد إلى أن الدول العربية وخاصة الأردن؛ قد تعيد حساباتها فيما يتعلق بالشأن السوري، ومستقبل التسوية السياسية للصراع، والتوجه لحلول تتجاوز النظام، ومن هنا تظهر معضلة أخرى تتجلى في تساؤلات حول هوية البديل إذا لم يكن نظام الأسد.
واقعيًّا، يسيطر النظام على الحيز الأكبر من الجغرافيا السورية، والتي تُقدر بـ (63%) من إجمالي مساحة سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم مناطق سيطرة النظام الجغرافية لا تحتوي على موارد طبيعية مهمة قد ترتبط بالأمن الغذائي ومصادر الطاقة، كما تنتشر ضمن مناطق نفوذه العديد من الأطراف الأجنبية، خاصة الوجود الروسي، والفصائل المسلحة المدعومة من إيران، وبخِلاف ذلك ينقسم الشمال السوري بين الفصائل المعارضة غربًا في (المناطق المحررة)، وقوات سوريا الديمقراطية في (مناطق الإدارة الذاتية) شرقًا؛ فيما يغيب أي طرف حقيقي فاعل على الأرض جنوب سوريا، والذي -إن وُجد- سيوسع من خيارات الأردن حال طُبقت العزلة على نظام الأسد، وقد يعالج وجود طرف آخر في الجنوب مسائل رئيسية للأردن، من أبرزها تأمين الجنوب السوري، ومعالجة القضايا الأمنية وفي مقدمتها وضع حد لتهريب المخدرات، واحتواء انتشار نفوذ الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، ورفع جودة الوضع الإنساني والمعيشي في الجنوب السوري.
في ذات السياق، تطرح بعض القوى الاجتماعية في السويداء، وتحديدًا حركة (رجال الكرامة) مبادرة من 9 بنود لصيغة تنسيق أمني للتصدي لشبكة التهريب بالتعاون مع الأردن، وتدعو فيها الحركة الأردن لتزويدها بمعلومات دقيقة حول شبكة وعناصر تهريب المخدرات، وأن تتولى الحركة مسؤولية التصدي لهم، وبقطع النظر عن صيغة المبادرة الحالية وبنودها، إلا أن خِيار الصيغة الأمنية مع القوى الاجتماعية في السويداء، يثير تساؤلات حول مدى قدرة هذه الحركة على تنفيذ طرحها على أرض الواقع، ومن ثم -حال التسليم- بتوفر القدرة، والتداعيات في حال تشكُل صيغة أمنية بين الأردن والقوى الاجتماعية في سويداء على كلا الطرفين.
من المُرجح أن تُنتج مثل هذه العلاقة تصعيدًا عسكريًا بين القوى الاجتماعية في السويداء مع النظام والفصائل المسلحة المدعومة من إيران، كإجراء انتقامي ردًا على تصديهم لشبكة المخدرات، وإعاقة تدفق عوائد التهريب التي تُقدر بمليارات الدولارات، خاصة وأن المحافظة تشهد احتجاجات نشيطة للشهر السابع على التوالي، وترتفع فيها المطالب داعيةً لإسقاط نظام الأسد، وفي الجانب المقابل، قد يعني تطوير الأردن لعلاقة أمنية الطابع، تجمعه بالقوى الاجتماعية في السويداء، حلولًا أمنية مباشرة، تؤدي لخفض كُلفة قواعد الاشتباك الحالية على الحدود، خاصة على الصعيد الأمني التكتيكي، وقد تُعتبر مقاربة منطقية على المدى المنظور، إلا أن عوامل وديناميكيات الاستقرار في سوريا يجب أن يُنظر لها على المستوى الاستراتيجي، خاصةً أنها ترتبط بمؤشرات الاستقرار الكلية في عموم سوريا، كما أن نتائج تبلور هكذا علاقة قد تنعكس سلبًا بالتوتر المباشر مع نظام الأسد، لذلك تعتبر الحسابات الدقيقة في الأردن ضرورية أكثر من أي وقت مضى.
خاتمة
تزداد ضبابية المشهد في سوريا في خِضم التغيُّر في السياسة الأميركية تجاه سوريا، ويظهر تساؤل مستقبلي عن نتائج تحولات السياسة الأميركية وطول أمدها، ومدى التزام الإدارات الأميركية بتنفيذ “قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد”، ومن ثم مدى وكيفية استجابة الدول العربية ومنها الأردن لهذا التغيُّر، ويتفرع عن ذلك سؤال حول خيارات الأردن في سوريا حينها، فمع استمرار معطيات بقاء النظام في السلطة بحكم الأمر الواقع، وأُلفة نظام الأسد للعقوبات الغربية، والتي بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، يُتصور تكرار سيناريو عزلة طويلة الأمد للنظام، مع غياب أي حلٍ واقعي في أفُق التسويات السياسية، وغياب فُرص حدوث أي تغيير ذو معنى في سوريا، وهو ما يعيد الأذهان لسيناريو حكُم عمر البشير في السودان، والعقوبات الأميركية التي عزلت السودان لعقود من الزمن، وبالتالي فإن حدوث مثل هذا السيناريو في حالة نظام الأسد، يُنذر ببوادر معضلة عميقة ومستعصية قد يعاني منها إقليم الشرق الأوسط برُمته، مع عواقب بعيدة المدى تتجاوز في تأثيرها النظام وتمتد إلى جواره القريب.
قد تنحصر خيارات الأردن حال فُرضت عزلة على نظام الأسد في الاستدارة عن التقارب، والتكيُّف مع الوضع الراهن، وهو ما سيعني تأجيل القضايا العالقة لسنوات لاحقة دون حل، ويُنتج مزيدًا من الضغوط الأمنية والسياسية والاقتصادية على الأردن ودول الجوار السوري المباشر، خاصة وأن أكثر من عقد من الزمن مرّ دون وجود حل سياسي ينهي الصراع في سوريا، وبالتالي، قد يلتَفت الأردن نحو خيارات بديلة، وقد يعتبر أبرزها الانفتاح على المجتمعات المحلية والقوى الاجتماعية في الجنوب السوري، والتي أبدت استعدادها للتعاون مع الأردن أمنيًا، إلا أن استمرار معضلة الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي قد تبقى عالقة لفترة أطول من الزمن.