هل يُعيد الشتات اليهودي تعريف نفسه بعد 7 أكتوبر؟
يستمر تأثير “7 أكتوبر” في طرح العديد من الأسئلة العالقة أو المدفونة التي دائمًا ما يتم التعويل على عامل المجهول المستقبلي في التعامل معها على حساب الحاضر اللحظي وأبعاده المؤرقة للحسابات السياسية والاجتماعية والدينية، وذلك يشمل ملف “الدياسبورا” أي الشتات اليهودي بشكل عام وإشكالية الهوية اليهودية والروابط السياسية التي تم تجذيرها من قبل قواعدها الاجتماعية بشكل خاص، وفي خضم التحليلات السياسية التي لا تهدأ في الساحات الالكترونية والبحثية فإن جزءًا لا يستهان به قام بتخصيص إضاءات على دور ومسؤولية اليهود المتواجدين في العالم على رأسها في الولايات المتحدة بالتعاطي مع الحرب الجارية وعلى ضرورة وضع معاناتهم وأصواتهم الداخلية في قلب تل أبيب.
تعايش قيد التجربة
تعمل الأحداث الحالية على صياغة وقائع جديدة في أوساط الدياسبورا سواء من أقصى التعنت سلبًّا إلى أقصى الانفتاح إيجابيًا إزاء نهج حكومة إسرائيل ومفهوم الذات اليهودية/الإسرائيلية، ولعلّ هذا التنوع يعكس طبيعة المعضلة في عمق الانتماء اليهودي ومدى تأرجحه مع إسرائيل كحاضنة للأرض الموعودة وإسرائيل الدولة، مما ساهم في ظهور تساؤلات فاحصة للأولويات وظهور حاجة لإعادة تعريف المفاهيم الشائكة سياسيًّا وجيواستراتيجيا في العالم بأسره وفي الشرق حصرًا.
يظهر ما نحاول ربطه جليًّا في موجات ما تسمى “معاداة السامية” وخطابات الكراهية التي يتم توجيهها للفرد اليهودي وما يمكن فهمه كمرحلة فاحصة للذات اليهودية في ترتيب أولويات توجهاتها ومواقفها إزاء الفرد غير اليهودي (التعايش مع الآخر)، وقضايا حقوق الإنسان وموقفه الأهم إزاء القرارت الدولية التي تنثبق من غرف صنع القرار الإسرائيلي بتشعباتها الضيقة، ذلك ما دفع الجو العام بالاعتراف ضمنيًّا أن الهوية الإسرائيلية في الشتات تتعرض لاختراق واضح ورموزها تختفي تدريجيًّا مع تنامي الأحقاد العالمية إزاء إصرار كابينة الحرب الإسرائيلية في العمل قدمًا في الحرب، ما يساهم في تفتيت إشهار “الكيبا” اليهودية وقلادة داوود في العلن فضلًا عن إعلاء علم إسرائيل في البيئات الغربية الليبرالية التي تحتوي اليهودي والمسلم والمسيحي تحت سقف واحد.
تعتبر من جانب آخر بعض التجمعات اليهودية التي ترى المشهد وتعيش مآلاته خارج إسرائيل أن مثل هكذا “معاناة يهودية” في هذه الحرب ما هي إلا إشارة على ضرورة التمسك بأرض إسرائيل التي تدخل في حقبة جديدة من التاريخ اليهودي وما يحدث الآن ما هو إلا فرصة لتكثيف وجود الرمز اليهودي في العالم وترسيخه عن طريق النفوذ المُركز من قبل المؤسسات والأفراد.
ولاءات سياسية متقلبة
في السياق الأكبر لقضية الدياسبورا فإن إشكالية ارتباطاتهم ومدى تداخلها في إسرائيل كدولة بمؤسسات وهيئات تتطلب طرحًا أوسع من تطرقنا للتحولات التي يشهدونها في مجتمعاتهم خارج إسرائيل بعد السابع من أكتوبر لكن يلزمنا التطرق إلى الأصوات التي تستمر في اعتبار أن العلاقات الإسرائيلية والشتات قيد التدهور في محطات عديدة، سياسية واقتصادية ووجودية في طابع علاقتها مع كيان الدولة وماهية التراتبية في الواجبات المنوطة للرمزية الدينية التي يحملونها. إن إشكالية الهوية دائمًا ما كانت تحت خانة السؤال ومُطالبة دائمًا بالعمل أكثر على تجذيرها وربطها مع الآخر الاسرائيلي بشكل مستمر بالنقيض من محاولات قطع أواصرها معه وذلك يتماشى مع التناقض الحاصل الذي جاء منذ إعلانها كدولة في 1948.
يطرأ أيضًا عامل الهجرات المتمركزة في السياسة الإسرائيلية وخطوات العمل على تسريعها وإبطائها ضمن خطط اقتصادية زمنية لضم اليهود في العالم والتي تتأرجح الآن في ثنايا الحرب وتجعل من المستحيل ممكنًا في ظل موجات الانتماء والتعاطف في المجمع اليهودي، ومن الممكن مستحيلًا في اعتبار أن منافذ الحرب أغلقت أواصر العبور التي تم تفتيتها من قبل السياسات الحالية المتعنتة، وما بين الحالتين هناك لايقين مؤكد يحوم في أرجاء الفكر اليهودي والإسرائيلي.
ولعلَّ الحسم السياسي في هذه الحرب تضاءل حسب بعض الأوصاف لصالح الرغبة العارمة بالحفاظ على أرض إسرائيل وإدراك حجم الروابط العائلية والنفسية التي تُعتبر أولوية فوق أي ولاء سياسي أو استقطاب حاصل بالرغم من أن المشاهدات السابقة رصدت حالة واسعة من القطيعة التي تفاقمت فجوتها على حساب كفة الاعتبارات الحزبية والدينية المتطرفة وغض النظر عن خلق مشتركات يهودية ثقافية تعمل على توحيد الصف اليهودي كضرورة مُلحة عالميًّا.
بينما هناك فئات تعتبر أن الشتات في دول العالم يتم محاسبتهم على أفعال إسرائيل في الشرق وذلك يرتبط بضرورة وضع أبجديات للتقاطعات النسبية ماديًّا وسياسيًّا لليهود في العالم وفهم تراتبية دورهم داخليًّا واحتوائهم في ظل إسرائيل الدولة ثقافيًّا وقيميًّا ليس فقط كأجندة سياسية مُساهمة خارجيًّا.
سيولة مادية لا تتوقف
وفي سجل التفاهمات اليهودية الإسرائيلية فإن الشتات استمر في تفاعله الإيجابي مع إسرائيل من مراحلها الأولى التأسيسية حتى وصولها لمرحلة خلق توليفة اقتصادية تقنية في العالم، فما بين الدعم المادي المستمر الذي لا ينقطع وبين المؤسسات ذات القواعد الاجتماعية المنتشرة التي تحمل راية اليهودية في حملاتها وتبرعاتها، فضلًا عن أهم ما يتم التعويل عليه ألا وهو الدعم السياسي والتأثير في غرف صنع القرار والثنايا الحساسة التي تهم إسرائيل فإن الحسابات المصلحية دائمًا تعمل في كفة تقديم العون سواء من وزارات وهيئات للشتات أو تجمعات خاصة بأجندات علنية في اهتمامها اليهودي.
ما يرافق الوضع الحالي من فهم في طبيعة الأدوار التي يتم ممارستها لليهود خارج إسرائيل باعتبار أن الدعم المادي جيد لكنه غير كافٍ، فطالب البعض بتعميق شعورهم بدعوات انضمام وترسيخ حق العودة بينما أعربت فئات عن انشغالها بحالة الصدمات المتتالية من المؤسسات الغربية الليبرالية والنسوية التي يعملون في ظلها والتي لم تقدم الحد الأدنى من الدعم خلال الحرب وذلك انطلاقا من المساهمات التي قام المجتمع اليهودي بالاستثمار فيها طيلة السنوات داخل تفرعات المجتمع المدني التي أُعتبر حتى مواقفها المختلفة مع كل ما هو غير يهودي تهديد للشخصية اليهودية ووجوده كفرد يهودي حول العالم.
الشتات الرقمي
يسهُل فهم هذه الإشكالية عميقة الجذور عند الغوص في الفضاءات الحديثة ومحاولة تحليل طبيعة التفاعلات الرقمية بين فئة الشباب اليهودي بشكل خاص واليهود عامة على وسائل التواصل و منها غرف المحادثات المصغرة الجماعية مثل Reddit والكثير غيرها التي توحي بتصاعد موجة تعاطفية عند الفئات العمرية التي لم تعايش فترات حرجة سياسيًّا وعسكريًّا من قبل ما عمل على إعلاء قيمة البحث عن الجذور والانزواء في الصف الإسرائيلي والنأي عن غيره في ظل محاولات شيطنة أي رأي مخالف وإن كان غربي موضوعي ما يعني بشكل تقديري انزلاقًا نحو فئات عمرية مستقبلية أكثر تعنتًا ورفضًا للآخر غير اليهودي.
ولعلَّ تطرقنا لهذه الإشكالية تساهم في زيادة مخزوننا التحليلي لنوعية التطورات الفردية والمجتمعية التي يُقبل العالم في عقوده القادمة للتعامل معها سواء على صعيد الشرق الأوسط أو داخل ثنايا المجتمع الإسرائيلي وتفرعاته الواسعة، وهذا يصب في محورية الرمزية الدينية لليهودية حتى في أكثر التجمعات علمانية التي تشهد إقبالًا جديدًا لمفهوم الوطن سياسيًّا ومعنويًّا وتعمل على إعادة تعريف مفهومي الأصدقاء والأعداء على كافة الأصعدة.