“كل الضفة حمساوية”
قاعدة تجنيد "القسّام" ستتسع في الضفة الغربية
كانت السيارة تتهادى بنا على شاطئ غزة، قبيل منتصف الليل، بعد وجبة عشاء دسمة، في واحدة من مطاعم القطاع. التوقيت عام 2017 أواخر الصيف. كنا ثلاثة صحفيين، أنا الزائر، وصديقيَ غزيين أصيلين. وفي ساحة فارغة مظلمة، وعلى جانب الطريق، ظهرت، فجاءة، مجموعة عسكرية راجلة من “كتائب الشهيد عز الدين القسّام”، الذراع العسكري لحركة حماس. بلباسهم الأسود المميز، والعصابة الخضراء على رؤوسهم، يمشون بشكل منظم في خط مستقيم، بشكل يبدو أنهم في جولة تدريبية ما.
أحد الصديقين أبدى ملاحظة مهمة، تعبر عن تحوّل سياسي في غزة، حين أشار إلى الكثير من غزة قد لا يروق لهم حكم حماس، أو يختلفون مع الحركة، لكنك قد تجد إجماعاً، أو شبه إجماع، على “احترام القسّام”، وأكمل صديقي: “هذه المشهدية من حيث النظام، والانضباط، تستدعي فكرة المقاومة الناجحة لشعب يرزح تحت الاحتلال”. كانت ملاحظة جديدة بالنسبة لي، وبربطها في الكثير من المشاهدات خلال زياراتي لغزة، والقراءات للواقع القائم، تجد هذا الفصل قائمًا بين حركة حماس وكتائب القسّام، لكن من الضروري الإشارة إلى أن هذا ليس فصلًا انشقاقيًّا أو خلافيًّا داخل الحركة، إنما هو فصل وظيفي فرض نفسه منذ أن تفاجأت حماس بفوزها في الانتخابات عام 2006.
ومن الواضح أيضًا أن هذا الفصل، بات تعبيرًا واقعيًّا عن استراتيجية وسياسة، انعكست في مناطق مختلفة في العالم العربي، في تأييد حماس، كعنوان، وإن كان المقصود، هو كتائب القسّام كفاعل عسكري، وليس نموذجًا سياسيًّا يرتبط بحماس، كما أن هذا الفصل انعكس في أن كثيرًا من القيادات السياسية لحماس، لم تعرف عن هجوم السابع من أكتوبر، وفي ذلك دلالة تكفي، ومثل هذا التأثير ستكون انعكاساته في الضفة الغربية أكثر وضوحاً من غيرها.
اليوم اذا ما سألت الشبان في الضفة الغربية عن أحد قادة حماس السياسيين، فيما عدا يحيى السنوار، بشكل ملاحظ، لن تكون شعبيتهم كشعبية رموز “القسّام” مثل محمد الضيف، أو بشكل أوضح مثل أبو عبيدة الناطق العسكري باسم كتائب القسّام، الذي لا تكاد تخلو مظاهرة في الضفة الغربية، وغيرها، دون ذكر اسمه، ولذا تجد هتافات من قبيل “حُط السيف قبال السيف إحنا رجال محمد ضيف”، و “يا أبو عبيدة طل وشوف هي رجالك ع المكشوف”، وغيرها، تقدم السياق لفهم واحد من أشهر الهتافات حاليًّا، وهو “قالوا حماس إرهابية، كل الضفة حمساوية”، وهو هتاف يعبر عن الشعبية المتزايدة لحماس كنموذج قدم عبر القسّام.
حال الشباب في الضفة الغربية، دخل في تحولات عدة، منذ أن اتخذ الانقسام الفلسطيني، تحديدًا بين فتح وحماس، طابعًا عنيفًا، وافتقد هؤلاء الشبان، بالتالي الإطار السياسي، وكان هذا له تأثير كبير، خاصة في الضفة الغربية، حيث أن “فتح”، لا تعبر فيها عن حركة سياسية فحسب، بل هي، إضافة إلى ذلك، إطار اجتماعي-اقتصادي يتداخل مع المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية (يتشابه إلى درجة كبيرة بدور القسّام في قطاع غزة حاليًّا)، وبالتالي فإن بروز حماس كمنافس، جعل من مسألة “إنهاء الانقسام”، من المطالبات الأساسية للحراك الشبابي في الضفة.
جاء مصطلح الحراك، للواقع الفلسطيني، بعد ثورات الربيع العربي، وكانت قرى شمال غربي رام الله، مثل النبي صالح، ونعلين، وبلعين، وغيرها من نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي، والمستوطنين أحيانًا، شاهدًا على نشاط مثل الحراك الفلسطيني الذي سعى إلى تفعيل نقاط التماس تلك، والمطالبة بإنهاء الانقسام، وبدء نشاط ثقافي جماهيري ليغير الواقع الذي يعيشونه، وفق ما ورد في كتاب أحمد جميل عزم “الشباب الفلسطيني من الحركة إلى الحراك”.
هذه الاستعارة، من نماذج الربيع العربي، لم تحقق نتائج ملموسة في الواقع الفلسطيني، وتراجع السؤال الفلسطيني عمومًا أمام تداعيات الربيع العربي، من أسئلة تغيير الأنظمة إلى حروب أهلية، وما إلى ذلك، ومنذ عام 2015، برز تحول جديد لدى الشبان الفلسطينيين، بتنفيذ عمليات فردية، باستخدام تكتيكات طعن الجنود أو دهسهم بسياراتهم، حيث ازداد التوتر في الضفة الغربية حينها حتى بدأت الإشارة إليها بـ “الانتفاضة الثالثة”، وكان الملاحظ حينها، وقد التقيت بالكثير من الشبان آنذاك ممن كان لهم أقارب أو أصدقاء نفذوا مثل تلك العمليات، أنهم ينفون صفة الانتماء الحزبي عن أنفسهم، لا بل الكثير منهم كان ناقدًا للفصائل السياسية، عمومًا. أفراد حماس من الشبان في الضفة لم يكونوا غرباء عن هذه التغييرات لدى الشبان عمومًا، لكن كان نشاطهم تعبيرًا عن حال السيولة والانقسام التي تشهدها الفصائل الفلسطينية.
لاحقًا، بدا نزوع الشبان في الضفة الغربية، إلى تشكيل مجموعات مسلحة واضحة الأهداف، لكن غير واضحة الهوية، مثل “كتيبة جنين”، و”عرين الأسود”، ورغم ارتباط الأولى بحركة الجهاد الإسلامي، إلا أن بياناتها كانت تعبر عن جذب للشبان من فصائل مختلفة، وهو يعبر عن حال غياب الإطار السياسي المنظم، وهو ما بدا أكثر وضوحًا في حالة “عرين الأسود” الذي ضم شبانًا من كل الفصائل.
الآن، ومع كل التأييد الذي تشهده كتائب القسّام، وفي ظل حال البحث المستمر من قبل الشبان المحبطين من الاحتلال، ومن الضغط اليومي بسببه، عن إطار حركي، فإن الساحة مواتية للقسًام للتجنيد، وهو الأمر الذي إن نجح، سيزيد في تعقيد المشهد السياسي، من ناحية إسرائيل التي تعتبر انتقال نموذج القسّام إلى الضفة الغربية، توسيع لدائرة الصراع، بشكل منظم كما حدث بُعيد الانتفاضة الثانية، وهو ما دفع الإسرائيليين، إلى اغتيال قيادات ميدانية في غزة كانوا يشكون في أنّها تنشط في الضفة الغربية.
وكما تُظهر الأحداث، فإن الشبان في الضفة الغربية، ليسوا على وفاق تام مع السلطة الوطنية بشكلها الحالي، وبالتالي زيادة قواعد “القسّام” أو قدراته التجنيدية في الضفة الغربية، أيضًا يشي بالتصعيد، وهو الأمر الذي يدفع السلطة الوطنية إلى خانة ضغط التجديد والتحديث لاستقطاب الشبان، وتشكيل موقف جديد بين الضفة وغزة، إن استطاعت.
أخيرًا، شعبية حماس/القسّام في خارج الأراضي الفلسطينية، لا تعني أنها تترجم إلى قدرات تجنيدية أوسع، إلا في حدود العمليات المحددة (كحالة الزاوري في تونس)، لأنها، لا تمتك الأيديولوجية العالمية الممتدة للتحول إلى قاعدة جديدة مثلًا، وبالتالي، هذا يُسقط طروحات “دعشنة حماس”، لكن، في الوقت ذاته، فإن حماس/القسّام ما بعد السابع من أكتوبر ستعبر عن نجاح (ولا ندري مداه بعد وإن كان سيستمر في النجاح) لنموذج المجموعة الإسلامية الوطنية المقاتلة، وهي نماذج حركات لم تنجح في السنوات الأخيرة بحكم طغيان الجهاديّة العالميّة، لكنها اليوم ستمنح الشرعية لنجاح مثل تلك الحركات في الشرق الأوسط، وتبقى سؤالًا فلسطينيًّا مطروحًا بقوة، كما أُثير لدي، في تلك الليلة في غزة قبل سنوات ست.