الجيل الغاضب القادم في الشرق الأوسط!
لا يمكن التنبؤ بصورة كاملة بما سيكون عليه “وجه الشرق الأوسط”، الذي وعد نتنياهو (قادة المستوطنات في بداية الحرب على غزة) أنّه سيقوم بتغييره، فما زالت الحرب على غزة في أحد فصولها، ولا نعرف بعد أين سينتهي المطاف سياسياً، وإن كانت الكوارث الإنسانية بدت واضحة تماماً مع ما يتجاوز 15 ألف شهيد فلسطيني، أغلبهم نساء وأطفال، ومفقودون بالآلاف وجرحى بعشرات الآلاف، ومهجّرون ونازحون بمئات الآلاف، فضلاً عن تدمير شبه كامل للبنية التحتية وشروط الحياة الإنسانية، في القطاع المحاصر.
النتيجة الأولية لوجه الشرق الأوسط الجديد هي كمّ كبير من اللاجئين والمهجّرين زيادة على الملايين الآخرين، سواء من الفلسطينيين سابقاً (بالمناسبة أغلب مخيمات غزة هي للاجئين من مناطق فلسطين الـ48، بمعنى أننا أمام حالة نزوح جيلي، لأجيال متتالية، وربما لبقية الجيل السابق، الذي قامت إسرائيل بتهجيره من أراضيه ومنزله، بالطبع هؤلاء ينضمون للاجئين والنازحين السوريين، سواء في داخل سوريا أو في دول الجوار، ومخيمات جديدة تنصب ومزيد من البشر يتكدسون في شروط حياة غير إنسانية ولا طبيعية.
ثمة جيل جديد غير طبيعي ينشأ في المنطقة، خارج التغطية الإنسانية الحقوقية بالكامل، فعلى سبيل المثال؛ تشير وزارة الصحة الأردنية -على سبيل المثال- إلى أنّ عدد الولادات للاجئين السوريين في الأردن، منذ العام 2011 وصل إلى ما يقارب 200 ألف حالة، وأظهرت الإحصائيات أنّ معدل الولادة للسوريين أكبر من الأردنيين، بينما يتواجد 7 ملايين نازح سوري داخل سورية نفسها، و3 ملايين وما يزيد على 700 ألف لاجئ، ولبنان 900 ألف لاجئ، والأردن 650 ألف لاجئ، بينما العراق قرابة 347 ألف لاجئ، وأغلب هؤلاء اللاجئين، بخاصة في الأردن ولبنان والعراق والنازحين السوريين في شمال سورية يعيشون في ظروف سيئة وتحت خط الفقر والفقر المدقع، وهنالك آلاف اللاجئين اليمنيين منهم في الأردن وحدها ما يقارب 13 ألف لاجئ، وقبل ذلك اللاجئون العراقيون، منذ احتلال العراق 2003، وأخيراً انضم النازحون في غزة إلى قائمة المهجرين قسرياً من منازلهم وأحيائهم المهدّمة.
أضف إلى ذلك كلّه، ما سينشأ من غزة من جيل جديد يعاني من الأمراض النفسية والذهنية بعد الجحيم المخيف الذي عاشوا فيه، ونسبة كبيرة ممن بقوا على قيد الحياة سيفتقدون الحياة العائلية، لموت أسرهم، وآخرون تمّ تشويههم بالقصف والحرق، فهذا الجيل الجديد أيّ تحدّ يواجهه وما هي الآفاق المستقبلية التي يمكن أن ينظر إليها.
ديناميكيات التهجير مرتبطة بالضرورة بديناميكيات الراديكالية والقلق وعدم اليقين وصعود مشاعر وعواطف الغضب والسخط على الوضع القائم، وإذا كانت موازين القوى العسكرية تحكم بصورة كبيرة الواقع السياسي والعسكري، فإنّها تتحرك وسط بيئة اجتماعية نفسية وثقافية واقتصادية، وسيكون من السهل تجنيد نسبة كبيرة من الشباب الساخط من هذه الأوضاع، بخاصة إذا أضفنا إليهم “تركة داعش” والاف الفتيان المكدسين في معسكرات الاعتقال في سورية، ممن يتربون في ظروف غير طبيعية، فنحن أمام بركان تحت الرماد حقيقي يتمثل في جيل كامل مهمّش غير مستقر، يعيش حالة غير طبيعية.
النتيجة الثانية للشرق الأوسط الجديد تتمثل بصعود دور الفاعلين أشباه الدول Semi- State actors، فقد كشفت هذه الحرب وكثّفت من بروز الدور الجديد الرئيس لهذا النوع من الفاعلين في المنطقة، وإذا كانت النماذج الفاعلة في الحرب الحالية هي حماس (حكومة وميليشيات، من دون دولة ذات سيادة)، وحزب الله (جزء في الحكومة وجزء عسكري ميليشياوي)، وفصائل شيعية عراقية موالية لإيران (يشاركون في العملية السياسية ويحتفظون باستقلالية عسكرية)، والحوثيون الذين يمسكون بالحكم في صنعاء (لكن مع عدم اعتراف عالمي وإقليمي بهم) وحفاظهم على ميليشيات عسكرية خاصة، وإذا ضممنا إلى هؤلاء مجموعة أخرى من الفاعلين المشابهين، ممن لم يدخلوا مباشرة في الحرب الحالية، مثل هيئة تحرير الشام في إدلب، وقوات سوريا الديمقراطية الكردية، فسنجد أنّ هنالك تراجعاً ملحوظاً للوزن العسكري للدولة الوطنية في الديناميكيات الإقليمية لصالح هؤلاء الفاعلين الجدد.
صعود دور هذا النوع من الفاعلين يعكس فشلاً ذريعاً لمفهوم الدولة الوطنية العربية، والعودة إلى الانتماءات العرقية والدينية والطائفية، وتفكك سيادة الدول في المنطقة (لبنان، العراق وسورية، وفلسطين بطبيعة الحال)، ويعكس أيضاً ازدهار في العلاقات البينية العابرة للحدود، بخاصة تلك الجماعات التي تمثّل امتداداً للنفوذ الإيراني، أو ما يطلق عليه حلف الممانعة، بالإضافة إلى تغيّر في طبيعة الحروب العسكرية في المنطقة وبروز ما يسمى الجيلان الرابع والخامس من الحروب (التي تقوم على حرب المدن وقتال الشوارع والحرب النفسية والدعاية والتضليل بديلاً عن الحرب النظامية التقليدية وحرب الصورة والروايات الإعلامية في الحسابات الالكترونية الافتراضية)، وهذا كله مصحوب بازدهار الحروب بالوكالة بين الأطراف الدولية والإقليمية، وهو ما شهدناه سابقاً جلياً في سورية والعراق، واليوم في الحرب على غزة.
أم النتجية الثالثة المهمة فتتمثل في ردّ الاعتبار للقيمة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط في السياسات الدولية، فبعد أن تطور إدراك أميركي منذ عقد من الزمن، بداية من الرئيس باراك أوباما، الذي تحدث علنا عن تراجع قيمة الشرق الأوسط الاستراتيجية بالنسبة له، مروراً باستراتيجيات الأمن القومي الأميركية التي تعطي الأولوية للصين وروسيا، فإحدى نتائج الحرب الحالية، بدايةً، بإعادة التفكير في الشرق الأوسط، ومراجعة السياسات الأميركية، لأنّه من الواضح أن قيمته وأهميته تتجاوز الاعتبارات الاقتصادية والتجارية، فمن الواضح أنّ هنالك ما هو أبعد من ذلك على الصعيد الديني والرمزي والتاريخي والثقافي، الذي يربط الدول الكبرى بالمنطقة، بخاصة القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن تتجاوزه في المرحلة القادمة.
هذه بعض الدلالات والتداعيات الإقليمية الأولية للشرق الأوسط القديم بمشكلاته وأزماته وسياقاته والجديد بفاعلين وديناميكيات مختلفة عن المرحلة السابقة، لكن بالتأكيد ثمة تداعيات ودلالات أخرى ستتبدى مع مرور الوقت ومع بروز صورة أكثر وضوحاً لنتائج الحرب العسكرية على غزة.
محمد أبو رمان، استاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي لمعهد السياسة والمجتمع في عمان.