آخر محطات الصراع العلماني – الديني ومآلات حرب غزة على التكوين المجتمعي الإسرائيلي
مقدمة
دخلت حكومة بنيامين نتنياهو ذات الائتلاف الديني الصهيوني الحرب في أوج سخط المكونات الشعبوية والنخبوية على حد سواء مع توسع دائرة طرح العديد من الأسئلة الوجودية لشكل التعاقد المجتمعي ومفهوم المواطنة منذ بدء ترسيخ إسرائيل كدولة. فسبق الحرب حالة شرسة من (الصراع العلماني – الديني) الذي رافقه نفوذ ديني غير مسبوق مع ازدياد حالات العنف من قبل اليهود المتطرفين في الضفة الغربية، ووجود فواعل سياسيين غير مرغوبين في العديد من الأوساط السياسية والاجتماعية، من أمثال بن غفير وزير الأمن القومي، وسموتريتش وزير المالية، نتيجة سلوكهم السياسي وطريقة إدارتهم لملفات حساسة، كملف الاستيطان، التي تثير حفيظة عدد من أطراف العملية السياسية في إسرائيل. وهذا كله يقبع تحت مظلة أزمة دستورية في واحدة من أشرس الحكومات التي جمعت ما بين اليمين المتطرف والصهيونية الدينية، وما صاحبها من خروج الآلاف في مسيرات تندد ضد الإصلاحات القضائية التي تسعى إلى تغول المتدينيين المتطرفين على المحكمة العليا (المفتاح الأخير في بوابة الديمقراطية الإسرائيلية) لصياغة مفهوم اجتماعي ديني جديد ومحاولة للتنصل من نزاهة المؤسسة السياسية والتهرب من عملية الدمقرطة والتحديث المتراكمة.
وفي ظل ذلك، سنستعرض، في المقال، أبرز ملامح ما كان عليه الصراع العلماني – الديني مع تعاظم المساحة للتيارات الدينية، ونطرح تساؤلات عن شكل العقد الاجتماعي الإسرائيلي في الحكومة الجديدة ما بعد الحرب ما إن كان سيأخذ حُلة جديدة أم سيعيش انتكاسة مستمرة لما سبقه من أحداث ما قبل 7 أكتوبر؟
موجة التديُّن المُصاحبة للانزياح نحو اليمين المتطرف
استمر الصدى الانتخابي لأحزاب اليسار وتوجهاتهم العلمانية /الملحدة -على حد سواء- في أوجها حتى عام 1992 عندما فاز حزب العمل وميرتس بـ 44% من الأصوات، وما بعد ذلك اعتبر نهاية حقبة تمركز اليسار حتى مجيء نتنياهو إلى سدة الحكم ليكون أكثر من تسّيد منصب رئيس وزراء في إسرائيل منذ عام 1996 بعدد 6 حكومات.
أما في الانتخابات الأخيرة عام 2022 حصل حزب العمل على 4 مقاعد، بينما حزب ميرتس كانت نتيجته صفر مقعد والذي لم يعبر نسبة الحسم. وهذا في واحدة من التفسيرات يدخل في حسابات تغير القواعد الانتخابية ومواكبة التطور والفراغ الذي ملأه اليمين المتطرف والصهيوني الديني في السياسات الإسرائيلية وتشكيل بنية المجتمع في حرب الـ 67 والـ 73 وما بعدهما والتي أصبحت التحولات تطال الائتلافات، وبدا تصدر الأحزاب يدور في فلك اليمين الإسرائيلي.
ومع سلسلة طويلة عقبها تفكك اليسار وتسيُّد اليمين واليمين المعارض لشخص نيتنياهو وتفرع أحزاب الوسط والأحزاب الموسمية في إسرائيل، تطرأ فواعل لها جذور ممتمدة لم تظهر بشكل مفاجئ بل بشكل متدرج وتتمثل بحكومة نيتنياهو الحالية. ولعل أبرز تصوير للانفجار الاجتماعي الذي برز على الساحة في شخوصه وسياساته تجاه الإسرائيليين وتجاه الشعب الفلسطيني هو ما وصفه الدكتور عزمي بشارة في كتابه (يهودية الدولة حتى شارون) قائلاً عن: “الصهيونية الدينية ودين تصهين”. ويبرز ذلك بالأرقام اليوم بتزايد عدد الناخبين للأحزاب الحريدية -وهي التيارات التي تتبنى اجتهادات فقهية متشددة في العلاقة ما بين الدين والدولة- حيث بلغت نسبتها 19%، ويجدر الذكر أن حزب بن غفير وسموتريتش وصل عدد ناخبيه إلى 20% من الشباب الجنود وذلك يفوق حزب الليكود حتى. وتنطلق جميع هذه النتائج من إرهاصات المساومات المتطورة التي قامت بها الحركات الدينية بما يتناسب مع حياتها المتدينة بالشكل الضئيل في الخوض بالسياسة والحيز العام، حتى تدريجيًّا باتت تدخل في اللعبة السياسية وتتوسع دائرة مساوامتها، وعندما تلاقت في الخط السياسي مع الاحتمالات المتوافرة، كان اليمين الصهيوني هو الخيار الأكثر منطقية في دمج الدين والصهيونية معًا وهنا تشكلت نواة شعبية ذات مصداقية توراتية نلمس شكلها بما نسميه “اليمين المتطرف والصهيونية الدينية”.
يعتبر الانطلاق من 1967 كمعجزة إلهية قامت بجمع كل يهودي متردد من صدق عودة الأرض وتوسع رقعة الاستيطان، وبعدها 1973 والتحول في الإدارة العلمانية ورفع أسهم التيار الديني القومي وحتى صعود اليمين في حكومة مناحيم بيغن في 1977 وزيادة التواجد الحريدي ومن ثم التحول في شكل الاقتصاد الإسرائيلي. كانت جميعها جذور تأسيسية لنفوذ ديني متصاعد مُصاحب للأيديولوجية الصهيونية ويوظفها خير توظيف في الأجهزة العسكرية والإعلامية وفي ترأس حركات قواعدها اجتماعية، حيث تشير العديد من الصحف الإسرائيلية في التعبير عن النمو في شعبية الأحزاب اليمينية (على السطح) على أنها لا تعدو أكثر من كونها امتداد للاتجاهات العالمية الحالية في أوروبا والعالم وخاصة ما بعد جائحة كورونا التي بدأت آثارها الاجتماعية والسياسية تظهر مؤخرًا.
ممارسـات المتدينين المتطرفين الإسرائيليين في الفضاء العمومي
هناك العديد من الاعتبارات المبنية على أسس فقهية شرعية لدى التيارات الدينية، ومنها التيار الحريدي، على فروعه التي تجعل من التواجد المتزايد لهؤلاء الأفراد جزء من الإشكاليات التي تؤرق المجتمع الإسرائيلي وتسهم في حدة الفروقات الديموغرافية والاجتماعية بينهم، ونذكر بعضها:
- معدل النمو المرتفع وغير المسبوق لدى التيارات الدينية وخاصة التيار الحريدي بمتوسط8 ولادات للمرأة الواحدة.
- حجم الاقتطاعات الكبيرة في ميزانية الدولة للمؤسسات التعليمية والمشاريع الدينية بمبالغ تفوق ما يتم اقتطاعه للمؤسسات التعليمية العلمانية بالإضافة للمعونات ومساعدات الضمان التي تُقدم لهم.
- تأخرهم عن ركاب الاقتصاد الإسرائيلي المتطور في المنطقة والعالم، وذلك بسبب التعليم التوراتي الذي لا يشمل دراسة اللغة الإنجليزية والعلوم والرياضيات مما يخلق أفراد غير قابلين للتوظيف والدخول في سوق العمل.
- تفرغهم للتعليم الديني ورفضهم الخدمة العسكرية وخاصة بتشديد من الحاخامات التقليدية.
- فرض الطقوس والممارسات الدينية على المجتمع العلماني منها منع المواصلات في شوارع المتدينين يوم السبت.
- محاولات تكسير محلات بيع الهواتف الحديثة المتصلة بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي (وذلك لما تبثه من أفكار غير مناسبة ومشتتة).
- الفصل بين الجنسين في العديد من المناسبات وفي المواصلات العامة وتغييب النساء من الفضاء العام.
- تقديم مقترحات لفرض اللباس المحتشم للنساء وفرض عقوبات تصل للحبس بناء عليه.
- الإشراف على الطعام ومدى مناسبته للشروط الدينية (Kosher).
- حالة الوفيات التي شهدتها التيارات المتدينة على إثر الاكتظاظات التي سُمحت بها في ظل جائحة كورونا في المدارس والمناسبات المختلفة.
- وصف المتظاهرين في الأحداث الأخيرة أنهم معاديين لليهود وحتى معاديين للسامية.
في الحديث عن مخصصاتهم والميزانية، فإن تزايد وجود ممثلين لهم في صنع القرار الإسرائيلي يجبر الحكومة على تقديم المزيد من المعونات والمساعدات لهؤلاء الأفراد استجابة لتشكيلة ائتلافاتهم التي تضمن تحقيق مطالبهم وذلك ظهر جليًّا في زيادة مخصصات الطالب الحريدي لما نسبته 40% أكثر من الطالب العلماني، علمًا أن التعليم الديني منفصل عن وزارة التعليم الإسرائيلية ولا يخضع لإشرافها المنهجي في المواد التعليمية، وهذا ما نشر في الصحف الإسرائيلية تحت عناوين انهيار اقتصاد إسرائيل بفعل التيار الديني الحريدي.
إذًا، نبني مما سبق أن الشرائح الإسرائيلية الأخرى والإحصائيات الرسمية تؤكد أن المكونات الدينية تشكل عبء اقتصادي على الدولة وعلى حساب الفرد العلماني الذي يعتبر “دافع ضرائب” لمثل هكذا حضور ديني وحيث كانت تحاول النخب الدينية بفرض هذا الطابع الديني بكل ما يحمله بجعبته من عوامل تأخير لسير المجتمع، وبحضور سياسي حزبي غير مسبوق يسعى لتقديم مقترحات حكومية لدعم مادي أكبر وأوسع للمؤسسات والأفراد المتدينين غير المساهمين في بنية السوق ورافض للآخر في الوقت نفسه.
في وصف المشهد ككل
في مقالة نشرت على واشنطن بوست لـ ستيف هاندركس حول الانقسام العلماني – الديني والأعياد الدينية، وصف فيها فترات الأعياد الدينية بالحروب بين العلمانيين والمتدينيين وما يجري فيها بشكل متكرر من مظاهر احتدام ومحاولات كسر الحواجز في المرافق العامة التي تفصل بين الجنسين. تناول ستيف ما جاء به الحاخام إسحاق يوتسف بقوله “إن الشخص الذي يأكل طعام non – kosher (أي ليس وفق المعايير اليهودية)، فدماغه تصبح غبية ولا يمكنه فهم الأشياء واستيعاب ما يجري”، وحيث كان رد لابيد -زعيم المعارضة – ” شعروا بالغباء قليلًا الليلة عندما تذكروا أنهم هم الذين يدفعون راتبه”.
يعرض دان بيري على Atlantic Council، أن 60% من طلاب المدارس الثانوية الحريدية يذهبون لمدارس لا تُدرِس الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية، مع تخصيص موازنات للتعليم الديني واقتطاع رواتب مدى الحياة للرجل الذي يدرس التوراة، كما يفعل 150 ألف طالب حاليًّا. حيث تظهر الأرقام الحكومية الرسمية أن مستوى مشاركة الرجال الحريديين في القوى العاملة لا يتجاوز 48% ومعظم هذه الأعمال تعتبر من تمويل الدولة للموظفيين المتدينيين، ويبلغ متوسط رواتبهم حوالي 2000 دولار شهريًّا وهذا أقل بنسبة 60% من المتوسط الوطني للرجال.
المتدينون والحرب على غزة
بعنوان “الدخول في مقدمات الحرب بقيادة حاخامية”، تستعرض Tehila Gado أنه مع استمرار الدراسة في المدارس الدينية وانكفائهم بالتوراة وحماية إسرائيل بالتضرع في ظل الصراع، هناك محاولات لتطوير مجتمع حريدي يتمتع بوعي مدني يشارك بنشاط في المجتمع الإسرائيلي، حيث ظهر بمظاهر تتمثل في طلب الرجال الحريديين التجنيد مع أنهم سبق لهم التأجيل في الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها. وذلك ولو كان بإقبال متواضع جدًّا فإنه يشكل حالة جديدة في داخل المكون الحريدي المنعزل المبتعد عن التأثير الخارجي وينظر وهو حامل توراته إلى المنفى الذي يتواجد فيه اليهود. وذلك مقارنة بالموقف المعارض الصارخ ضد التجنيد العسكري من قبل الحاخامات التقليدية. واستعرضت Gado في المقال العديد من الرسائل التي وجهها بعض الحاخامات الحريدية للمجتمع الحريدي للانخراط بشكل أكبر نظرًا لحجم المسؤولية والعبء الواقع على المجتمع الإسرائيلي. وبحسب الأوصاف العديدة فإن هذه الخطوات هي بوابة تغيير تدركها القيادات الحاخامية الحديثة في حالة الطوارئ هذه مقارنة بين القيادات الحاخامية التقليدية. وما الحالة الجديدة التي تولد في الحرب إلا مؤشر قد يتم البناء عليه من قبل الحكومة الجديدة بشكل ما.
وفق صحيفة هآرتس يعبرAnshel Pfeffer أنه وبالرغم من مساهمات الحريديين المتأخرة نسبيًّا مقارنة في العُمر والتحضيرات وترتيبات الاحتياط وقلة المهارة -على سبيل المثال التحاق يانكي ديري ابن زعيم حزب شاس وهو للتو في عمر الـ 40 الذي يتم فيه تسريح معظم جنود الاحتياط- إلا أن الجيل الأصغر من الحريديم يعيش ما يسمى بـ الأسرلة Israelization مع بدء الحرب من خلال رؤيتهم للإقبال من قبل الرجال والنساء في الدفاع ضد الحرب. وهذا لن يحدث مباشرة بعد حرب أو وباء على حد تعبيره بل بعمليات تدريجية مستمرة. وفي المقابل مع بصيص تغير في شكل المكون الحريدي مثلًا إلا أن القيادات السياسية أمثال حزب التوراة الموحدة يصرون على عدم تحويل التمويل المخصص لهم من ميزانية الدولة لبرامج الإغاثة للحرب، حيث إسرائيل لم تعد اليوم لديها مجتمع حريدي واحد بل انقسامات داخل انقسامات.
أما في مقابلة يهود إبراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، على BBC قال إنه على الرغم من أنه أكبر من يقود حملة احتجاجية ضدّ نتنياهو لكنه يعتبر أن هذه الكارثة وحدت الشعب الإسرائيلي.
خاتمة
في ظل سرد أبرز المظاهر التي يمثلها تطرف المتدينين بوجه المجتمع الإسرائيلي ومحاولة طرح أسئلة مجتمعية جديدة في هذه الحرب، فيجدر هنا أن نطرح أيضا العديد من التساؤولات منها؛ هل ما بعد انتهاء الحرب سنشهد مجموعة من التنازلات من قبل المتدينين في المجتمع الإسرائيلي؟ وهل رمزية وجودهم في الحرب مع محدوديته ستستغلها الحكومة الجديدة لصياغة عقد اجتماعي قائم على الشمول والتوافقية وتوحيد المشروع المجتمعي أم سيكون ما حدث عابرًا؟ هل سيتم طرح تنظير لهوية دولة لم تحسم المسألة بين مكوناتها الاجتماعية بعد؟ وهل حسابات النخب الإسرائيلية سترتطم بانقسامات مضاعفة عما خلفته وراءها قبل الحرب؟
هناك العديد من التصورات والتساؤلات حول المشهد المجتمعي والسياسي قبل وبعد الحرب في إسرائيل حيث هناك حالة تخوُّف من تصاعد النفوذ الديني في إسرائيل وعلو خطابات الكراهية وإقصاء الآخر وهذا يساهم في تشويه الواجهة الليبرالية الغربية التي تروِّج لها إسرائيل في الشرق الأوسط ويجعل منها ساحة عنف ديني مثل التي نقرأ عنها في عصور الظلام في أوروبا.
ولعل الانطلاق من أن 7 أكتوبر هي تذكير بأن حرب إسرائيل ما زالت مستمرة هي فرصة لتشكيل مجتمع إسرائيلي جديد بحساباته في الربح والخسارة قد يجد أن التنازل والمساومات هي الحل في استكمال سير المجتمع وذلك ليس ببعيد عن إسرائيل التي تترنح منذ مؤتمراتها الأولى وإرادة حاخاماتها من العديد من المصطلحات والاعتبارات التي تم تطويعها لأجل استكمال المشروع السياسي، وما الشكل الجديد المتوقع إلا محاولة لأخذ هذه الحرب كفرصة لإعادة ترتيب شكل التفاعلات الاجتماعية داخليًّا وتوظيفها سياسيًّا.