المشهدية الدامية: حرب الأدوار على تراب غزة
منذ الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى تناثرت الأسئلة التي تحاول فهم الحدث بسرعة تتوافق مع حجم الواقعة، انطلاقاً من أسئلة تحاول فهم دوافع عملية تبدو في صورتها الكلية على أنها “عملية استشهادية” كبرى، ومآلات الطوفان الذي فجّرته حماس وفصائل المقاومة في القطاع واحتمالات توسعه، وليس انتهاءً بمحاولة فهم ردود الفعل النادرة التي تنطلق من كل زاوية إقليمية وعالمية على رأسها رد الفعل الأمريكي.
على الرغم من أن حجم الأسئلة التي طُرحت في العشرين يوم الماضية، وحجم الأحداث التي أنتجتها تمكّن من إنتاج كتب كاملة عنها، إلا أن كل الواقع اليوم موصوف بحالة من اللايقين، ويبدو الجزم بأي نتائج أو مسببات ضربٌ من ضروب التعجّل، وهو ما يجعل محاولة الإلمام بالحدث كلياً ورسم سياقات واضحة تفسر منطلقهُ وتحدد مؤدّاه عملية غاية في الصعوبة. إلا أن المقال يحاول الإجابة على ثلاثة أسئلة محددة، الأول، الذي يحاول فهم دوافع إطلاق العملية وتوقيتها، أما الثاني فيحاول من خلاله تفسير التحرك الأمريكي وحجمه ومن خلفه الغربي، وأخيراً كيف يمكن لهذا المشهد أن ينتهي وتأثيراته على المنطقة؟
- طوفان الأقصى، لماذا؟ ولماذا الآن؟
تميزت عملية طوفان الأقصى ابتداءً بالمباغتة، ولربما يكون هذا العامل أهم العوامل الذي انبنت عليه، وعلى الرغم من التطورات النوعية التي أظهرتها كتائب القسام وسرايا القدس، إلا أنه لا يمكن القول بأن هذا الفارق النوعي في سلاح الفصائل في غزة هو كان مسبب انطلاق هذه العملية، بل ويمكن القول، إن عملية من هذا النوع كان يمكن أن يتم القيام بها منذ سنوات وإتمامها؛ فعملية الاقتحام بهذه الأعداد والتي نفذتها كتائب القسام والفصائل الأخرى، عملية اعتمدت اعتماداً أساسياً على إخفاء التوقيت والتجهيزات.
خلال السنوات السابقة ومنذ إطلاق اتفاقات ابراهام في المنطقة والبدء في مشروع التطبيع بدأت الفواعل الفلسطينية ترقب الخطر الحقيقي الناتج عن اتفاقيات التطبيع التي تمت بين دول عربية والاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً مع خلو هذه الاتفاقيات من أي مكاسب يحصلها الطرف الفلسطيني. فيما بعد حملت خسارة دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة وقدوم الرئيس الديمقراطي، بايدن، للسلطة آمالاً فيما يخص إعادة إحياء خطاب أمريكي أكثر عقلانية من الخطاب الذي تبنّى ما سمي بصفقة القرن. كما أن معركة سيف القدس في عام 2021 التي أتت رداً على الأحداث في القدس وحي الشيخ جراح خصوصاً عملت أيضاً على إعادة رسم المشهد بطريقة أو بأخرى،حيث أكدت على أن الحراك الفلسطيني والمقاومة مازالت حية على كامل الرقعة الفلسطينية، وأن تصفية القضية لن تكون مشروعاً سهلاً، وهو ما أمّل الفلسطينيين وخصوصاً حماس أن يعمل على تعطيل مشروع التطبيع المتسارع.
إلا أن المعركة لا تكاد تكون انتهت حتى بدأ الحديث عن اقتراب مشروع تطبيع سعودي-إسرائيلي، وهو ما أعاد تلك المخاوف عن تصفية القضية الفلسطينية وتصفير حساباتها خصوصاً عند الحديث عن السعودية التي كان من المتوقع أن تكون آخر من يذهب باتجاه هذه الاتفاقات.
جاء هذا إلى جانب انتقال أعين العالم إلى مساحات أخرى مثل أوكرانيا وبحر الصين، وشروع الاحتلال الإسرائيلي بتوسيع عملياته في الضفة الغربية سواءً العسكرية التي أودت بحياة الكثير من الفلسطينيين، أو الاستيطانية التي تستمر في ابتلاع مناطق واسعة من الضفة وتضييق الحالة المعيشية على الفلسطينيين هناك عن طريق حكومة اليمين التي صعدت في إسرائيل. وهو ما كان يجري في ظل صمت مطبق على الأصعدة الدولية، مما أرسل رسالة جديّة ومقلقة للفلسطينيين بأن قضيتهم تراجعت على سلم الأولويات الدولية، في ظل حالة من الفوضى العربية على صعيد التفاهمات العربية-العربية، وعلى صعيد الأمن العربي واستقرار النظم السياسية فيها.
إن كل هذه المؤشرات أرسلت رسالة واضحة للفلسطينيين بأن قضيتهم متجهة باتجاه التصفية والإغلاق، وهو غالباً ما دفع الفصائل الفلسطينية باتجاه اتخاذ إجراء احترازي باهض الثمن يعيد خلط الأوراق ومركَزَة القضية، ولربما أن مخاطر هذا الإجراء كانت حاضرة عند قيادة المعركة، التي كانت تعلم بصورة مؤكدة أن عملية بهذا الحجم يتضمن الرد عليها عدة خيارات، إلا أن أخطرها لن يكون أكثر سوءًا من قرار تصفية القضية بخطوات استراتيجية متسارعة، خصوصاً في ظل غياب مشاريع عربية مقتدرة أو عالمية جدية على مواجهة هذا التطرف المتنامي في داخل دولة الاحتلال.
- التدخل الأمريكي، الدوافع والدلالات:
خاض العرب والفلسطينيون مجموعة من المعارك والحروب مع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وعلى الرغم من المواقف الأمريكية الداعمة لإسرائيل تاريخياً، إلا أن هذه المواقف لم تأخذ هذا الطابع “الانفعالي” -إن صح التعبير- الذي تأخذه اليوم، فقيام الولايات المتحدة بإغراق شرق المتوسط بالقطع العسكرية وتعزيز منظوماتها للدفاع الجوي في المنطقة، وزيارة تل أبيب مرات متكررة من قبل بايدن ووزير خارجيته؛ لا يمكن قراءته على أنه عملية لمواجهة قطاع غزة والفصائل الفلسطينية الموجودة فيه، تلك الفصائل التي لا تمتلك منظومات دفاع جوي ولا سلاح مدفعية ولا سلاح جو يحتاج إلى شيء من هذه المعدات لمواجهته.
إن هذه التحركات يمكن تعليلها بمجموعة من الأسباب المباشرة والظاهرة، يقع على رأسها ضبط توسع الصراع وهو ما تم تداوله بصورة موسعة في الآونة الأخيرة، خصوصاً مع جبهة مفتوحة في أوكرانيا وجبهة محتملة في تايوان، ومع دقة فكرة أن هذه التحركات الأمريكية الموسعة تهدف إلى إيصال رسالة إلى إيران ووكلائها في المنطقة وحزب الله وسوريا مفادها بأن كلفة التدخل في المعركة ستكون باهظة وأن الولايات المتحدة قد تكون طرفاً مباشراً في الصراع ما يحد من احتماليات امتداد رقعة الحرب، إلا أن الرسالة الأهم قد تكون موجهة باتجاه الإسرائيليين؛ فالولايات المتحدة وبصورة جدية أبدت وفي عدة مواقع قلقها من تأثير اليمين الحاكم في داخل دولة الاحتلال، وهو القلق الذي سيكون مبرراً بصورة أكبر ومدفوعاً بمخاوف حقيقية من ردة الفعل بعد السابع من أكتوبر.
القلق من رد الفعل على العملية استوجب تحركاً سريعاً يرفع معنويات دولة الاحتلال ويضبط انفعالاتها، ويعمل على التدخل المباشر في التنسيق للعمليات العسكرية بحيث لا تقوم القيادة العسكرية والسياسية بإجراءات قد تؤدي إلى إدخال حزب الله بشكل أساسي في المعركة أو التورط فيما هو أوسع من ذلك، ولربما أن التعبير الذي استخدمه د. عبادة العلي، بأن التحرك الأمريكي هو “حماية لإسرائيل من نفسها”، هو وصف دقيق للسياق الذي يأتي فيه هذا التحرك.
لا ينفي هذا أن الولايات المتحدة وبالتأكيد لن تمانع تحصيل إسرائيل مكتسبات موسعة على الأرض طالما أنها تضبط هذه العملية وتركز انفعالاتها بشكل أساسي في غزة، وهو المطلب الأمريكي الأساسي لكل المنطقة وهو ما كان على رأس النقاشات التي خاضها الدبلوماسيون الأمريكيون مع زعماء الدول العربية، بل إنها تسعى إلى ذلك سعي إسرائيل إليه، فمشروع التهجير الذي تعمل إسرائيل لأجله منذ نشأتها ستقبل به الولايات المتحدة ما دامت هناك ظروف مؤهلة لإتمامه، والذي يبدو بأن الموقف العربي وعلى رأسه المصري والأردني هو العائق الأساسي في وجهه، آنياً على الأقل.
كما أن هناك بُعد متعلق بالانتخابات الأمريكية القادمة، فبايدن الذي قضى النصف الأول من ولايته في اشتباك حقيقي مع نتنياهو، كان يعول على صفقة تطبيع سعودية-إسرائيلية ترفع أسهمه لدى اللوبي الصهيوني في أمريكا، وهو ما يبدو أن عملية طوفان الأقصى قد قطعت طريقه، أو أجلته لأجل غير مسمىً، أي أن هذه المعركة هي فرصة بايدن التي لربما تكون الأخيرة لإثبات اصطفافه الحقيقي إلى جانب إسرائيل وتحصيل الدعم الصهيوني للانتخابات القادمة.
إن تحريك هذه القوة الأمريكية العسكرية الهائلة، متبوعةً بالقوة الغربية التي لحقت بها إلى المنطقة، والتحشيد الدبلوماسي الذي يمكن وصفه بأنه “جمهرة دبلوماسية” حول إسرائيل، والضخ الإعلامي الذي لم يخلُ من ادعاءات يتم نفيها بين الحين والآخر، أظهر اصطفافاً غربياً لم يُرَ في العالم منذ زمن طويل، حتى أن المحللين السياسيين يرون في حجم التحرك مكافئاً -إن لم يزد- على حجم التحرك الغربي تجاه غزو روسيا لأوكرانيا، وحجم التحرك هذا لا يمكن أن يُفَسّر عن طريق النقاط التي أسلفنا ذكرها مجتمعة، على أهميتها، فإن التحرك الحاصل في العالم الغربي يتجاوزها في الحجم ولا يكافئها.
إن القراءة الأساسية التي نرى من خلالها سبب هذا التحرك الأمريكي للمنطقة مرتبط بما يتجاوز إسرائيل والدفاع عنها، بل هو مرتبط بإعادة تعريف دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بل في العالم، فالولايات المتحدة وعبر العقد الماضي وانشغالها في عدة ملفات أخرى فقدت جزءً كبيراً من سيطرتها على الفواعل، وتم الإخلال بصورتها كقائدة للعالم أو على الأقل ضابط لإيقاعه وخصوصاً في الشرق الأوسط، لم تكن الولايات المتحدة لتُرى في مشهد أكثر انخذالاً من استقبال ولي العهد السعودي لبايدن بقرارات رفض زيادة الإنتاج النفطي، ولم تكن تتوقع بأن يمر مشروع تطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية عن طريق الصين، وعقد قمة عربية صينية بغياب الولايات المتحدة، إن هذه الأحداث بعد خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، وحالة من انفلات حكم الحليف الفرنسي في أفريقيا، وعدم استقرار الساحة الأوكرانية وعدم حسم المعركة هناك؛ أخلّت بصورة السيادة الأمريكية على العالم، وليس بصورتها فقط بل أخلّت بهذه السيادة فعلياً وبدأت الاتفاقات والتحالفات والانقلابات تحصل على عينها دون مشاركتها، وبدأت عملية التشكيك في قدرة الولايات المتحدة على حماية حلفائها، وترسيخ نفسها كضامن للاتفاقيات والأوضاع القائمة.
لربما أن الموقف يقود إلى حديث عالم الاجتماع غوفمان في كتابه “تقديم الذات في الحياة اليومية” عن “الإيمان بالدور الذي يؤديه المرء” وهي استعارة اجتماعية لعالم السياسة، مفادها أنه حين يؤدي فرد من الأفراد دوراً ما يطلب من مراقبيه أن يأخذوا هذا الدور والانطباع الذي يحاول أن يعززه على محمل الجد، في حين يطلب منه مراقبوه أن تترتب عليه عواقب وتبعات هذا الدور وتنعكس على الواقع، وهو ما لم يحدث في الآونة الأخيرة مع الولايات المتحدة التي تلعب دور القادر والضابط في عالم السياسة، في حين أن ما ينبني على هذا الدور من تبعات لم يتحقق في الواقع وشاهدنا انفلاتاً للأمور من بين يديها وحلفائها في كثير من المواقع في العالم، وهو ما يحتاج الآن ترميماً وإصلاحاً لاستعادة هذا الدور والمكانة المنبنية عليه.
إن هذا الوضع القائم الذي تعيشه الولايات المتحدة والذي تجذر في عهد بايدن، استلزم تحركاً يعيد موضعة القوة الأمريكية ومكانتها وقدرتها على التأثير في العالم، وهو ما وجدت الولايات المتحدة في الحرب الحالية بوابة تعبر منها إليه، فهي تستخدم هذه الحرب للتدخل القوي والثقيل في المنطقة حاشدةً الغرب من خلفها، الغرب الذي يشعر اليوم في ظل الأوضاع في أوكرانيا وفي أفريقيا أنه بالفعل بحاجة القوة الأمريكية كما لم يكن من قبل، وبحاجة إلى إعادة تعريف الغرب -الذي يرى إسرائيل جزءًا سياسيًّا وثقافيًّا منه- كطرف ذو منعة؛ لا يحتمل أن يتلقى ضربةً أخرى لمنعته -وقد تلقاها- دون أن يرد عليها أو يتحرك تحركاً يخبر العالم بأن الغرب بأدواته الإعلامية والدبلوماسية والعسكرية لازال موجوداً وقادراً على التحرك وفرض ما يريد على من يريد.
هذا المشهد الذي تتم محاولة إنتاجه، وعلى ما يبدو أن الدول العربية قد أنجت نفسها والعالم إلى الآن منه، من عصر جديد يتم فيه تثبيت حاملة الطائرات الغربية كطرف ذو فاعلية مباشرة على طاولة المفاوضات، ولربما أن الثبات على رفض عملية التهجير ضروري ومفصلي في هذا السياق، ولكن هذا الموقف لم يعد كافياً لا نوعاً ولا كمّاً؛ نوعاً، بأنه لابد من التصعيد في نوعية الرفض والضغط بحيث يذهب باتجاه الضغط لفتح معبر رفح وحماية المساعدات، والضغط باتجاه إيقاف الحرب، ومن ثم في حال عدم استجابته العملُ على التلويح بإلغاء الاتفاقيات الاقتصادية أو السياسية مع الاحتلال، وكمّاً بمعنى عدد الأطراف الداخلة في الرفض والتصعيد الدبلوماسي بحيث لابد من أن يأخذ هذا الرفض صورة الإجماع في المنطقة، والذي يحتم حدوث تغيّر في الموقف التركي الذي ظل ضعيفاً لغاية أيام قليلة ماضية، وقد يكون التغير التدريجي فيه قد بدأ انطلاقاً من إدراك حقيقي لما تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها تثبيته في المنطقة، فالتطور النوعي والكمي في الموقف هو ما سيقود إلى تعطيل محاولة ترميم بناء السيادة الغربية مرةً أخرى على أنقاض قطاع غزة وفرض الهيمنة على المنطقة.
- المشهد القادم، أين النهاية وما هي التبعات؟
في ذات الوقت الذي لابد للدول العربية أن تصمد في وجه الضغوطات الغربية والتصعيد لتحقيق تغيرات حقيقية على أرض الواقع، يتطلب الأمر منها اليوم على رأسها الخليج ومصر والأردن أن تعي ضرورة أن يأتي العون لغزة، وأن تتوقف الحرب، نتيجة ضغطهم وتصعيداتهم ومساعداتهم، أو على الأقل بمشاركتهم، أي أن لا يأتي ذلك عن طريق تدخل المحور الذي تتصدره إيران منفرداً، لأنه وبالقدر ذاته الذي يشكل فيه الانهزام أمام الضغط الغربي والقبول بمشروع التهجير أو القبول باستمرار الإجرام الإسرائيلي في القطاع خطراً حقيقياً على سيادة المكونات في المنطقة، وقدرتها على التعاطي مع الأمريكي والإسرائيلي لاحقاً، فإن تصعيد إيران قبلهم وأخذها لرصيد إنهاء المعركة سواءً كان بضغطها عسكرياً أو دبلوماسياً سيؤدي أيضاً إلى تمتين محور إيران في المنطقة وصعوبة مواجهتها ومواجهة وكلائها في الإقليم.
بل إن هذا لابد أن يكون أكثر استراتيجية، حيث لابد من إعادة النظر في القرارات العربية المتتالية التي أدت إلى إلقاء حماس والفصائل الفلسطينية المختلفة إلى جانب إيران وعزلها عن حاضنتها السنية، واتخاذ إجراءات معاكسة تجعل من الحركات الفلسطينية غير متأثرة بالنفوذ الإيراني قدر المستطاع، وهو ما أبدى مجموعة من القيادات الفلسطينية استعداداً جيداً له.
إن خيارات المشهد القادم واسعة جداً بحجم الرقعة المتوقعة لاتساع الحرب، يتمثل أفضلها في قدرة دول المنطقة ممارسة ضغط فاعل يدفع باتجاه رفع الغطاء الغربي عن المجازر الإسرائيلية في القطاع وإدخال المساعدات إلى غزة، ويتمثل أسوأ هذه الخيارات بانكسار المنظومة العربية أمام الضغوطات الأمريكية وقبول مشروع التهجير بعد تدمير القطاع وتقديم عشرات الآلاف من الشهداء، وبينهما خيارات عديدة، من ضمنها خيار توسع رقعة الصراع وهو الخيار الذي لا يمكن لأحد تصنيف اتجاهات الاستفادة منه، ففي الوقت الذي قد يغير من معادلة الصراع في الداخل الفلسطيني فإنه لا يملك أحد ضمانات تجاه المسار الذي سيأخذه.
بالرغم من مجموعة التحليلات هذه؛ إلا أنه على الأرجح، وانطلاقاً من التحليل القائل بأن الدافع الأمريكي في القدوم إلى المنطقة يتجاوز هذه الحرب، هو أن أكثر ما يفيد الولايات المتحدة هو استدامة المعركة قدر المستطاع بصفتها باباً مفتوحاً لحوارات موسعة لها في المنطقة يمكنها من خلالها أن تعيد ترتيب أوضاعها فيها، وهي حوارات ليست بالضرورة ودية، وليست بالضرورة في الغرف المغلقة وقد تتطور إلى مناوشات صغيرة ومضبوطة هنا وهناك تلعب دوراً في إعادة ترتيب الأوراق في الإقليم بما يضمن المصالح الأمريكية.
استدامة المعركة تعني بالضرورة تأخير العملية البرية، ذلك أن العملية البرية هي بداية نهاية الحرب، وهو لربما ما يظهر الآن تحت ذرائع متعلقة بالجاهزية، وليس المقصود أن الإسرائيليين على انقساماتهم غير متهيبين من دخول غزة، بل هناك في حساباتهم وزن كبير لما هو متوقع ومخاوف على رأسها توسع الصراع، إلا أن كل هذه المخاوف على ما يبدو تعززها رغبة الولايات المتحدة في إبقاء الحرب مستمرة في داخل غزة فقط وعدم توسعها وعدم إنهائها، وهو ما قد يدفع باتجاه توجهات للإسرائيليين في مرحلة ما أن يعملوا على خفض عدد الضحايا وإدخال المساعدات، في مقابل إطالة أمد المعركة عن طريق استمرار الغارات الجوية وتنفيذ عمليات برية تكتية لا عملية برية شاملة.
إن كل هذه المعادلات تبقى متغيرة وبشكل أساسي تبعاً لما ستقدمه فصائل المقاومة على الأرض، فالمتغيرات على الأرض لا يمكن الجزم بها، وصمود كتائب القسام والفصائل في القطاع يبدو أنه غير قابل للقياس إلى الآن، فالقطاع المغلق منذ 17 عاماً لا يعلم أحد ما فيه تقريباً ولا ما هو تحت أرضه، ولا حجم الذخيرة مع مقاتليه، وهذه كلها معاملات مهمة في ضبط خيارات المعركة لا سيما عند اتخاذ قرار الدخول البري.
خلاصة القول، هي أن الولايات المتحدة وقد أتت إلى المنطقة بهذا الوزن، قد تقبل بمغادرتها دون تحقيق الحد الأقصى من الطموحات الإسرائيلية، والمتمثلة بتهجير الفلسطينيين واجتثاث حماس، إلا أنها لن تقبل المغادرة قبل تحقيق ما أتت هي لأجله، لأجل مصالحها المتمثلة بإعادة صياغة المعادلة السياسية في الإقليم بما يضمن المصالح الأمريكية وعلى رأس ذلك المساعدة في توجيه ضربة قوية ترمم ولو جزئياً صورة الاحتلال.