ثريدز: سباق الهويّة ومفصليّة اليوم الأول
كيف تعزل منصات التواصل الحديثة مكونات المجتمع عن بعضها؟
أطلقت شبكة ميتا بالأمس موقعها الجديد “ثريدز” والذي وصف منذ بدء الحديث عنه بأنه الموقع الذي سينافس تويتر انطلاقًا من تشابه بعض خصائص الموقعين، فكلاهما يسمح بعدد محدود من الأحرف ويستخدم تتابع المنشورات الذي يسمّى في تويتر “ثريدز” ويميل إلى كونه تطبيق كتابي أكثر من كونه تطبيق لتداول المحتوى المرئي والمصور. في الساعات الأولى من انطلاق التطبيق تدفقت أعداد كبيرة لتسجيل الدخول إلى التطبيق ليصله 10 ملايين مستخدم في ساعاته السبع الأولى ثم ليصل إلى 25 مليون في غضون 15 ساعة الأولى من إطلاقه وهو العدد الذي لم يكن يتوقعه متابعو منصات التواصل الاجتماعي في اليوم الأول من عمر المنصة.
على صعوبة تقييم المنصة من يومها الأول إلا أننا هنا نحاول المرور بنظرة سريعة على ما جرى في الساعات الأولى من استخدامها، في محاولة لفهم الطريق الذي ستذهب إليه المنصة لاحقًا وخصوصًا في وقتٍ توضع فيه في منافسة تويتر وهو معلوم الهوية منذ سنوات طويلة، إذ تغلب حالة نخبوية إلى حد ما على أغلب حواراته ومشاركاته، إلى جانب مساحات أخرى فيه وإن لم تشترك الفئات فيها مع نخب تويتر في مضمون تداولها إلا أنها تنسجم معها إلى حدٍ بعيد في قواعد استخدام المنصة وشكل الممارسة فيها، كما تكون الفئات المختلفة فيه هوية استُصعِبَ استنساخها واستبدالها في مكانٍ آخر.
على الأقل وفي سياق المتابعة عربيًّا، وبعد تدفق هذه الأعداد الكبيرة من المستخدمين إلى المنصة انطلقت منشورات المستخدمين في ثريدز لتكون منشورات أكثر عفوية بسيطة لا تحمل طابعًا محددًا، وانقسمت بشكل أساسي إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول الذي كان يبدي أعجابه بالوجود في مساحة جديدة سهلة وسلسة التواصل، والقسم الثاني الذي كان يبدي استغرابه من تسارع ما يجري في المنصة وعدم فهمه لطبيعة ما يجري فيها، وأخيرًا القسم الذي أندفع وسط هذا التدفق وبدأ اتصالًا بلا قواعد، وتفاعلًا مشتركًا على قاعدة نحن أول الواصلين إلى مكانٍ بلا هوية، فكان معظم ما يشاركه هذا القسم هو لحظاته الحالية والتعليق عليها، أو المزاح و بعض أشكال المنافسة التي حُملت معهم من منصات أخرى على رأسها تيك توك، إلا أن المُلفت كان محاولة هذا الطيف فرض قاعدة أساسية في المساحة وهي ” لا للتثاقل هنا ” وتداول المستخدمون منشورات عديدة فحواها الرجاء بعدم تحول ثريدز إلى بيئة ثقيلة وخشبية ومتفلسفة كما وصفوها، تشابه برأيهم “تويتر” ، ومن هنا يمكننا الانطلاق في محاولة فهم الشكل الذي تتجه المنصة لتكون عليه.
أولًا: مَن أوّل الواصلين؟
إن جيل الألفية الثانية أو كما يوصف اليوم بجيل Z هو الجيل الأكثر قدرةً وكفاءةً في استخدام منتجات الثورة التقنية، وهو الأكثر مرونةً وسرعةً وتفرغًا أيضاً للترصد لآخر مستجدّات هذا العالم الافتراضي، وهو ما جعل هذا الجيل أولَ الواصلين إلى المنصة وبكثافة وحماس عاليين، حاملًا معه المؤثرين المحيطين فيه والمؤثرين عليه سواءً كانوا من ذات الجيل أو من الجيل الأكثر قربًا لهم، فطبيعة هذا الجيل في التعامل مع المستجدات التقنية تميل إلى الحماسة والترقب دون تعلّق كثيف بمساحات أخرى، أو بالأحرى دون شعور بتضارب من فكرة الوجود في أكثر من منصة بحضور شبه كامل، إذ أن هذا الجيل أصلًا ميّال لتنويع خياراته واهتماماته، بل إنه يميل إلى حالة من اللاإنتماء تجاوبًا مع متطلبات سيولة هذا العصر وقواعده وقيمه وحتى طبيعة العيش فيه التي تميل إلى اللاثبات، وهو موضوع مستقل ومطول لا نريد الوقوف عنده كثيرًا إلا أنه مفصلي في فهم طبيعة تحرك هذا المكون الشاب في المساحات الواقعية والافتراضية.
تبعًا لهذا، فإن خصائص ما تم تداوله على المنصة من قبل هذه الفئة الشابة يحمل خصائصها، وخصائص ما تشاركه على منصات أخرى وأكرر هنا مرةً أخرى أن أكثر ما يشبه هذا الجيل كان تيك توك حيث كانوا أيضًا أول الواصلين إليه، وفي وصف هذا المحتوى فهو محتوى غير مقيد أولًا لا بطبيعة الخطاب ورتابته ولغته، ولا بمنهجيته، ولا بشرط اختصاصه، وليس بالضرورة أن يكون كل ما يكتب هادفًا بمحتواه ومضمونه بل في غالب الأحيان هو على العكس تمامًا فهي عملية مطلوبة لذاتها، فالتواصل فيها قصدٌ بحد ذاته، كما أن الجزء الأكبر من خطاب هذه الفئة هو خطاب متخفف من أي حمولة فكرية تقليدية على الأقل، فهذا الجيل تطورت خُلطُته بالفضاء العام -عربيًّا على وجه الخصوص- في عصر غلب عليه الشك في كل مرجعية قائمة والميل إلى مجانبة العمل المنظم والمؤطر الذي قد يربط هؤلاء الشباب بأي حمولة فكرية تقليدية نتيجة أن هذا الجيل جاء بعدما تم امتحان معظم التشكلات الفكرية العربية التقليدية والتي لم يخرج أي منها بمشروع ناجز ملفت لهذا الجيل ولا لغيره على ما يبدو، من هنا نرى هذا الجيل أكثر ميلًا إلى بناء قدراته ومهاراته الشخصية والسعي لمراكمة الخبرات في سبيل رفع مستواه المعيشي، بدلًا من الخوض في دوّامات الأسئلة الكبرى، ومتاهات السياسة والفكر -من وجهة نظرهم- وما يمكن أن يوضع فيهما من جهد وطاقة، وإن كنّا نرى ارتباطًا جيّدًا لأبناء هذا الجيل أحيانًا بقضايا مركزية روحيًّا وعاطفيًّا إلا أنه ومقارنةً في الأجيال السابقة له لا يمكن وصفه إلا بأنه أكثر تخففًا من الحمولات الفكرية والمنهجية والهوياتية بكل أشكالها.
الخلاصة، أن المحتوى المتداول الذي يقوده هذا الجيل يميل إلى كونه محتوى يومياتي، وببعض الاهتمامات الشبابية من رياضة وكوميديا وتكنولوجيا، والأهم أنه لا يأخذ أي شكل قالبي مؤطر، بل يميل غالبًا إلى حالة متقدمة من المرونة تجعل شكله غير مرصودًا ولا ممنهجًا.
ثانيًا: ماذا يعني الوصول باكرًا؟
إن الوصول باكرًا يعني صبغ المساحة، والطبيعة ترفض الفراغ، والرسم على جدارٍ فارغٍ يثّبت قواعدًا لأي مشاركة عليه لاحقًا، والحاصل أن الخطاب الذي ذكرناه سابقًا شكّل الأرضية الأولية لأي نقاشات قادمة على المنصة، وهو ما دفع بكثير من المشاهير والمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذين لم يعتادوا هكذا خطاب أن ينسجموا مع الحالة الموجودة إلى حد بعيد ويتماهوا معها، أي أن محرك الخطاب وموجه الحالة الأكثر وزنًا كان الجيل الذي سبق إلى المنصة وعلّمها بسلوكه وطريقته، وهذا لا يعني أن المنصة ستبقى على هذه الصبغة وخصوصًا مع دخول أعداد كبيرة باستمرار إليها، إلا أن الصبغة التي سبقت إليها المنصة ستصعّب عملية التغيُّر، وستجعل الإزاحة في هوية المنصة بعيدًا عن هذا المربع بطيئة ومكلفة. ونتيجةً لهذا، لربما أن ما سيغل على هذه المنصة أنها ستكون المساحة النصيّة والكتابية لجيل الألفية ورواد Tik Tok، فهذا الجيل يرى اليوم في تويتر منصة ذات حمولة نخبوية أثقل من أن يتحملها، ويرى في فيسبوك منصة تقليدية أقدم من أن تواكب احتياجاته، وأصبحت غايةً في الكهولة نتيجة أنها المنصة التي دخل إليها جيل الكبار من آبائهم وأجدادهم وهم الذين لا يملكون طاقة وخبرة الانتقال إلى منصة أخرى فأصبح فيسبوك منصتهم ومقرّهم الذي صار أقرب ما يكون لديوان اجتماعي لتلقي المباركات والتعازي!
إن كل ما ذكرناه سابقًا وإن كان يقلل من جودة المحتوى الذي سيتم تداوله على المنصة أو أي منصة يألفها جيل الألفية الثانية، إلا أنه لا يقلل من وزنها وحجم تأثيرها، في مجتمع فتي كالمجتمع العربي يعني هذا أن ما يزيد عن 40% من المجتمع هو مجتمع أقرب إلى تلك المنصات من منصات كتويتر وفيسبوك، والأجدر هنا بالقول أن ثريدز وإن كان سينافس منصة أخرى فهي فيسبوك أكثر من تويتر، لأنها ستسحب الجيل الذي لم يعد قادرًا على التعايش مع كهولة فيسبوك إلى ثريدز، بينما وبهذه الصيغة لا أعتقد أن هذه المنصة قادرة على سحب النخب الموجودة في تويتر، ولا السياق التعاملي والمعرفي الذي تم تطويره عضويًّا وعلى مدى ما يقرب من عقدين بحضور نخب منوعة، وأكثر ما يمكنها تحصيله غالبًا جيل شاب متخفف يبحث عن مساحات تواصلية سهلة عشوائية عقدها التعاملي الأساسي هو انخفاض كلف المواقف، وتدني سقف المتوقع، والسعي وراء المتعة والفضول.
ثالثًا: تشظي الفضاء الاتصالي
إن رصد مظاهر ما يجري في المنصة الحديثة ليس مهمًّا لذاته، بل هو مهم للسياق الذي يأتي فيه من دراسة حالة الفضاء العام الافتراضي، ورصد تشكلاته المستقبلية، إذ أن أهم ما يرصد في هذه التطبيقات الجديدة، التي توفر أدواتٍ سريعةً وسهلةً تنسجم مع متطلبات الحداثة وما بعدها، أنها قامت بجمع جيل الألفية ومجموعة ضيقة من المؤثرين فيه بعيدًا عن الأجيال الأخرى، وتكاد تكون كل محاولة اقتحام لهذه المنصات من قبل من يكبرهم سنًّا محاولات ضعيفة ما تلبث إلى أن تفشل وينسحب أصحابها إلى المنصات التقليدية، وهذا يعني أن الحاجز بين هذه الأجيال لم يعد حاجزًا على مستوى القابلية، والرغبة في التوجه إلى منصات جديدة وحسب، بل هو حاجز على مستوى المنهجيات السلوكية والتفضيلات العامة، والهوية الثقافية، وحتى الأولويات على صعيد القضايا العامّة، حيث أنه من الواضح جدًّا أن المنهجيات التي تصلح للتعامل مع هذه المنصات غريبة حد الانقطاع والانفصال عن جيل ما قبل الألفية، وما نراه اليوم نتيجة لهذا ظاهرة؛ يمكن وصفه بأنه “تطبّق جيلي” في المنصات عمومًا، وهذا يقودنا تدريجيًّا إلى حالة انفصال بين هذه الأجيال ليس في الفضاءات الافتراضية وحسب، بل حتى على أرض الواقع، وليس على مستوى الأدوات والسلوكيات وأنواع المعارف، بل إن هذا يقود تدريجيًّا إلى حالة انفصال هويّاتي ووجداني بين المكونات الاجتماعية.
إن استمرار هذه الحالة قد يعني استمرار تشكل المنصات بصورة جيليّة، تتطور تقنياتها وأدواتها وطرق التواصل فيها تاركةً أثرًا عميقًا على منهجيات التفكير بين الأجيال، وفوارق لربما يصعب مع الوقت ردمها أو بناء الجسور بينها، وهو ما يعني تضارب الأولويات حتى في القضايا الكُبرى في داخل المجتمعات لا على أساس المعتقد والفكر والبرنامج، بل على أساس الجيل والعمر والتقنيات، وهذا لا يعني أن الفئات الجيليّة ستكون متناغمة في داخلها، بل إنها ستحمل تناقضات وتضادات متنوعة، إلا أن القاسم الأكبر سيكون الجيل لا القضية وفقًا لحجم المسافة بين الجيل والآخر.
ومرةً أخرى، لا يمكن الحكم على المنصة من يومها الأول، وهي مقاربة مستعجلة، ومن الممكن بدلًا من تحوّلها لمنصة جيل الألفية الثانية، كما ذكرت سابقًا، من الممكن جدًّا أن يخبو ضوء هذه المنصة ولا تستمر وهو ما حصل مع عديد من المنصات. يبقى أن هذه المنصة يقف وراءها دعم شركة “ميتا” وخبرتها، وأيضًا قد يحصل أن تغير كثافة الداخلين إلى المنصة صبغتها وتخفف من حدة هذا الانفصال بين الأجيال المختلفة، إلا أنه يشكل تحديًا صعبًا أيضًا في ظل سبق فئة معينة إلى التطبيق، وعدم قدرة المنصة على سحب نخب متنوعة إليها من تويتر لتكون بديلًا عنه.
تبقى الفرصة الكبرى لثريدز هي تراكمات التغيرات التي يجريها إيلون ماسك في تويتر والتي يظهر جليًّا أن مجتمع تويتر وجدها مزعجة ومستفزة لحدٍ ما مما قد يجبره على البحث عن بدائل.