تبعات الوضع الاسرائيلي الداخلي على الاردن والقضية الفلسطينية
د.مروان المعشر
هذا الانقسام اليهودي الداخلي ليس انقساما حول العملية السلمية، بل هو انقسام يتعلق بطبيعة النظام السياسي فقط، ولا علاقة له بالسلام
تمر إسرائيل بوضع داخلي منقسم لم تشهد مثيلا له منذ قيامها. لا زلنا في العالم العربي قاصرين عن تحليل طبيعة هذا الانشقاق و أبعاده على القضية الفلسطينية كما على الاردن. ولعلني اليوم احاول تسليط الضوء على بعض أبعاد ما يجري، كما احاول اقتراح بعض التوصيات لكيفية التعامل مع هذا الانشقاق.
هذا المعسكر يزيد على التطرف القومي تطرفا دينيا، و يؤمن بأن الله وهب اليهود وطنا في “اسرائيل الكبرى” التي تشمل الأردن وفلسطين
أولا علينا أن نعي أن بعض أعضاء الحكومة الاسرائيلية و على رأسهم وزير الامن القومي ايتمار بن غفير ووزير المالية بيزلاليل سموتريتش ينتمون الى ما يدعى بمعسكر الصهيونية الدينية التي تجمع بين التطرف القومي والتطرف الديني، وبينما كانت الصهيونية حركة مدنية متطرفة، فإن هذا المعسكر يزيد على التطرف القومي تطرفا دينيا، و يؤمن بأن الله وهب اليهود وطنا في “اسرائيل الكبرى” التي تشمل الأردن وفلسطين، و ان الشعب اليهودي ليست له افضلية على اي شعب اخر فحسب، بل له السيادة وحده على “ارض اسرائيل”، و ان ليس للشعب الفلسطيني حقوق مماثلة لليهود فحسب، ولكن ليس له حق الوجود على أرض فلسطين التاريخية. كما يتبنى هذا المعسكر موقفا متطرفا في تعريفه لمن هو اليهودي وفي تفسيره للتوراة، ويعتبر الصهيونية التي تأسست على قواعد مدنية حركة كافرة لعدم اتباعها للشريعة التوراتية كما يروها. من المهم جدا أن نفهم هذه الأبعاد التي تجعل من الحكومة الاسرائيلية الحالية أكثر الحكومات تطرفا من الناحيتين القومية والدينية، بل ويمكن وصفها بالحكومة الداعشية اليهودية. إن فهمنا ذلك، ندرك طبيعة هذا الموقف الأيديولوجي المتطرف غير المستعد لأي نوع من النقاش أو المرونة.
يرغب العديد من أعضاء هذه الحكومة تغيير النظام القضائي الاسرائيلي لجهة اضعافه و الهيمنة عليه من قبل الكنيست والحكومة، وذلك لاعتبارات عدة اهمها ان هؤلاء المتطرفين يعتبرون المحكمة العليا في اسرائيل و اغلب القضاة مدنيين يساريين كفرة، و بالتالي يودون استغلال جنوح المجتمع الاسرائيلي لليمين كي يفرضوا إرادتهم المتطرفة على باقي المجتمع من خلال الكنيست والحكومة ضاربين بعرض الحائط نظام الفصل والتوازن الذي يضمن عدم تغول اي من السلطات الثلاثة على الاخرى والذي يشكل أحد اهم الركائز لأي دولة تدعي الديمقراطية نظاما لها. وفي حين أن نتنياهو ظل مدافعا طيلة حياته السياسية عن استقلال النظام القضائي الاسرائيلي، فان حاجته لهؤلاء المتطرفين لتشكيل الحكومة وسن قوانين جديدة تضمن بقائه خارج السجن أدت إلى تبنيه لهذا الانقلاب القضائي الذي يدعوه زورا “بالإصلاح القضائي”—كما دعا ترامب خطته لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي زورا ايضا بـــ “صفقة القرن—وتخليه عن حذره المعروف في اتخاذ سياسات خلافية داخل اسرائيل في السابق.
“الجميع” في نظر المحتجين الإسرائيليين هو الجميع اليهودي فقط.
ولكن هذه التعديلات المقترحة تواجه اليوم معارضة غير مسبوقة داخل المجتمع الاسرائيلي اليهودي. من المهم ايضا قبل الاسترسال في موضوع الانقلاب القضائي أن نذكر أمرين: الأول أن الانقسام الداخلي الاسرائيلي يتعلق بالمجتمع الاسرائيلي اليهودي فقط، و الذي تشعر بعض مكوناته أن حقوقها المدنية تنتهك اليوم من زمرة متطرفة حاكمة، ولم تشمل الاحتجاجات الاسرائيلية القائمة اليوم اعتراضات للانتهاكات التي تجري ضد الفلسطينيين ومنذ انشاء دولة اسرائيل. تتوقع المجموعات اليهودية المناوئة لهذه التعديلات من فلسطيني الداخل مشاركة الاسرائيليين اليهود في هذه الاحتجاجات، بينما ينأى المجتمع الفلسطيني ممن يحمل الجنسية الاسرائيلية عن ذلك باعتبار أن الدعوة من أجل “الديمقراطية للجميع” وهو شعار يرفعه المحتجون باستمرار لا يشمل المكون الفلسطيني، فــــ “الجميع” في نظر المحتجين الإسرائيليين هو الجميع اليهودي فقط.
الامر الاخر هو ان هذا الانقسام اليهودي الداخلي ليس انقساما حول العملية السلمية، بل هو انقسام يتعلق بطبيعة النظام السياسي فقط، ولا علاقة له بالسلام. ولذا ينضم للاحتجاجات اليوم عناصر من الجيش واتحاد العمال وحتى بعض المتدينين، وهو من هذه الناحية اكبر بكثير من أي احتجاجات اخرى شهدتها الدولة الاسرائيلية في الماضي، لأن هناك غالبية اسرائيلية تشمل من صوتوا لنتنياهو ممن ترفض هذه التعديلات وتخاف على مستقبل الدولة اليهودية.
عودة لماهية الانقسام. ما فتأ الاسرائيليون يدعون انهم يعيشون في نظام ديمقراطي هو الوحيد في المنطقة، متغاضين تماما أن الديمقراطية لا تتماهى مع التمييز ضد جزء من المواطنين هم السكان الفلسطينيين الأصليين. ولكن اسرائيل، ولأسباب عدة، نجحت في جعل العديد من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تردد هذه المقولة بل و تؤمن بها. أما اليوم، فإذا نجحت محاولات تقويض نظام الفصل والتوازن الاسرائيلي، فلن تستطيع اسرائيل بعدها لا إقناع مواطنيها ولا اقناع العالم بأنها دولة ديمقراطية حتى وان استثنت المواطنين العرب.
علينا عدم تقليل تداعيات هذا التقويض. إن من أهم الأسس التي بنيت عليها العلاقة الاسرائيلية الاميركية، ليست فقط بين الادارات الاميركية المتعاقبة و اسرائيل، بل أيضا بين الجالية اليهودية الاميركية و يهود اسرائيل، هو الشعور الغالب في الماضي ان اسرائيل واميركا يتقاسمان قيما مشتركة هي الديمقراطية و الليبرالية. هناك شعور متزايد اليوم داخل الجيل الجديد للجالية اليهودية الاميركية لا يرى هذه القيم المشتركة كما يراها الجيل القديم، بل يشهد بصورة متزايدة دولة تحتل الغير وتمارس التمييز العنصري ضد جزء من مواطنيها كما الفلسطينيين تحت الاحتلال، وهي اليوم تقوض أهم ركائز الديمقراطية. و في حين قد لا يعني ذلك تحولا انيا في السياسة الاميركية نحو اسرائيل، فالخطأ البالغ أن لا يتم استغلال هذه النقطة سياسيا واعلاميا لفضح الخطاب السياسي والإعلامي الاسرائيلي في العالم بأسره.
اضافة لذلك، فان هذه الحكومة الاسرائيلية ترغب في سن قوانين جديدة لا تعترف بيهودية العديد من اليهود في العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، اضافة الى قوانين ضد اليهود غير المتدينين في اسرائيل، وضد المسيحيين ايضا. يجري كل ذلك بينما يقف العالم العربي متفرجا على ما يجري، وكأن الأمر لا يعنيه. وبينما يواصل العالم العربي التركيز على ترداد دعمه لحل الدولتين دون اقتران ذلك بأي خطة واقعية لترجمته، هناك فرصة واقعية ان احسن استغلالها لفضح الممارسات العنصرية الاسرائيلية والتركيز على مقولة ديمقراطية اسرائيل و ممارستها للابرتهايد ما يمكن أن يجلب للجانب العربي شركاء جدد لم يكونوا من مناصري القضية الفلسطينية في السابق.
ما يجري في اسرائيل بداية تحول خطير قد يكون في صالح الجانب الفلسطيني والعربي أن تم تبني مقاربة استراتيجية جديدة للتعامل مع دولة الاحتلال والتمييز العنصري. لقد اثبتت الاتفاقيات الابراهيمية عجزها عن لجم اسرائيل او تليين مواقفها أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.
سياسة التكيف العربي مع اسرائيل لن تنجح في لجم نظام أيديولوجي صهيوني متدين متطرف يؤمن بأن لا حق للفلسطينيين في الوجود على أرضهم. كما أن تعظيم التعاون الامني والاقتصادي مع اسرائيل لن يفعل شيئا لتليين الموقف الاسرائيلي، بل ستستخدمه اسرائيل للمزيد من الضغط على كل من يضع جزءا من قطاعاته الحيوية بيدها. مطلوب اليوم مقاربة علمية ممنهجة للتعامل مع اسرائيل التي تحفر حفرة عميقة لنفسها، وليس سياسات تساعدها على الخروج من هذه الحفرة.