الغرايبة وأبو هنيّة يناقشان “الدولة المستحيلة”
عقد منتدى السياسة والمجتمع للكتاب جلسة نقاشيّة، ضمّت عددًا من الباحثين، الكُتّاب، والناشطين، حول كتاب “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي”، لكاتبه أستاذ الإنسانيات والدراسات الإسلاميّة في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، وائل حلّاق.
يطرح، حلّاق، بجرأة ووضوح في كتابه، الذي يعد إحد أهم الخلاصات التي توصل إليها بعد مؤلفاته وأبحاثه في الشريعة الإسلامية خلال العقود المنصرمة، إن “مفهوم الدولة الإسلاميّة مستحيل التحقق وينطوي على تناقضٍ داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة”، أي مستحيل التحقق إذا ما بُنيت على أساسات الدولة الحديثة -كما هي الدول عليها اليوم-؛ فالحداثة -من وجهة نظر حلاق- وما تحويه من مآزق أخلاقية تحول دون قيام الدولة الإسلامية الحداثية المتخيلة، أو ما يفضّل تسميته بـ (الحكم الإسلامي)، بالإضافة إلى أن الإشكالية مع الدولة الحديثة تكمن في ذات طبيعتها، إذ لا تصوغ فردًا مسلمًا -كما يرى حلاق- تعبّر عن ذاته كمسلم، في الوقت الذي لا تهيئ فيه “الدولة الإسلامية” القائمة شكلًا مقبولًا من حكم الشريعة الأصلي.
لا يسعى الكتاب، كما يوضّح حلاق، إلى أن يُشعر المسلم بحالة من الإحباط واليأس من عدم قدرته على الافتكاك من الحداثة التي وجد نفسه فيها مسيّرًا لا مخيّرًا، بل غاية حلاق هي توفير “الحياة الحسنة” التي تستند إلى الموارد والامتدادات القيمية والحضارية والأخلاقية (الديونطولوجيّة) للإسلام، “إن تكوين الهوية الإسلامية يعني سيادة الشريعة باعتبارها الأخلاق الحاكمة للسلوك الإنساني. فلا هوية إسلامية من دون هذه الأخلاق “.
ويشير وائل حلاق إلى أن أزمات الإسلام السياسية في الشرق ليست بمعزل عن ما يشهده العالم الحديث في الغرب.
يرى الباحث في شؤون الجماعات والحركات الإسلامية، حسن أبو هنية، إن كتاب “الدولة المستحيلة” أثار منذ صدوره ردود فعل كبيرة وعديد من النّقاشات والآراء، مشيرًا إلى أنّ الكتاب الجيّد هو الّذي يطرح الأسئلة والاستفسارات، وتنبع أهميّة الكتاب من مؤلّفه.
ولفت أبو هنية إلى إنّ الدّولة في “الحكم الإسلامي” كانت تُنظّم المُجتمع استنادًا إلى الشريعة، وبعد الاستعمار تمّ إزاحة الحكم الإسلامي، وهذه العمليّة كانت مبنيّة على الإبادة والمحو.
بينما قدم الباحث والكاتب إبراهيم الغرايبة عددًا من الملاحظات المتعلقة بالكتاب، وتاليًا نصّها:
تقوم الدولة الحديثة كما يلاحظ وائل حلاق على خمسة مبادئ:
1- الدولة نتاج تاريخي محدد، ويستحيل وجودها إلا كحادثة تاريخية.
2- السيادة أيديولوجية أساسية تشكل الدولة وتتغلغل في نسيجها الاجتماعي. ولتحقيق السيادة يجب قيام الأمة حولها. وهي بذلك كما يقول كارل شميت تشكل شرعة لاهوتية عليا، أو هي المشرع القادر على كل شيء.
3- الدولة كيان قانوني تؤسسها الإرادة السياسية وتتجلى من خلال القانون تحتكر العنف لإنفاذ القانون.
4- تمتلك الدولة نظامًا إداريًّا وقانونيًّا، ويفترض هذا النظام امتلاكه سلطة ملزمة على المواطنين وكل ما يقع ضمن إقليم سيادتها.
5- الهيمنة الثقافية أو التسييس الثقافي. تدعم الدولة سيادتها وبنتيها القانونية بمجال ثقافي وطني مركزي، يضفي عليها الشرعية، ويجعل تطبيق القانون والالتزام به ثقافة طوعية، كما تنشئ قيم واتجاهات الولاء الوطني والتضحية لأجل الوطن.
نموذج الحكم الإسلامي
يقترح وائل حلاق مصطلح الحكم الإسلامي بدلًا من الدولة الإسلامية، وحدد شروط ومواصفات هذا النموذج أو النظام بما يلي:
1- تأسيس سيادة إلهية تترجم فيها قوانين الله الأخلاقية الكونية، باعتبارها نظاما من المبادئ الأخلاقية إلى قواعد قانونية عملية.
2- فصل صارم للسلطات، تكون فيه السلطة التشريعية باعتبارها مكتشفة القواعد القانونية العملية المذكورة مستقلة بالكامل، وتمثل صورة حقيقية مصدر كل القوانين في البلد.
3- السلطتان التشريعية والقضائية منسوجتان نسيجًا أخلاقيًّا لحمته وسداه خليط متكامل من الحقيقة والقيمة ومن “ما هو كائن” و “ما ينبغي أن يكون”
4- سلطة تنفيذية يقتصر عملها على وضع الإرادة السيادية موضع التنفيذ، ويسمح لها بإصدار لوائح إدارية مؤقتة وضيقة النطاق تتسق مع تلك الإدارة.
5- وضع تكون فيه القواعد القانونية العملية القائمة على الأخلاق في خدمة المجتمع، وتدعم المجتمع كمجتمع وتخدم مصالح ككيان مؤسس أخلاقيًّا (يشمل هذا جرعة شافية من المساواتية ونظام عدالة اجتماعية قائم على القرآن).
6- مؤسسات تعليمية على كل المستويات، يصممها ويديرها مجتمع مدني مستقل استقلالًا كاملًا، وتشكله جدلية الشروط الخمسة السابقة.
7- نظام تعليمي ابتدائي وعال يطرح أسئلة عن معنى الحياة الفاضلة، ويجيب عليها، ولا يتناول العلوم والإنسانيات إلا بقدر ما تتطلب الحياة الفاضلة الأخلاقية (لا يجري التعامل مع العقل على أنه أداة).
8- تحول مفهوم المواطن بنجاح إلى مفهوم المجتمع الأخلاقي النموذجي الذي يرتبط كل فرد فيه بالآخرين بعلاقة أخلاقية متبادلة (هنا يختفي مفهوم السياسي بمعنى تضحية المواطن).
9- ممارسة أفراد الأمة المسلمة فن الاهتمام بالنفس ناظرين إلى أنفسهم جماعات وفرادى على أنهم امتداد للكون الأخلاقي.
التباين بين نظام الحكم الإسلامي ونظام الدولة الحديثة
1- تمتلك الدولة ككيان متمركز حول الإنسان رؤيتها المستقرة ضمن حدودها بوصفها إرادة سيادية، وهذا يعني أن نظرتها إلى العالم من صنعها، وأنها ملتزمة بمعاييرها الخاصة مهما تكن تلك المعايير قابلة للتغيير. وباعتبار الدولة أبرز تجليات الوضعية فإنها تعكس مفاهيمها وأبنيتها وممارساتها الخاصة.
ولكن الحكم الإسلامي لا يقبل بالوضعية، ويرى الأخلاق متعالية على النطاق الوضعي المتمركز حول الإنسان.
2- لا يسمح الحكم الإسلام بسيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله، فإذا كان للأخلاق أن توجه الأفعال الإنساني، وإذا ما كانت مستقلة، فيجب أن تؤسس على مبادئ الحق والعدل العالمية الأبدية، ويجب أن ترسم خطًا فاصلًا بين ما يمكن وما لا يمكن فعله، وتكبح جماح نطاق العقل عندما يؤدي إلى انتهاك نطاقها.
3- إذا كان الله هو وحده صاحب السيادة أي المصدر الأسمى للسلطة الأخلاقية، فإن أي نظام يضبط السلوك الإنساني يجب أن يهتم بالمعايير العامة والقواعد والأحكام المستمدة من المبادئ الأخلاقية العليا التي تمليها. وفي المقابل فإن الدولة الحديثة كإرادة سيادية تهب بطبيعتها السلطة التنفيذية سلطات ضخمة تنتقص من السلطة التشريعية والسلطة القضائية، وهذا يناقض مع نظام الحكم الإسلامي.
4- تنتج الدولة الحديثة رعايا يختلفون اختلافًا عميقًا سياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا ومعرفيًّا ونفسيًّا عما ينتجه الحكم الإسلامي.
5- تظل الدولة الحديثة في صراعها وتعاونها مع العولمة منخرطة في عالم الوقائع المادي فهي تؤازر وتعتمد على وجود إنسان اقتصادي هدفه الحصري والأساسي الربح المادي، وهذا يتناقض مع إنسان الإسلام الاقتصادي المكون أخلاقيا والخاضع لقاعدة أخلاقية أعلى. وهذه قيمة جوهرية في بنية الإسلام والحكم الإسلامي.
هل يمكن للمسلمين أن يؤثروا إيجابيًّا لأجل نظام سياسي عادل؟
يقول المؤلف يمكن للمسلمين أن يقدموا أشكالًا جديدة للحكم بالعمل على إنشاء نطاق مركزي اجتماعي أخلاقي وروحي يرشد النظام السياسي القائم في العالم اليوم. وبناء علاقة متوازنة مع بيئتنا الطبيعية، لا تكون فيه الذاتية الإنسانية معيار كل شيء؛ ما ينشئ أفقًا لمجتمعات بشرية تعيش معًا في سلام، فالعالم كله اليوم في مواجهة أزمة تهدد بقاءه المادي والروحي.