“الإسلام الشيعي” في السلطة
على مدار يومين من النقاشات والحوارات والأوراق البحثية، انتظم مؤتمر “الإسلام السياسي الشيعي في السلطة” الذي عقده معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية، وشمل موضوعات متعدّدة ومتنوّعة؛ تطور الفكر السياسي الشيعي، الإسلام السياسي في إيران ثم نماذج متعدّدة؛ الحالات: العراقية، اللبنانية، البحرينية، اليمنية، وسؤال تصدير الثورة في السياسة الخارجية الإيرانية، وجيوبوليتيك التشيّع بعد الربيع العربي، وموضوع المرأة الشيعية، بخاصة في النجف وحزب الله، وأخيراً السياسة الخارجية الأردنية والقوى الشيعية في المنطقة.
المفارقة أنّ هذا الموضوع، على الرغم من أهميته، لم يحظ بالاهتمام بالبحثي، ولا حتى النقاشات الفكرية والسياسية المطلوبة؛ فمؤتمراتٌ وكتبٌ وحواراتٌ كثيرة تناولت، خلال العقود الماضية، بخاصة بعد الربيع العربي، ملف الإسلام السياسي وصعوده، ثم انكساره، ونجد عشرات (إن لم نقل أكثر) المؤتمرات التي تناولت هذا الموضوع، في مقابل شُحٍّ حقيقيٍّ في ما يتعلق بالإسلام السياسي الشيعي.
صحيحٌ أنّ المؤتمر يهدف، في الأساس، إلى دراسة المجالات السياسية؛ لكنك في الحالة الشيعية لا تستطيع أن تفصل التاريخي عن المجتمعي، الثقافي والعقائدي والسياسي، إذ نجد عالماً مجتهداً وأحد تلاميذ آية الله منتظري، وهو محسن كاديفار، يعود، في ورقته ونقاشاته، إلى أصول الفكر السياسي الشيعي وتطوّره، بينما يغوص ساري حنفي وعلي طاهر حمود وحيدر سعيد وعلي المعموري وشفيق شقير وباحثون آخرون في نقاشات وجدالات حول الحوزات والمدارس والمرجعيات الشيعية بين لبنان والعراق وقم والنجف، وطبيعة العلاقة فيما بينها، والتحوّلات التي أصابت الجيل الشيعي الجديد وسؤال الهوية الدينية والسياسية والمظلومية الشيعية، وجدلية العلاقة بين القوى السياسية الشيعية وإيران ومفهوم الدولة الوطنية. كما ناقش عقيل عباس ومهند الحاج علي وعماد أبشناس وعبد الله الجبور وأحمد ناجي وفراس إلياس، ونقاشات حول المرأة الشيعية وأدوارها وأوضاعها (دلال البزري وإلهام مكي).
تناولت الجلسة الأخيرة من المؤتمر ملف العلاقات الأردنية – الإيرانية؛ وقدّم الباحث الشاب علاء عقل تأطيراً مهماً لتطور سياقات العلاقة التاريخية ولمحدّدات السياسة الخارجية الأردنية تجاه إيران، والقوى السياسية الشيعية التي تدور في فلك العلاقة الجدلية مع إيران، مميزاً، بصورة جوهرية، بين مرحلة ما قبل الثورة (العلاقة مع مملكة إيران) وما بعدها، ثم مرحلة الحرب العراقية، ولاحقاً احتلال العراق، فالربيع العربي، الذي نقل سؤال العلاقة إلى مرحلةٍ متقدّمة مع وجود قوى شيعية محاذية للحدود الشمالية للمملكة.
بالضرورة، سيكون الكتاب (يضم أوراق وأعمال المؤتمر لاحقاً) على درجةٍ من الأهمية، ويعطينا فرصة لاستكشاف مجالات سابقةٍ عديدة؛ لكن تبقى ملاحظات مهمة وخلاصات أساسية تعنينا، باحثين وسياسيين عربا، تتمثل أولاً بضرورة الخروج من كهف “الصورة النمطية” أو تسطيح التعامل مع الحالة الشيعية عموماً، بأبعادها المختلفة، وتجاوز المنظور العقائدي الحدّي في هذه النظرة وفي الفهم أولاً قبل الموقف، لأنّ المواقف التي لا تكون مبنيةً على قراءة دقيقة معمّقة وموضوعية، وهو ما أزعم أننا نفتقر لها بصورة كبيرة.
من السهل تخوين الشيعة العرب، عموماً، وإلقاء التهم عليهم، ووضعهم بالجملة في حزمة واحدة. ولكن هل سيكون ذلك مفيداً ومنصفاً، ليس فقط لهم، بل للمجتمعات العربية ولمستقبل المنطقة؟! في مختلف الحالات التي تناولناها، ثمّة تنوع وتعدّد واختلاف وتباين شديد بين أفكار (ومواقف) الشيعة العرب ومدارسهم الدينية. وفي العراق، مثلاً، هنالك اليوم خلافات ونقاشات عميقة في أوساط القوى الشيعية بشأن العلاقة مع إيران، وثمّة جيلٌ ثالث ( بعد احتلال العراق 2003) يرصد علي طاهر الحمود تحولاته الفكرية والسيكولوجية. وحتى في إيران، هنالك تحوّلات سياسية وفكرية وأسئلة كبيرة لمرحلة ما بعد خامنئي ومصير “أيديولوجيا الثورة الإسلامية هناك”.
إحدى الجمل المفتاحية في النقاشات، قدّمها وشرّحها حيدر سعيد، أن من الضروري أن يأخذ التعامل مع الشيعة الأبعاد الأنثروبولوجية والسياقات المجتمعية والثقافية، لأنّ مثل هذا المنظور سيجعلنا أقدر على فهم ديناميكيات الحالة، وكيفية التعامل معهم ضمن الأنساق الوطنية والاستراتيجية والثقافية والأخلاقية أيضاً، وسينعكس، بالضرورة، على تطوير مفاهيم الأمن والسلم المجتمعي والهويات الجامعة في أوطاننا الممزّقة.