القوى السياسيّة السنيّة، وإدارة مرحلة ما بعد الانتخابات
حملت الإنتخابات الأخيرة في العراق وما جرى بعدها من تداعيات العديد من المفاجآت والنتائج غير المتوقعة؛ فقدت شهدت صعود قوى جديدة وهبوط قوى كلاسيكية وأفول أخرى، وتحالفات بين قوى يُحسب أنها متضادة في عملها وتحالفاتها وخطابها العام.
ولعل أكثر التساؤلات التي تشغل المشهد السياسي العام في العراق حاليًّأ هو، هل سينجح رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر زعيم الكتلة الصدرية الذي حاز على 73 مقعدًا نيابيًّا في سعيه إلى تشكيل حكومة أغلبية وطنية إصلاحية –على حد قوله- تضم توافق القوى الفائزة من المكونات الثلاثة: الشيعية، السنيّة، والكرديّة؟ في ظل المستجدات الأمنية والتوتر السياسي الذي يعيشه العراق في هذه المرحلة، وإصرار الإطار التنسيقي للقوى الشيعية على تسمية رئيس وزراء توافقي.
تعد الساحة السنيّة إحدى أكثر الساحات تعقيدًا في العراق، فقد شهدت في الأعوام الأخيرة صراعًا محمومًا على المكاسب السياسية والنفوذ في المحافظات ذات الأغلبية السنيّة بين قطبي المكون، رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، ورجل الأعمال خميس الخنجر. ويعد هذا التنافس أشبه بصراع الفيلة داخل البيت السني مقابل تلاشٍ وضمور لنفوذ قوى وشخصيات سنية أخرى تقليدية كالحزب الإسلامي و أسامة النجيفي رئيس البرلمان العراقي الأسبق، سبقه انتكاسة كبيرة وجرح عميق لأبناء المكون –السني- بعد سيطرة تنظيم داعش على مناطقه لسنوات وما لحقه من معارك مدمرة بغية تحريرها وموجات نزوح وتغييب واعتقالات.
يتلخص مبرر هذا الصراع السني في السعي إلى زعامة المكون، وفي هوية من يأخذ ورقة التفاوض مع الكتل من المكونات الأخرى للحصول على كرسي (رئاسة البرلمان) الذي كرّس العرف السياسي السائد منذ عام 2005 على أن يكون لأبناء المكون السني، بالإضافة إلى الحصص من الحقائب الوزارية في الحكومة العراقية. خاصة وأن كلًّا من الطرفين يتبنى برنامجًا يختلف عن الآخر، فالحلبوسي عُرف بمشاريع الإعمار وإعادة بناء وتأهيل المحافظات السنية التي أنهكتها الحرب على تنظيم داعش، بينما يتبنى الخنجر قضية المعتقلين والنازحين والمغيبين من أبناء المكون السني. وكلا القضيتين تمسّان صلب الوجع السني بعد أعوام من المعاناة.
إلا أن هذه الساحة المحمومة تعد اليوم بالمقارنة مع الساحات الأخرى، هي الأكثر هدوءًا على مستوى العملية السياسية في العراق بعد انتخاب محمد الحلبوسي لولاية ثانية في الدورة التشريعية الخامسة عقب اتفاق عُقد بين الأخير و خميس الخنجر.
حصد تحالف “تقدم” الذي يترأسه محمد الحلبوسي الشاب المعروف ببراغماتيته على 37 مقعدًا، وهو ما دفع مقتدى الصدر إلى عقد مباحثات معه بصفته التحالف السني الحائز على أكبر عدد من المقاعد. بينما حاز تحالف “عزم” الذي يترأسه رجل الأعمال خميس الخنجر -والذي كان عرّابًا خفيًّا لقوى سياسية حتى عام 2010- على 14 مقعد فقط، لكنه استطاع فيما بعد أن يشكل ما سماه تحالف “العزم” والذي ضم 34 نائبًا فائزًا من قوى سنية صغيرة ومرشحين سنّة مستقلين ليساوي الكفة بذلك مع تحالف الحلبوسي، ويفتح مجال التنافس في خوض المفاوضات مع القوى السياسية من أبناء المكونات الأخرى. لكن قطبي الصراع السني -الحلبوسي والخنجر- اختارا التحالف واقتسام مكاسب المكون السياسية، على الرغم من خلفية العداء الشديدة بين كليهما وتراشق الاتهامات حتى وقت قريب.
شهد مطلع أكتوبر/تشرين أول عام 2021 –أي قبيل الانتخابات بأيام قليلة- زيارة الحلبوسي والخنجر إلى تركيا التقيا خلالها -بشكل منفرد- بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وما أن أُعلنت نتائج الانتخابات الأولية حتى خرج الطرفان ببيان يعلنان استعدادهما لبدء عقد مباحثات وتفاهمات مشتركة لرسم ملامح المرحلة المقبلة.
إلا أن هذه النوايا والتفاهمات لم تطبق بشكل واقعي على الأرض إلا بعد جولة قام بها كل من الحلبوسي والخنجر إلى دول عربية عدة، آخرها دولة الإمارات التي رعت وأدارت ملف المفاوضات بين الطرفين وأعادت ترتيب البيت السني من خلال إقناع الطرفين بالوصول إلى نقطة مفادها التجديد لمحمد الحلبوسي لولاية ثانية مقابل أن يذهب منصب نائب رئاسة الجمهورية إلى خميس الخنجر.
قبل يوم من عقد الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي لتحديد رئيسه الجديد، أعلن كل من الخنجر والحلبوسي تحالفهما وأن الأخير هو المرشح لرئاسة البرلمان الذي سينافس مرشح الإطار التنسيقي محمود المشهداني رئيس البرلمان الأسبق في الدورة التشريعية الأولى 2006 – 2010.
دفع هذا التحالف إلى عقد تفاهمات مع كل من الكتلة الصدرية والحزب الديمقراطي الكردستاني(البارتي). وعلى الرغم من مجريات الجلسة الأولى ومحاولات رئيس السن ومرشح الإطار التنسيقي لرئاسة البرلمان “محمود المشهداني” لتعطيل الجلسة، إلا أن التحالف نجح بالتنسيق مع الصدريين والبارتي وقوى سنية صغيرة ونواب مستقلين بتمرير محمد الحلبوسي لولاية ثانية بعد أن حاز على 200 صوت مقابل 14 صوت لمنافسه المشهداني.
وهذا ما أثار حفيظة الإطار التنسيقي للقوى السياسية الشيعية الذي اعتبر بدوره انتخاب الحلبوسي لولاية ثانية بأصوات المكون السني والكتلة الصدرية والحزب الديمقراطي الكردستاني، هو خطوة متقدمة لشق الصف الشيعي من الداخل في مؤامرة تقودها أطراف إقليمية – دولية للمضي نحو تشكيل حكومة الأغلبية التي يسعى إليها الصدر بدلًا من التوافقية كما جرت العادة، وبالتالي فإن ذلك قد يمتد إلى اختيار رئيس الجمهورية واختيار رئيس الوزراء وتشكيل حكومة بمعزل عن إشراك الإطار التنسيقي، مما فاقم من أزمة الإنسداد السياسي التي يشهدها العراق منذ إعلان النتائج الأولية للانتخابات. ووصل هذا الإنسداد إلى استهداف مقرات تابعة لكل من “عزم” و “تقدم” واستهداف منزل رئيس مجلس النواب بمجموعة من صواريخ كاتيوشا.
تبلور تحالف الحلبوسي – الخنجر إلى تشكيل تحالف السيادة والذي يضم 67 نائبًا من كلا التحالفين الذين قادا بدورهما جولة مباحثات مشتركة برئاسة الخنجر آخرها في النجف مع الكتلة الصدرية والحزب الديمقراطي الكردستاني. ولعل الصراع القادم على رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء تجعل “السيادة” حجر زاوية في المعادلة السياسية الحاليّة وإن أبديا التزامًا بعد فوز الحلبوسي بالمضي مع الصدر نحو مشروعه، إلا أن التحالف السني استطاع تجاوز الضغوط مبكرًا والتفاهم على تقسيم المناصب وعلى الحقائب الوزارية أيضًا.
خلاصات:
1- قد لا يُكتب لهذا التحالف البقاء وقد لا يعدو أن يكون مرحليًّا بل قد ينفرط عقده إلى ما بعد تقسيم المناصب المتفق عليها وتشكيل الحكومة وتقاسم الحقائب الوزارية خاصة وأن الخلفية العدائية والتنافسية بين الطرفين قد تحول دون استمراره؛ فالصراع بين الخنجر و الحلبوسي لم يكن فقط داخل البرلمان أو في الحكومة بل يمتد إلى إدارة المحافظات السنيّة أيضًا. لكن الأهم بالنسبة للطرفين تمرير ما تم الإتفاق عليه.
2- على خلاف المعهود، دخلت الإمارات بشكل صريح اللعبة وأصبحت ركيزة أساسية في تحديد المعادلة السياسية، بعد أن كان الدور مقتصرًا على كل من تركيا وقطر، عقب نجاحها في إقناع كل من الخنجر والحلبوسي بالتحالف، وبالتالي استطاعت إعادة ترتيب أوراق البيت السني المبعثرة في مقابل البيت الشيعي الذي يشهد حالة من التشظي و البيت الكردي الذي يشهد محاولات انتزاع الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) منصب رئاسة الجمهورية من الاتحاد الوطني الكردستاني (اليكتي).
3- التزام تحالف “السيادة” في دعم مشروع حكومة الأغلبية الذي يرسمه مقتدى الصدر -في حال نجاحه-، قد يؤدي بدوره إلى إعادة تشكيل العملية السياسية وطرح معادلة جديدة لم يشهدها العراق منذ عام 2003، والقوى السنية هذه المرة ستكون طرفًا في العملية السياسية أساسيًّا فاعلًا ومؤثرًا فيه لا على هامشها، هذا ما إن أبقت على تحالفها -الحلبوسي والخنجر- داخل البرلمان.