رسائل “داعش” الخطرة في العراق وسوريا
لم يختفِ تنظيم “داعش” عن المشهد العراقي والسوري فضلاً عن المشهد الإقليمي والدولي، فمنذ نهاية خلافته الواقعية في العراق وسوريا 2019 شن التنظيم نحو 5 آلاف هجوم في العراق وسوريا، وقد اعتمد في هجماته على تكتيكات عسكرية قليلة الكلفة وبسيطة وسهلة التنفيذ، لكن هجماته بدأت تأخذ نمطاً مركباً وعقداً في الآونة الأخيرة، وتشير هجمات تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) الأخيرة في العراق وسوريا إلى بداية الدخول في مرحلة جديدة أكثر عنفاً وأشد تعقيداً وأوسع نطاقاً.
ورغم ذلك كله فإن هجمات التنظيم الأخيرة في ديالى العراقية والحسكة السورية لا تشير إلى تحول جذري في استراتيجية داعش القتالية، لكنها تؤشر إلى بروفة مهمة للتحضير لخطط جديدة فهي هجمات نهدف إلى فحص وتقدير حجم وإمكانات قوة وقدرات مقاتلي التنظيم من جهة، وتجربة اختبارية للتعرف على قدرات القوات العراقية وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى ولمعرفة حدود استجابة قوات التحالف الدولي مع تدشين نسق جديد من الهجمات أكثر تعقيداً وأوسع نطاقاً، إذ يعمد تنظيم “داعش” عادة إلى تنفيذ هجمات اختبارية معقدة قبل التحول إلى إقرار خطط جديدة في إطار استراتيجية استنزاف بعيدة المدى.
منذ خسارة تنظيم “داعش” آخر مناطق سيطرته المكانية في الباغوز شمال شرق سوريا في آذار/ مارس 2019 عمل التنظيم على إعادة الهيكلة والتكيف مع الواقع الجديد، وعاد إلى العمل كمنظمة لا مركزية تستند إلى منطق حرب العصابات والاستنزاف تقوم على الحفاظ على مستوى منخفض من التمرد يعتمد على الثبات والصبر الاستراتيجي باستدامة شن هجمات وتصعيدها ببطء محسوب، وتشير الهجمات الأخيرة إلى أن تنظيم “داعش” سوف يتبنى تكتيكات جديدة لا تختلف عن الخطة القديمة جوهرياً بإسقاط المدن مؤقتاً، لكنها ستكون أكثر شمولاً وأوسع نطاقاً، حيث سيعتمد التنظيم في هجماته المستقبلية بصورة أكير على نمط العمليات الانتحارية والانغماسية والاقتحامات، مع بقاء تكتيكات الاغتيال والعبوات والقنص وغيرها.
تقع هجمات “داعش” الأخيرة في سياق اختبار قدراته الهجومية وفحص قدرات القوات العراقية والكردية، فقد شن تنظيم “داعش” هجوماً فجر الجمعة 21 كانون ثاني/ يناير الحالي، على أحد مقار الجيش العراقي في محافظة ديالى شرق البلاد قتل فيه 11 جندياً أحدهم ضابط برتبة ملازم، ثم انسحب التنظيم دون خسارة أي من مقاتليه، وعلى الجانب الآخر هاجم عناصر من تنظيم “داعش” سجناً يديره الأكراد في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا ليلة الخميس – الجمعة 20/ 21 كانون ثاني/ يناير الحالي، وتحولت المنطقة إلى ساحة حرب بعد تمرد داخلي وهجوم خارجي بدأته خلايا تتبع التنظيم في سجن الصناعة بحي غويران، ويضم السجن نحو 3500 سجين من عناصر وقيادات تنظيم “الدولة”، وقد شهد السجن خلال السنوات الماضية عدة حركات “تمرد”، ومحاولات اقتحام.
اعتمد التنظيم في الهجوم الأخير على السجن في الحسكة على نمط العمليات الانتحارية والانغماسية والاقتحامات والاشتباك المباشر، حيث قام بتفجير سيارة مفخخة بالقرب من السجن، وبدأ السجناء تمرداً داخل المهاجع التي يحتجزون فيها، ونقلت وكالة “أعماق” التابعة لتنظيم “داعش” عن مصدر أمني، أن مقاتلي التنظيم يشنون منذ مساء الخميس هجومًا واسعًا على سجن “غويران”، بهدف “تحرير الأسرى المحتجزين بداخله”، وأن الاشتباكات مستمرة في أماكن قريبة وفي أحياء أخرى، وتشير التقديرات الأولية إلى أن الهجوم أسفر عن سقوط أكثر من 90 قتيل وإصابة مئات آخرين.
تُعيد هجمات داعش على سجن غويران في الحسكة إلى الأذهان الجملة التي أطلقها عامي 2012 و2013 والتي أطلق عليها خطة “هد الأسوار” وتمكن خلالها من اقتحام سجني التاجي وأبوغريب، وإطلاق سراح نحو 800 من عناصره، وهو ما مهد للسيطرة على الموصل وإعلان الخلافة، وهو ما تكرر خلال أغسطس/آب الماضي، حين اقتحم مسلحو داعش سجن جلال آباد بولاية ننجرهار الأفغانية، وتمكنوا من إطلاق سراح نحو 1000 سجين، وهو ما ساهم بإعادة تأسيس ولاية “خراسان” التابعة لداعش في أفغانستان.
إن السيناريو الكابوسي يتمثل بنجاح داعش بتحرير مقاتليه من السجون والمخيمات، إذ يبلغ عدد معتقلي التنظيم بحو 80 ألفًا، موزعين على 20 مركزًا للاعتقال في سوريا والعراق، بينهم ما يتراوح بين 10 و20 ألف مقاتل سابق منهم 2000 أجنبي، فضلاً عن عدد غير معروف من الأسرى المحتجزين في سجون عراقية سرية، في حين تحولت زوجاتهم وأبناؤهم وأرامل المقاتلين السابقين إلى نازحين في مخيمات الاحتجاز.وتشكل عوائل مقاتلي التنظيم العدد الأكبر من المحتجزين في السجون ومخيمات الاحتجاز والنزوح، فعلى سبيل المثال يقبع 68 ألف نازح ومحتجز في مخيم الهول بسوريا، منهم 43 ألف طفل مؤهلين ليتلقوا الأفكار الأصولية، وبالتالي تخريج جيل جديد من الإرهابيين، وهو ما يضع المجتمع الدولي أمام تحدٍّ واضح.وتعد الأزمة الرئيسة في مواجهة أزمة المعتقلين، عدم جدية دولهم في استعادتهم، إضافةً إلى عدم إمكانية إثبات جرائمهم في سوريا والعراق أمام المحاكم المختصة في الدول التي ينحدرون منها، وتبذل قوات سوريا الديمقراطية مجهودًا كبيرًا للحفاظ على الأمن في السجون ومخيمات النزوح، وسط تنامي المخاوف من إمكانية تنظيم مقاتلي داعش لحملة “هدم أسوار” تكون محصلتها فرار المئات منهم إلى خارج السجون.
لم تكن هجمات تنظيم “داعش” في العراق وسوريا مفاجئة للمراقيبن، إذ تشير كافة التقييمات إلى أن خطر التنظيم في العراق وسوريا لم ينته، فادعاء القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” وإلحاق هزيمة كاملة بالتنظيم لا تزال بعيدة المنال، فمن المؤكد أن ما أنجز في العراق وسوريا هو القضاء على خلافة تنظيم “داعش” الجغرافية وإنهاء سيطرته المكانية فقط، إذ سرعان ما تكيّف التنظيم مع الهزائم وعاد للعمل كمنظمة، واحتفظ بقدراته على شن هجمات مباغتة وشبه منتظمة، بعد أن تحول من نهج الحروب الكلاسيكية والسيطرة المكانية والتمكين، إلى نهج الاستنزاف وحرب العصابات والنكاية، وانتقل إلى العمل بمرونة من حالة المركزية إلى اللامركزية، وتستند تقديرات قوة تنظيم “الدولة” وإمكانية عودته إلى مؤشرات عديدة إيديولوجية وهيكلية ومالية، ومنها الحفاظ على قدرة تشغيلية جيدة بزيادة حجم الهجمات وتنوعها في العراق وسوريا، ويوضح الانفوغرافيك الذي عنونته صحيفة النبأ التابعة لداعش بـ”حصاد الأجناد 1442″، أن عدد هجمات التنظيم بلغ نحو ثلاثة آلاف هجوم، نتج عنها مقتل وجرح أكثر من ثمانية آلاف شخص.
تشير تقارير استخبارية ودراسات بحثية متنوعة إلى أن عودة تنظيم “الدولة” في العراق وسوريا ممكنة، إذ لا يزال الاستقرار بعيد المنال، فقد شهد العراق تصاعداً لهجمات “داعش” في ظل ديمومة المظلومية السنية وتنامي المشاعر الطائفية تجاه النفوذ الشيعي والإيراني، وصعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن شيوع الفساد وفشل سياسات الحكومة المحلية، فالركائز الأساسية لخطاب تنظيم “الدولة” تتجذر في مناصرة السكان السنة في العراق وسوريا، وعدم معالجة الإخفاقات الشديدة في الحوكمة.
في ظل الشكوك حول استمرار جهود الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وسوريا التي لعبت دوراً أساسياً في هزيمة تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وغياب استراتيجية واضحة قد تتعرض جهود مكافحة الإرهاب لانتكاسة كبيرة إذ سحبت الولايات المتحدة قواتها المتمركزة في سوريا والعراق كما فعلت في أفغانستان، ففي إطار المراجعة الأميركية للحرب على الإرهاب، بإعادة التوازن والتنافس بين الدول، تراجع الاهتمام الأميركي بملف الإرهاب العابر للحدود، وفي إطار المراجعة الاستراتيجية الأميركية تساءل أنتوني كودسمان ماذا لو غادرت الولايات المتحدة والقوات المتحالفة الآن؟، وأكد بعد استعراض التقارير الأميركية الرسمية والدراسات البحثية المستقلة على أن “جميع الادعاءات حول هزيمة “داعش” غير واقعية، ومن الواضح أن داعش لا يزال يمثل تهديدًا كبيرًا في كلا البلدين”.
رغم خسارة تنظيم “داعش” آلاف المقاتلين تتفاوت التقديرات حول أعداد مقاتلي التنظيم في العراق وسوريا، وذلك بسبب احتساب الخلايا الناشطة إلى جانب الخلايا النائمة، حيث تقدر مصادر متنوعة العدد الإجمالي بنحو 30 ألف مقاتل، أما الأعضاء الفاعلين فقد أعلن فلاديمير فورونكوف، مسؤول مكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة في 25 أغسطس 2020، أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 10 آلاف من مقاتلي تنظيم داعش ما زالوا نشطين في العراق وسوريا، وأن هجماتهم زادت بشكل كبير هذا العام. وأخبر فورونكوف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن مقاتلي داعش يتحركون بحرية في خلايا صغيرة بين البلدين، وأكد أن داعش أعاد تنظيم صفوفه وزاد نشاطه ليس فقط في مناطق الصراع مثل العراق وسوريا ولكن أيضًا في بعض الفروع الإقليمية.
إن هجمات تنظيم “داعش” الأخيرة في العراق وسوريا جاءت تتويجاً لاستراتيجية التنظيم الصبورة، إذ لا يبدو تنظيم “داعش” في عجلة من أمره وهو ينتهز الفرص السانحة، ويبني استراتيجيته وفق حسابات تستند إلى تبدل البيئة الدولية بالتعامل مع مسألة الإرهاب العابر للحدود فقد بدلت واشنطن وشركاؤها الأوربيون أولوياتهم تجاه قضايا جديدة في عصر تتنافس فيه القوى العظمى، وينتشر خلاله فيروس كورونا، وتتفاقم أزمة المناخ، ويتنامى إرهاب اليمين الداخلي حيث تراجعت مكافحة الإرهاب العابر للحدود إلى الخلفية، إلى جانب ذلك لم تحقق الدول التي عانت من تنامي صعود الجماعات الجهادية أي تقدم في معالجة الأسباب العميقة الدافعة للتطرف العنيف والإرهاب، المتجذرة داخل الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتفاقم دون معالجة جدية، وفي ظل تبدل الأولويات الدولية سوف تتحمل القوات المحلية أعباء مواجهة الصعود القادم لداعش والجهادية العالمية، وقد برهنت الحكومات المحلية في مناطق عديدة في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط على صعوبة مهمتها دون تعاون دولي، وتبدو المنطقة معرضة لموجة جديدة من العنف في ظل الانسداد السياسي والصعوبات الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية، وهو ما تبرع الجماعات الجهادية باستغلاله من خلال إيديولوجية جاذبة تركز على المظالم المتعددة وسط بيئة استبدادية غير ديمقراطية ومعادية للحرية والتعددية.