أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي
مناقشة ملامح المشروع الاوراسي كما يطرحه ألكسندر دوغين
قبل البدء بالحديث عن ألكسندر دوغين وكتابه أسس الجيبولتيك، لا بد من البدء للنظر للكتاب من زاوية بلدنا الأردن، وهنا لا بد من الحديث عن نقاط عدة وهي:
– أهمية أن يصبح لدينا مختصون بالشأن الروسي في الأردن، وهذا مهم جداً للأردن وروسيا على حد سواء. وإن وظيفة المختص بالشأن الروسي في هذه الحالة تنبع من الظرف السياسي الذي حكام علاقات البلدين على طول سبعين عاماً أو يزيد.
إذ كان الأردن في خضم الحرب البادرة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، يقف في محور الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، مع ذلك لم تغب بعض نقاط التواصل والتلاقي بين البلدين في أحيان، لكن في النهاية كان الاتحاد السوفييتي يدعم الاحزاب القومية واليسارية في الوطن العربي والتي كان لها توجه مناقض لنظام الحكم في الأردن.
لكن ظروف هذه العلاقة القلقة نغيرت في العشرين سنة الماضية، يتحدث الجميع عن علاقة الصداقة التي تجمع ملك الأردن عبد الله الأول مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن طبيعة القرب في العلاقات لا يمكن تلخيصه بعلاقة الصداقة والقرب بين قائدي البلدين وحسب، بل إنها مدعومة بظرف سياسي يختلف تماما عن ظرف الحرب الباردة.
ثمة مصالح عديدة تجمع البلدين وتجعل سياساتهما متقابلة وغير متنافرة، ولعل أحد هذه المصالح وأبرزها العلاقة مع سورية، إذ كان موقف الأردن حيال الأزمة السورية غير بعيد عن موقف روسيا، وذلك بسبب الواقع الجيبولتيكي الذي يربط الأردن بسورية.
لكن غالبية الشعب الأردن ومسؤولين كثر يجهل هذه التفاصيل، وبالنسبة إليه روسيا وواقعها السياسي مجرد طلاسم، وهنا تبرز وظيفة المختص بالشأن الروسي وهي مد جسور الفهم والتواصل بين البلدين عبر المعرفة.
– أهمية أن يبدأ المسؤول الأردني بوزن مصالح بلده الوطنية بناء على عوامل عديدة تتنوع بين الثقل العسكري والسياسي للدول العظمى وليس فقط حجم المساعدات المقدمة إلينا.
بداية إن الولايات المتحدة لا تقدم الدعم للأردن إلا بسبب الأهمية الجيوبولتيكية للأردن، وليس على سبيل الحسنة، لذا فعلى المسؤول الأردني أن يعي ذلك تماماً وأن لا ينظر بعين الشكر للمتبرعين، ففي السياسة لا يوجد تبرعات، والأردن قدم الكثير لحلفائه.
وبناء على ما سبق، فإن الدعم لا يمكن أن يكون مجرد نقود وأموال، بل ثمة دعم عسكري وسياسي يمكن أن تقدمه دولة مثل روسيا الاتحادية، وإن إدراك أمر بهذا يحتاج إلى وعي سياسي لدى المسؤول.
– أسس الجيوبولتيكا مهمة جداً كأبجدية لرسم سياساتنا في الأردن بما يحقق مصالحه الوطنية.
وإن هذه النقطة تنبني على النقطة الماضية، ولحسن الحظ فإن “عقل الدولة” مدرك لمفاصل هذا العلم، وقد ظهر ذلك جلياً أيام الأزمة السورية، لكن لا بد من توسيعه أكثر وفي مجالات أكثر فيما يخص العلاقات الأردنية العربية والدولية.
– أيضاً لا بد ان نبدأ في وضع صياغة واقعية لعلاقتنا مع تراثنا الديني والقومي، لرسم صورة المستقبل. على فكرة وإن كان ذلك ينسجم مع أطروحات ألكسندر دوغين في نظريته السياسية الرابعة وكتابه الذي بين أيدينا، إلا أنه وإن لم تكن روسيا هي القوة القادمة إلى منطقتنا، فإننا ولحماية جبهتنا الداخلية، وفي ظل سقوط خيار الاسلام السياسي والاسلام المتوحش خلال الأزمة السورية، لا بد من البدء في صياغة طرح فكري ديني (اسلامي ومسيحي ويهودي) وقومي لرسم ملامح المستقبل.
ألكسندر دوغين:
كان يعد المفكر الروسي ألكسندر دوغين قبل عشر سنوات تقريباً، مفكراً مهماً وحسب، لكن من يقرأ كتابه الذي بين أيدينا “أسس الجيوبولتيك” اليوم، سوف يدرك أنه رسم سياسات روسيا التي شكلت منطقتنا في الآونة الأخيرة قبل ما يزيد عن عشرين عاماً، إذ أنه نشر كتابه هذا في أواخر التسعينيات، أو ما يسيها بوتين “السنوات السوداء في تاريخ روسيا”.
ما سبق دفع المحللين أن يطلقوا على دوغين اسم عقل بوتين، او “راسبوتين”.. وإن أهم ما يلزمنا معرفته عن حياة دوغين هو أنه كان ابن عائلة شيوعية حتى النخاع، وإنه تمرد على شيوعية أهله وبلده، مما أدى لطرده من المعهد.
كان دوغين مؤمناً بالمسيحية الأرثذوكسية، ويرى أن العلة في العولمة التي يرفضها، والعولمة تعني فرض نموذج البلد الأقوى على باقي الشعوب، ومن هنا كان يعارض الشيوعية لأنه يرى فيها الوجه الآخر لليبرالية.
وانطلاقاً مما سبق فإنه يقدم نظريته السياسية الرابعة التي تتجاوز الشيوعية والليبرالية والفاشية، داعياً الشعوب الأخرى إلى الاحتفاظ بتراثها وثقافتها النابعين من الماضي، لجعل الماضي وصفة فكرية للمضي نحو المستقبل.
ومن هنا ياتي تمسك دوغين بالأرثذوكسية بما يخص روسيا، واحترامه لولاية الفقيه بما يخص ايران، ودعوته الشعوب والدول العربية أن تصوغ رؤية للإسلام السني تصلح للمضي نحو المستقبل، وهنا دوغين يرفض أن يفرض على العرب وصفة فكرية في ذلك، فوفقاً للنظرية السياسية الرابعة لا بد لكل شعب أن يصوغ رؤيته لتراثه بنفسه، من دون أي تأثير من القوى العظمى.
وهنا يلزمنا التأكيد على فكرة في غاية من الأهمية إن أكثر عبارة نقرؤها في الكتاب وهي ذاتها أكثر عبارة يرددها بوتين في مؤتمراته الصحافية وكذلك لافروف “المصالح الوطنية”.
***
تعريف بكتاب ألكسندر دوغين
قد يشعر القارئ وهو يمسك كتاب أسس الجيوبولتيكا (مستقبل روسيا الجيوبولتيكي) لألكسندر دوغين والبالغ عدد صفحاته 657 صفحة (بدون الهوامش ومراجع الكتاب والفهرس)، أنه سيقرأ كتاباً مغرقاً في التنظير وحسب، لكن ونظراً لأن الرئيس الروسي يطبق نظريات دوغين السياسية أثناء فترة حكمه لروسيا التي بدأت منذ العام 2000 وحتى يومنا هذا [في المنطق السياسي لا يجوز استثناء فترة حكم ميدفيدف من هذا التحليل]، سنجد أننا وخلال قراءتنا للكتاب سنفهم المواقف السياسية التي اتخذتها (روسيا بوتين) منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.
كل تلك المواقف والقرارات ستكون واضحة إذا رأيناها من زاوية المشروع الأوراسي، الذي يتخذ من الجيوبولتيكا قاعدة له. إذ يرى دوغين أن الجيوبولتيكا إنما هي رؤية للعالم، وأنها تُقارن مع منظومات العلومات كونها على مستوى واحد مع الماركسية والليبرالية وما إلى ذلك مع أي من تلك النظم التي تفسر المجتمع والتاريخ.
ويقسم دوغين بناء على الجيبولتيكا القوى العالمية إلى قوى بحرية وقوى قارية، ويرى في الولايات المتحدة قوة بحرية وفي روسيا قوة برية. وفي مقدمة الكتاب التي خطها دوغين في العام 1999 يقول في سياق تعرضه للسياسة الأطلسية في العالم “وأمام هذا الاستعراض للإرادة الأطلسية ولجبروتها ونزقها فإن الرد المنطقي الوحيد هو العودة إلى المخزون الحضاري الخاص وتجنيد المصادر الاستراتيجية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية والضرورية لروسيا لكي لا تمحى من التاريخ باليد الحديدية لبُناة (النظام العالمي الجديد)”. وعليه فإنه يرى أن الجيوبولتيك الأوراسية ليست ساحة للعدوان بل هي “خط الدفاع الأخير”.
وفي مقدمة الطبعة العربية التي كتبها دوغين عام 2009 تحدث فيها عن جيوبولتيكا العالم العربي، وتحدث فيها عن إقامة المدرسة الجيوبولتيكية العربية، وذلك بعد أن سعى لتوصيف الواقع العربي الحالي. ويعتبر في هذا السياق أن إدخال المنهجية الجيوبولتيكية في السياق الثقافي السياسي العربي أمر أكثر من فعال.
وفي محاولته توصيف النظام الجيوبولتيكي يقول دوغين أنه وخلافاً للأيدولوجيات الاقتصادية [يقصد هنا الاشتراكية والرأسمالية] فإن الجيوبولتيك تقوم على مقولة التضريس الجغرافي كمصير، فالجغرافيا والمدى المكاني يلعبان في الجيوبولتيكا الدور الذي يلعبه المال والعلاقات الانتاجية في الماركسية والليبرالية وإليهما تنتهي جميع الآفاق المؤسسة للوجود الإنساني.
يتطرق دوغين في الباب الأول إلى آباء الجيبولتيكا المؤسسين، ومن ثم يتطرق للنظريات والمدارس الجيوبولتيكية المعاصرة، يتصدى بعدها إلى عنوان (روسيا والمدى) ومن ثم مستقبل روسيا الجيوبولتيكي. وبعد أن يتناول الجيوبولتيكا الداخلية لروسيا فإنه يبدأ بالتحليل الأوراسي.
قبل البدء بالحديث عن مشروع روسيا الأوراسي في المنطقة، قبلها يجب أن نرى أين وضع الكسندر دوغين روسيا في العالم، هنا يجب التنويه إلى أن دوغين يرى في بلاده روسيا (Heartland) في حين أنه يرى أن كلا من الصين، ألمانيا أو فرنسا أو الهند أو غيرها، في حال كانت تستطيع في علاقاتها مع جيرانها الساحليين أو نحو دول “الجزر” أو القارات الأخرى، أن تتصرف كقوة قارية فإنها تبقى بالنسبة لروسيا “شريطاً ساحليا” أو (Rimland) مع كل التبعات الاستراتيجية، الثقافية والسياسية.
الآن يهمني الوقوف عند هذا الاقتباس كثيراً:
“علاقة روسيا بالحضارات القارية المجاورة – الرومانو – جرمانية في الغرب والحضارات التقليدية الثلاث في الشرق (الإسلامية، الهندوسية والصينية) – تتسم، على الأقل بمستويين لا يجوز الخلط بينهما بأي حال من الأحوال لأن ذلك يؤدي بصورة حتمية إلى عدد كبير من الارتباكات.
أولا: الجوهر الثقافي – التاريخي لروسيا، وخصوصيتها الروحية “وهويتها الذاتية” تُعرّف – دون شرط في إطار صيغة (لا الشرق ولا الغرب) أو (لا أوروبا ولا آسيا بل الأوراسيا)، وذلك وفقاً لتعبير الأوراسيين الروس.
وروسيا من الناحية الروحية شيء آخر، مستقل وخاص، لا تعبير عنه في مصطلحات الشرق ولا في مصطلحات الغرب. وعلى هذا المستوى فإن المصلحة العليا لروسيا تتمثل في الحفاظ بأي ثمن على فرادتها، الدفاع عن خصوصيتها أمام تحدي الغرب وتقاليد الشرق. وهذا لا يعني الانعزالية التامة.
والواقعية التاريخية تطالبنا بالاعتراف الشجاع بأن التأكيد على (ماهو خاص بنا، ما هو لنا) يسير متوازناً دوماً مع رفض (ماهو غريب) أو (ماليس لنا). والتأكيد والرفض يمثلان العناصر الأساسية للاستقلالية القومية الثقافية، التاريخية والسياسية للشعب والدولة.
ولهذا فإن رفض الغرب والشرق في المخطط الثقافي يمثل العنصر التاريخي الثابت لاستقلالية روسيا. ومن الطبيعي بالنسبة لهذه القضية أن تكون أشد السجالات اختلافا – فمع الاعتراف بالخصوصية يرى البعض أن من الأفضل الانفتاح على الشرق من الانفتاح على الغرب، هؤلاء يمثلون التوجه الآسيوي، ويرى الغربيون عكس ذلك، بينما يفضل ثالثون رفض أي نوع من الحوار (الانعزاليون) ويقترح رابعون انفتاحاً متساوي الوتيرة هلى الجبهتين (بعض اتجاهات الأوراسية الجديدة)” انتهى الاقتباس.
ويكمل ألكسندر دوغين:
” أما على المستويين الاستراتيجي والجيوبولتيكي المحض فيبدو الوضع مختلفاً تماماً. بما أن روسيا – الأوراسيا في المرحلة التاريخية الحاضرة لا تواجه (عدوا كونيا) في صورة الحضارات الشاطئية (Rimland) بقدر ما تواجه (الجزيرة) المقابلة لها وهي أمريكا الأطلسية، فإن ماهو استراتيجي وأكثر إلحاحاً تحويل الأراضي الساحلية إلى حلفاء لها، التغلغل الاستراتيجي إلى المناطق الساحلية، إقامة الحلف الأوراسي العام أو، على الأقل، تأمين الحياد الكامل والصارم لأكبر عدد من ال (Rimland) في مواجهة (خنادقية) مع الغرب ما بعد الأطلسي”. انتهى الاقتباس.
بعد هذا العرض للواقع الجيوبولتيكي يشير دوغين إلى أن حد المنطلقات الأساسية للجيوبولتيكا هو التوكيد على أن الوضع الجيوبولتيكي للدولة يفوق في الأهمية بكثير خصائص البناء السياسي لهذه الدولة.
وهنا بما يخص الأردن يمكن دراسة حالة الأردن وسورية فترة الأزمة السورية، إذ فضل الأردن عدم الخوض في الحرب السورية كما يطلب الحلفاء، وحاول الموازنة بين حلفائه ومصالحه التي تفرضها الجغرافيا هنا، فسورية بالنسبة للأردن ليست مجرد جار، وإنما رئة اقتصادية، وذات النظرة الجيوبولتيكية بادر حافظ الأسد فيها الملك حسين في أيام أيلول 1970، عندما رفض حماية الدبابات السورية بالطائرات عندما حاولت الدبابات السورية الدخول للأردن ومعاونة الفدائيين ضد النظام، إذ كان يعتقد أن التعامل مع نظام رسمي أسهل من التعامل مع فصائل، وحينها كان حافظ الأسد قائد الطيران الحربي ولم يكن رئيس سورية بعد.
وعودة إلى المشروع الأوراسي وكتاب دوغين، نرى دوغين يشدد على أن الأولية الملحة للاستقلالية الجيوبولتيكية والاستراتيجية لروسيا لا تتحدد بإعادة المناطق المضيعة، “الخارج القريب” فقط، وليس فقط في بعث علاقات التحالف مع دول أوروبا الشرقية بل وأيضاً في تعزيز إدخال دول الغرب القاري (وبالدرجة الأولى المعسكر الفرانكو-جرماني الذي يتطلع إلى التحرر من الرعاية الأطلسية للناتو المناصر لأمريكا) والشرق القاري (إيران-الهند واليابان) في الحلف الأوراسي الاستراتيجي الجديد.
وهنا يختم في هذا الباب قائلا بأن توحيد الأراضي الروسية تحت حماية روسيا كـ (محور التاريخ) محفوف اليوم بصعوبات محددة إلا أن هذه الصعوبات زهيدة جداً أمام تلك الكوارث التي تُحدق إذا لم يجر البدء بـ (تجميع الامبراطورية) في أسرع وقت.
المصالح القومية الروسيّة من وجهة نظر دوغين
في سياق هذا الحديث لا يرى دوغين في (الفيدرالية الروسية) الدولة الروسية الكاملة الشخصية، بل إنه يرى فيها تَشَكُلاً انتقالياً في عملية جيوبولتيكية شمولية ديناميكية واسعة لا أكثر من ذلك.
وهنا ينقل دوغين عن الجيوبولتيكي البلجيكي جان تيريار، قوله “كان الاتحاد السوفياتي شبيهاً بلوح من الشوكلاته، حزت فوقه حدود الجزيئات- الجمهوريات. وعندما تفتت هذه الجزيئات لم يعد كافياً ضمها إلى بعضها لإعادة اللوح بكامله إلى ماكان عليه. فلا يمكن التوصل إلى ذلك الآن إلا عن طريق صهر اللوح كله وإعادة طبعه”.
وبعد أن يؤكد دوغين بأنه “ليس للروس دولة الآن” يشير إلى أن “الشعب اللروسي – مركز التصوّر الجيوبولتيكي”، ويقول تحت هذا البند:
“إن إنهيار الإمبراطورية السوفياتية وهشاشة التشكلات الحكومية على أراضيها (بما في ذلك الفيدرالية الروسية) وإفلاسها الحكومي يدفع إلى البحث عن صفة أكثر تحديداً لفهم (المصالح القومية الروسية). والواقع العضوي الوحيد، الطبيعي، المتجذر تاريخياً في هذه المسألة يمكن أن يكون الشعب الروسي”.
ويدلل دوغين على ما سبق بأن “الشعب الروسي – جماعة تاريخية تحمل جميع ملامح الشخصية السياسية التامة القيمة والراسخة. والشعب الروسي متوحد اثنياً، ثقافيا، نفسياً ودينياً”.
ويضيف “لكن ليس هذا فقط ما يكوّن الأساس الأهم لوضعه في مركز التصوّر الجيوبولتيكي موضوعاً للاستراتيجية السياسية والاجتماعية. تكوّن الشعب الروسي، خلافاً للكثير من الشعوب، كحامل لحضارة خاصة تتسم بكل الملامح المميزة للظاهرة العالمية – التاريخية الأصلية المتكاملة. الشعب الروسي ذلك الثابت الحضاري الذي كان المحور المؤسس لإقامة لا دولة واحدة بل لكثير من الدول: بدءاً من موزاييك الإمارات السلافية الشرقية قبل روسيا الموسكوفية وإمبراطورية بطرس والمعكسر السوفياتي”.
ويستنتج بأنه “ليست الدولة هي التي كونت الأمة الروسية، بل على العكس، إن الأمة الروسية، الشعب الروسي قد وازن في التاريخ بين الأنماط المختلفة لنظم الحكومة معبراً بطريقة مختلفة (طبقاً للظروف) عن خصوصية رسالته الفريدة”.
وبناء على ما سبق يشير دوغين على قضية هي في غاية الأهمية، إذ يقول “من الواضح أنه في الظروف الحالية وضمن القواعد الغربية المعمول بها، العلمانية، الكمية – الليبرالية للنظرة الحقوقية ليس ثمة أية إمكانية موضوعية ليس فقط لتثبيت (الشعب الروسي) بطريقة حقوقية موضوعاً سياسياً مستقلاً بل ولفرض مصطلح كمصطلح (الشعب) في التعامل الحقوقي والدبلوماسي. إن الحق الدولي المعاصر (المنسوخ في ملامحه الأساسية عن الحق الروماني) لا يعترف إلا بالدولة والفرد موضوعات سياسية كاملة الصلاحية.
ولهذا يوجد قانون (حقوق الدول) و(حقوق الإنسان) بينما مفهوم (حقوق الشعب) غائب. وليس هذا مستغرباً، فالنظرة العلمانية والكمية لا يمكن أن تضع في الحسبان أمثال هذه المقولات الثقافية الروحية كالإتنوس والشعب وما إلى ذلك. كما أن علاقة كمية متشابهة كانت تَسٍمُ البناء السوفياتي والعالم (الديموقراطي). ولكن بما أن الشعب الروسي في المرحلة الحالية موجود فوق أرض تسودها إما مبادئ المشروعية (ما بعد الإمبراطورية) وإما مبادئ المشروعية الليبرالية – الديموقراطية فلا يمكن أن يكون ثمة أي كلام عن أي اعتراف آلي بالوضع السياسي (للشعب). وعلى هذا فإن منطق إظهار وحماية (المصالح القومية الروسية) يتطلب تغييرات جادة في التطبيق الحقوقي المعمول به في الوقت الحاضر وفضلاً عن ذلك إعادة النظر الجذرية إلى هذا التطبيق في المنبع القومي”.
وبينما كان دوغين يتحدث عن مصيدة (الدولة الجهوية) فإنه يقول “من الناحية التقليدية كان الشعب الروسي بحضارته ورسالته الجيوبولتيكية (ولايزال) العقبة الكأداء في وجه الانتشار الشامل للنموذج الليبرالي الغربي في الكرة الأرضية”.
وهنا يقول دوغين “وفي الوقت الحالي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي يسعى الغرب إلى أن يفرض على روسيا مهمة جيوبولتيكية أخرى، وأن يحول روسيا إلى تلك البنية السياسية الجديدة العاجزة عن المشاركة مباشرة في السياسة العالمية وعلى أن تكون لها رسالتها الحضارية الواسعة. وفي تقرير بول ولفوفتس أمام الكونغرس الأمريكي عان 1992 يجري بهذا المعنى التوكيد على ان (المهمة الاستراتيجية الرئيسة للولايات المتحدة الأميركية هي الحيلولة دون أن يقوم على أراضي الاتحاد السوفياتي السابق تشكل استراتيجي مستقل، قوي، قادر على تطبيق سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة). وانطلاقاً بالذات من مثل هذا المطلب الملحّ للغرب عُرض على روسيا دور (الدولة الجهوية)”.
والدولة الجهوية هي مقولة جيبولوتيكية معاصرة تصف الدولة الكبيرة ذات التطور الكبير، بيد أن مصالحها السياسية لا تنحصر إلا في المناطق الملاصقة بشكل مباشر لأراضيها أو الداخلية ضمن هذه الأراضي. وهذه الدول لها وزن سياسي أعظن من الدول الاعتيادية البسيطة ولكن وزن أقل من الدولة ما فوق العادة أو الإمبراطورية.
ومن هنا يظهر سبب رغبة الولايات المتحدة إثارة القلاقل في أوكرانيا وكازخستان والاتيان بقوات الناتو بالقرب من روسيا ومحيطها.
وبعد كل هذا وعندما يتحدث دوغين عن الامبراطورية الروسية الجديدة يقول:
“الملامح الجيوبولتيكية والإيديولوجية لإمبراطورية الروس الجديدة يجب أن تتحدد على أساس التخلص من تلك اللحظات التي أدت من الناحية التاريخية إلى إفلاس الصيغ الإمبراطورية السابقة، وبناء على ذلك يجب على الإمبراطورية الجديدة: (هو وضع 9 بنود في الكتاب وندرج هنا 4 منها)
– أن تكون لا مادية، لا إلحادية، ذات اقتصاد لا مركزي.
– أن تتميز بالبنية الاثنية – الدينية التعددية المرنة بالنسبة لبنائها السياسي – الإداري الداخلي وما إلى ذلك، بمعنى أن تأخذ في الحسبان الخصائص المحلية الاثنية، الدينية، الثقافية، الأخلاقية وما إلى ذلك بالنسبة لكل منطقة وأن تضفي الصفة القانونية على هذه العناصر.
– التوجه بدلا من الجيوبولتيكية السلافيانوفيلية إلى المشاريع الأوراسية التي ترفض سياسة روسيا المعادية للالمان في الغرب وسياستها المعادية لليابانيين في الشرق والتخلص من التوجه الأطلسي الثاوي تحت قناع (القومية الروسية).
– الحيلولة دون عمليات الخصخصة والرسملة، وأيضاً دون لعبة البورصة والمضاربات المالية في الإمبراطورية، والتوجه نحو رقابة الشعب التعاونية، الجماعية والحكومية على الواقع الاقتصادي، ونبذ خرافة (الرأسمالية الوطنية) المثيرة للريبة”.
وبعد ان يعدد دوغين بنود الامبراطورية الجديدة يقول “على بُناة الامبراطورية الجديدة أن يقفوا بفعالية ضد توجهات (الشبان الروس) في القومية الروسية، مَنْ يتطلعون إلى تثبيت وضعية (الدولة – الأمة) على روسيا، وضد جميع القوى السياسية الرومانسية التي تضع في مخططاتها الجيوبولوتيكية الدعوة الى تلك العناصر التي كانت قد انتهت بالإمبراطورية إلى الكارثة”.
ويختم الفصل الثالث قائلا “فمعركة الروس من أجل السيادة على العالم لم تنته بعد”.
“العدو المشترك” جسر نحو المشروع الأوراسي
يعتبر دوغين في الفصل الرابع الذي يحمل عنوان “اليابسة والبحر.. العدو المشترك” بأنه لا بد وأن يكون للإمبراطورية الجديدة، والتي سيكون على الشعب الروسي أن يقيمها في المستقبل منطقها الجيوبولتيكي الضمني، المنقوش في البنية الطبيعية للمدى الجغرافي للكرة الأرضية.
وهنا يتطرق للقانون الجيوبولتيكي الأساسي، الذي صاغه ماكيندر في أجلى صورة والقائم على أن العملية الجيوبولتيكية الأساسية والمتواصلة عبر التاريخ هي معركة الدول القارية ذات الطرق البرية (ذات الصيغة الطبيعية للبناء السياسي الإيديوكراتي) ضد الدول البحرية الجزيرية (ذات البناء الاقتصادي التجاري السوقي). وتلك هي المواجهة الأبدية لروما ضد قرطاج، سبارطة ضد اثينا، انجلترا ضد ألمانيا وهكذا.
ويضيف دوغين “ومنذ بداية القرن العشرين أخذت هذه المواجهة بين الوجودين الجيوبولتيكيين تكتسب طابعاً عالمياً. والقطب البحري التجاري الذي يستقطب نحو مداره جميع الدول الأخرى صار الولايات المتحدة، أما القطب القاري فهو روسيا”.
وهنا يشدد دوغين على ضرورة أن يدخل مبدأ أساسي وهو مبدأ (العدو المشترك) في أساس البنية الجيوبولتيكية لهذه الإمبراطورية، ويضيف “إن رفض الأطلسية ونبذ السيطرة الاستراتيجية للولايات المتحدة والتخلي عن أولوية القيم السوقية – الليبرالية الاقتصادية – تلك هي القاعدة الحضارية العامة وذلك الحافز المشترك اللذان يفتحان الطريق للحلف السياسي والاستراتيجي ويقيمان حجر الأساس في بنيان الامبراطورية القادمة”.
ويؤكد دوغين على أن “العدو المشترك” الأطلسية يجب أن يصبح العنصر الرابط في البناء الجيوبولتيكي الجديد. مبيناً إن ثمة اختلافات في المصالح الجهوية بين الدول الأوراسية – في التوجه الديني، الاثني، العرقي والثقافي، وأنها كلها عوامل ليست قليلة الأهمية ولا يمكن التغاضي عنها. ولكن لا يمكن الحديث عنها بصورة جادة وكاملة الوزن إلا عندما يتلاشى التأثير الاستراتيجي والاقتصادي الخانق للعدو المشترك.
والآن وبعد ان حدد دوغين أساس الامبراطورية، يبدأ دوغين برسم ملامح الامبراطورية الاوراسية ولا يمكنه إلا أن يبدأ بألمانيا..
إذ يعتقد دوغين أن الامبراطورية الجديدة تمتلك جسرا جيوبولتيكيا في الغرب هو أوروبا الوسطى، لأن أوروبا الوسطى تمثل تشكيلاً جيوبولتيكيا طبيعياً موحداً من الناحية الاستراتيجية والثقافية ومن الناحية السياسية إلى حد ما، أما من الناحية الاتنية فتدخل في هذا المجال شعوب الامبراطورية النمساوية السابقة بالإضافة إلى ألمانيا وبروسيا وجزء من الأراضي البولندية والأوكرانية الغربية.
ويتحدث دوغين عن الاستراتيجي الثابت موسكو – برلين، وإن أوروبا الوسطى لا تملك بمفردها المقدرة السياسية والعسكرية الكافية لتصل إلى الاستقلالية الحقيقية عن الهيمنة الأطلسية للولايات المتحدة، وفق دوغين الذي يرى أنه يصعب في الظروف الحالية توقع حدوث صحوة قومية وجيوبولتيكية حق بمعزل عن التأثير الثوري للعامل الروسية.
ويشدد على أن الإمبراطورية الأوروبية بدون موسكو، والأوراسيا بكلمة أوسع، ليست عاجزة فقط عن أن تنظم كاملة مداها الاستراتيجي إزاء نقص قدراتها العسكرية ومبادرتها السياسية ومواردها الطبيعية بل وإنها لاتملك، في المعنى الحضاري، المُثُل والتوجهات الواضحة، لأن تأثيرات النظام التجاري والقيم السوقية الليبرالية قد أصابت بشلل عميق أسس الرؤية الوطنية للشعوب الأوروبية، وعطلت النظم القيمية العضوية التاريخية لديها.
ولأجل ما سبق يقول دوغين “يجب أن تتشكل الإمبراطورية الأوروبية بالذات، الواقعة على محور مباشر مع موسكو”.
هنا تظهر ملامح المشروع الأوراسي عندما يقول دوغين “على الامبراطورية الأوروبية ألا تسحق القوميات الأخرى وألا تخضعها للألمان أو الروس بل أن تحررها من ربقة الحضارة الكمية، الاستهلاكية، السوقية، وأن توقظ طاقاتها القومية الدفينة وتعيدها إلى حضن التاريخ وحداتٍ سياسية مستقلة حية وكاملة الأهلية تضمن حريتها القوة الاستراتيجية لمجموع الأوراسيا”.
وإن صورة التبادل بين موسكو وبرلين يقوم على أساس أن ألمانيا عملاق اقتصادي وقزم سياسي، وروسيا العكس.
ويرى أن عبارة بسمارك “لا عدو لألمانيا في الشرق” يجب أن تعود لتصبح الأطروحة السياسية الألمانية المسيطرة، ويجب على أن يكون رد الحكام الروس الجوابي “على الحدود الغربية في أوروبا الوسطى ليس لروسيا إلا الأصدقاء”.
أما الجسر الجيوبولوتيكي الثاني والذي لا يقل أهمية عن الأول فهو جسر موسكة – طوكيو، ويقسم دوغين الخارطة على النحو التالي حتى يوضح مفارقة اهمية اليابان بالنسبة للمشروع الأوراسيا، واعتبار الصين هي النقيض للمشروع الأرواسي في الوضع الراهن:
فيقول: “ومن أجل فهم هذه المفارقة ينبغي النظر بإمعان إلى الخارطة والإشارة فوقها إلى جغرافيا الحربين العالميتين الأخيرتين. في النصف الشمالي من الكرة الأرضية يمكننا، اشتراطياً، أن نحدد أربع مناطق جيوبولتيكية تتطابق والمشاركين الرئيسيين في النزاعات العالمية (سواء من بين الدول أو تحالفات الدول). الغرب الأقصى، الأطلسية ويضم الولايات المتحدة، انجلترا، فرنسا وعدداً آخر من الدول الأوروبية. وتتمتع هذه المنطقة بتوجه جيوبولتيكي بالغ التحديد يماشي الخط البحري (القرطاجي) في التاريخ العالمي. وهذا نطاق الفعالية الحضارية العظمى ومنبع كافة التشكلات (التقدمية) اللاتقليدية.
المنطقة الثانية – أوروبا الوسطى، ألمانيا، النمسا والمجر، وهذه المنطقة تتجاور بصورة مباشرة مع الحلف الأطلسي من الشرق وهي، من الناحية الجيوبولتيكية تتسم بجميع مظاهر التوجه القاري اليابسي، المعادي للاطلسية، وهي من الناحية الجيوبولتيكية تميل إلى الشرق.
المنطقة الثالثة هي روسيا نفسها، الممتدة في مركز جذب القارة والمسؤولة عن مصير الأوراسيا. أما تركيبة روسيا المحافظة القارية واللاليبرالية فواضحة.
واخيراً فالمنطقة الرابعة تمثلها مساحة المحيط الهادي والتي تلعب الدور الرئيسي فيها اليابان دون سواها، وهي تتطور بسرعة وديناميكية وتتسم بنظام صارم للقيم التقليدية وبفهم واضح لدورها الجيوبولتيكي. وتتوجه اليابان في الأصل توجها معادياً للغرب، معادياً لليبرالية، حيث إن نظام القيم فيها يمثل أمراً يتعارض مباشرة مع نظم الإنسانية الأطلسية التقدمية”.
وبناء على ما سبق يقول دوغين:
“في الإمبراطورية الجديدة يجب أن يكون المحور الشرقي هو محور موسكو – طوكيو”.
وهنا يذكّر دوغين بقضية مهمة وهي “إن عدائية الأمريكان لدى اليابانيين الذين يذكرون جيداً الإبادة الذرية الجماعية ويعون بوضوح عار الاحتلال السياسي الذي لا يزال متواصلاً على مدار عشرات السنين، لا تثير أدنى شك. ومبدأ العدو المشترك ماثل أمامنا هنا. وفي كتاب الأميركي سيرج فريدمان تصوَّر (الحرب القادمة مع اليابان) واسم الكتاب (Coming war with Japan) أمراً لا مفر منه. وحرب اليابان الاقتصادية ضد الولايات المتحدة الأميركية دائرة الآن. ولن تجد روسيا، التي تقيم إمبراطوريتها الأوراسية، حليفاً أفضل”.
أما الجسر الجيوبولتيكي الثالث فهو جسر موسكو – طهران ويقول دوغين في هذا الشأن إن “إيران من الناحية الجيوبولتيكية هي آسيا الوسطى مثلما أن ألمانيا بكل دقة، أوروبا الوسطى. وعلى موسكو، كمركز للأوراسيا أن تسلم لإيران. في إطار الإمبراطورية الجديدة، رسالة إقرار (السلام الإيراني) في هذه المنطقة وإقامة حلف جيوبولتيكي آسيوسْطَوي قادر على مواجهة التأثير الأطلسي في المنطقة بأسرها”.
وبما يخص الدول العربية يقول دوغين “أما الخط الثاني للحلف الأوراسي مع الجنوب فهو المشروع العروبي الذي يشمل جزءا من آسيا الأمامية وشمال أفريقيا. ولهذا الحلف أيضاً أهمية حيوية بالنسبة للجيوبولتيكا القارية إذ تكتسب هذه المنطقة أهميتها الاستراتيجية في مسألة السيطرة على شاطئ أوروبا الجنوبي الغربي. ولهذا بالذات كان الحضور البريطاني ومن بعده الأميركي أحذ الثوابت التاريخية الاستراتيجية في هذه المنطقة. فمن خلال السيطرة على الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية كان الأطلسيون يسيطرون تقليدياً (ولا يزالون) على أوروبا القارية بفعل الضغط السياسي والاقتصادي.
إلا أن تكامل المشروع العروبي مع الإمبراطورية الأوراسية العامة يحسن أن يعهد به للقوى الأوروبية التي عادت إلى مشاريع أوروأفريقيا التي لا تمثل، من وجهة النظر الجيوبولتيكية الصرفة، قارتين بل قارة واحدة. والإمبراطورية الأوراسية، ذات الاهتمام الحيوي بالتغلغل المتعمق الأعظم نحو جنوب القارة الأفريقية. يجب أن تسيطر في المستقبل المنظور، وبصفة كلية، على أفريقيا حتى الصحراء، معتمدة في ذلك على الحلف العروبي، ثم أن تحاول بعد ذلك التجذر استراتيجياً في الأرض الأفريقية بكاملها. والبحر الأبيض المتوسط لن يعود بحراً في المستقبل الأورأفريقي بل مجرد (بحيرة)داخلية لا تشكل أي عقبة أو حامية في وجه التأثير الأطلسي”.
“ولدى توفر وجود القاعدة الأوروبية القوية ذات التوجه الأوراسي أي بعد إقامة محور موسكو – برلين ينبغي تسليم هذه المهمة لبرلين وأوروبا على العموم. واهتمام روسيا المباشر بالعالم الاسلامي يجب أن يقتصر على إيران بالذات والتي ترتبط بالتحالف معها مصالح الروس الحيوية، الاستراتيجية منها وحتى الاثنية الضيقة”.
“وإزاء ذلك وعلى المستوى العالمي يكون (كبش الفداء) الرئيسي لبناء الإمبراطورية الكونية الجديدة هو الولايات المتحدة بالذات، التي يتحقق تدمير قوتها (حتى حدود التدمير الكامل لهذا البناء الجيوبولتيكي) عن طريق جميع المشاركين في الإمبراطورية الجديدة ودون مساومات”.
وإن المؤسف، أن هذا الكتاب عندما تطرق للواقع العربي عام 1999، كان ذلك قبل انهيار دول عربية عديدة في ظل ما يسمى بالربيع العربي، والسؤال الذي يطرح نفسه “ماهي الخطط الأوراسية حيالنا بعد دمار دول عربية وتراجع دور أخرى؟”.
وتحت بند (المسألة الروسية بعد النصر القادم) يقول دوغين وهو يتحدث عن أنه من الضروري الأخذ بعين الاعتبار أن انهيار الأطلسية يمكن أن يحدث بصورة آنية تقريباً وعند أي مرحلة من مراحل بناء الامبراطورية الاوراسية/ يشير موضحاً السبب في ذلك إلى ان “الثبوتية الجيوبولتيكية للغرب قائمة بصفة استثنائية على التجاوب الصحيح والحاذق للمقولات الجيوبولتيكية لا على القوة الصناعية او الاقتصادية أو العسكرية الحقيقية”. [حؤول الولايات المتحدة من قيام جسر برلين – باريس]
وأثناء حديثه عن الآفاق العسكرية للإمبراطورية يشير إلى أنه في اللحظة الراهنة (يقصد فترة تأليف الكتاب في التسعينيات) تجري في الجيش الروسي، وتحت ضغط من الأطلسية، عملية على غاية من الخطورة وهو تحويل كامل توجه العقيدة العسكرية عن البناء القاري السوفياتي إلى البناء الجهوي – المحلي. وهذا يعني أنه قد بدئ بتصوير “العدو المحتمل” لروسيا لا بصفته الولايات المتحدة ودول الناتو بل الدول المتوضعة على حدود روسيا مضافةً إلى المناطق الداخلية في الفيدرالية الروسية والتي يمكن أن تتوجه نحو الانفصالية. ومثل هذا التحول في العقيدة العسكرية الجديدة يتناقض، من الناحية العملية، تناقضاً تاماً مع موقف القوات المسلحة، الموقف المتعقل الوحيد من وجهة النظر الجيوبولتيكية، إذ إن “الاعداء المحتملين” يصبحون في هذه الحالة بالذات تلك البلدان التي كان عليها، من الناحية المنطقية، أن تكون “الحلفاء الطبيعيين للروس”.
من هنا يمكن فهم ما جرى في أوكرانيا فهي اليوم عدو لروسيا، وما كاد يجري في كازاخستان من محاولة سيطرة أعداء روسيا عليها في الأحداث الأخيرة مطلع العام الحالي 2022.
الطريق الثالث.. الحل الاقتصادي للمشروع الأوراسي
وهو يتحدث عن الآفاق الاقتصادية للامبراطورية الجديدة، وفي بند “اقتصاد الطريق الثالث” يقول دوغين موضحا مفهوم الطريق الثالث:
“الخط الثالث الأصلي في الاقتصاد لقي تجسيده الكلاسيكي أعمال (فريدريخ ليست) الذي صاغ مبادئ (الاكتفاء الذاتي الاقتصادي للمجالات الكبرى). وتنطلق هذه النظرية من حقيقة تفاوت التطور الاقتصادي لدى المجتمعات الرأسمالية ومن الأثر المنطقي للاستعمار الاقتصادي من طرف البلدان الغنية للبلدان الأكثر فقراً؛ ومما يذكر أن التجارة الحرة بالنسبة للاغنياء مربحة بينما هي على عكس ذلك بالنسبة للفقراء. ومن خلال هذا يتوصل ليست إلى القول بانه عند مراحل معينة من التطور الاقتصادي للمجتمع يجب اللجوء للحماية والتسيير والقيود الجمركية أي إلى تقييد مبدأ التجارة الحرة على المستوى العالمي من أجل التوصل إلى الاستقلال الوطني والحكومي والقوة الاستراتيجية. وبكلمة أخرى كان واضحاً بالنسبة لليست أن الاقتصاد يجب أن يكون خاضعاً للمصالح الوطنية وأن أي دعوة إلى المنطق الآلي للسوق ليست إلا ستارا لإخفاء التوسع الاقتصادي (والسياسي بعد ذلك) من طرف الدول الغنية لما فيه خسارة الدول الأكثر فقراً ثم استعباد الأخيرة بعد ذلك”.
ويختم :
“وأخيرا فإن المجالات الاقتصادية المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالدولة ووضعها الاستراتيجي يجب أن تخضع للإشراف. وأن تموّل وتدار من طرف المرجعيات الحكومية، ذلك ان الحديث يتناول مصالح ذات مستوى أعلى من الملكية الخاصة أو المصلحة الجماعية”.
وبناء على ما سبق يقول “ويمكن صياغة هذه المعادلة بصورة مبسطة (لا الترف ولا الفقر المدقع)، القناعة بالحد الأدنى المعقول. وهذا يعني التعامل مع الجهد بصورة أكثر مرونة وحرية مما كان عليه الحال في الاشتراكية السوفياتية، ولكن الحد بنسبة أكبر من إمكانات الإثراء الفردي عما هو عليه في الرأسمالية. ومثل هذا الأنموذج يتيح للأمة ألا تكون مرتبطة في الميادين الاستراتيجية بالدول وبالنظم الاقتصادية الأخرى، لكنه في الوقت نفسه يجرد مسيرة العمل من طابع السخرة ويربطه بمكافئه المادي”