قمة بغداد للتعاون والشراكة.. قراءة سياسية
شهدت المنطقة مؤخراً بعد حلول عام 2021، بالتزامن مع دخول الرئيس بايدن البيت الأبيض مبادرات تهدئة بين الأطراف الفرقاء في المنطقة، ابتدأتها قمة العُلا الخليجية في بداية كانون أول (يناير)، والتي استطاعت إعادة بناء علاقة جديدة بين دول مجلس التعاون الخليجي، وإن لم يكن ذلك البناء قد اكتمل، تبعها تصريحات عراقية رسمية بوجود محادثات بين طهران والرياض تستضيفها بغداد، ثم آخرها جولة من الزيارات التي أجراها الشيخ طحنون بن زايد مستشار الأمن الوطني الإماراتي إلى كل من تركيا والأردن وقطر.
لتأتي قمة بغداد وتجمع القاهرة بالدوحة، عقب أزمة امتدت لأكثر من 3 سنوات لم يلتق خلالها الطرفان؛ الرئيس السيسي والشيخ تميم، ولقاء آخر جمع رئيس الوزراء الإماراتي حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد بأمير دولة قطر الشيخ تميم آل ثاني أيضاً، في محاولة لردم الفجوة وتخفيض حدة التوتر بين الطرفين القطري والإماراتي تحديداً.
يحاول العراق، من خلال حكومة الكاظمي الذي يتطلع لدور عراقي خارج حدود الجغرافيا السياسية لبلاده، بأن يمارس دوره الريادي في المنطقة وبحجمه الطبيعي، وأن يرسل إشارات متعلقة بوضعه الإقليمي والدولي، لعل أبرزها عدم رغبته بأن يكون ساحة لتصفية الحسابات والحروب بالوكالة وسياسة المحاور التي أرهقته على مدى أكثر من 15 عاماً، كما يسعى إلى أن يكون عنصراً فاعلاً في المنطقة، ولعب دور المؤثر والوسيط، بدلاً من الاكتفاء بدور ساعي البريد الذي اعتاد عليه، خاصةً إبان تصاعد حدة التوتر الذي شهدته العلاقة بين الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب والرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، إضافة إلى تغيير تلك الصورة النمطية عن العراق، من كونه متغير تابع إلى متغير مستقل، لا سيما أن الساحة الداخلية العراقية وما شهدته من أحلام مجهضة للشباب في الشارع العراقي قبل قرابة عامين، برهنت، أن العراق الذي واجه سلسلة أزمات لا يمكن أن يبقى خارج إطاره الإقليمي، بأن يتأثر ولا يؤثر.
لم يخفِ العراق رغبته بأن تكون هذه القمة مرتكزة بصورة أساسية على تأسيس مرحلة استثمارية اقتصادية مع الدول المشاركة، وفتح الباب أمامها لمد جسور التواصل والتبادل التجاري وعدم طرح القضايا الخلافية خلال القمة والتركيز على المشتركات، فيبدو أن مشروع المشرق الجديد الذي يضم كلاًّ من مصر والأردن والعراق حفّز الأخير على مفاتحة أطراف أخرى، عربية بالتحديد، لعقد شراكات موسعة معها، إلا أن الملف الأمني فرض نفسه وبقوة على مواقف بعض الأطراف المشاركة في القمة؛ فالعامل الأمني في العراق يقف عائقاً أمام سير باقي الملفات الأخرى، وهذا ما صرحت به بعض الدول المشاركة بأن أمن العراق واستقراره جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة واستقرارها والعكس، كما أنها تدعم خيار حصر السلاح بيد الدولة والسيطرة على السلاح المنفلت، ورفض التدخلات الخارجية بأشكالها كافة، في إشارة إلى أن كل ما ذكر ما يزال العراق يعاني منه على أرض الواقع.
العراق الجديد.. دور جديد
لم تخف العديد من الدول تطلعها للمشاركة في القمّة التي تجاوزت إطارها الإقليمي إلى الدولي، فهي تدرك جيداً أن الانتكاسة التي تعرض لها العراق عقب الغزو الأميركي أقحمت المنطقة برمتها في أزمات وصراعات معقدة، لذلك فقدت أبدت استعدادها لدعم العراق على الأصعدة والمستويات كافة، والمضي قدماً نحو عقد شراكات واسعة، خاصةً وأن بلداً كالعراق يحظى بموارد تتيح المجال أمام الدول الراغبة بالاستثمار، وهذا يرفع من احتمالية تزايد فرص النجاح للوصول إلى تعاون إقليمي مشترك في الجانب الاقتصادي، كما أن حضور فرنسا شكل عنواناً كبيراً للمؤتمر، فالدور الفرنسي الذي يبدو أنه يقدم دعماً مهمًّا من أجل إعادة إعمار المناطق المنكوبة ولعب دور أكبر في العراق قد يحفز الأطراف الأخرى للخوض في هذا المجال، خصوصاً وأن التجربة ذاتها تلعبها باريس في لبنان المشابه إلى حد كبير للعراق بمحاصصاته الطائفية.
وفي السياق نفسه، كانت السعودية قد أعلنت عن صندوق استثمارات سعودي – عراقي بحجم 3 مليارات دولار لدعم الاستثمار في العراق، بالإضافة إلى مشروع المشرق الجديد الذي تأمل أطرافه أن يحقق أهدافه المرجوة من خلال توسيع رقعة التعاون والشراكة بين الدول الثلاث.
بصورة عامة، فإن الدول المشاركة، خاصة تلك التي حضرت بوفود دبلوماسية رفيعة المستوى، يبدو أنها مستعدة ومتحمسة للانفتاح بجدية على العراق والبدء بصفحة جديدة عنوانها عودة العراق إلى دوره الرائد في المنطقة.
لكن على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال تلك التحديات الصعبة التي تواجه هكذا تطلعات ورؤى، فالمؤتمر على الرغم من أنه تطرق لمسائل مهمة، إلا أنه لم يسلط الضوء كثيراً على حقيقة البيئة المضطربة داخل العراق، خصوصاً وأننا على أعتاب إجراء انتخابات تحظى بدعم إقليمي ودولي، إلا أنها تواجه سخطاً شعبيًّا واسعاً لا يمكن تجاهله، كما أن هنالك أطرافاً فاعلة داخل العراق ترفض القمة منذ الإعلان عن عقدها وترفض أيضاً مخرجاتها، كأحزاب اليمين الشيعية التي ترى في القمة تهميشاً لدور الحشد الشعبي، ولا ترى في مخرجات قمة إقليمية ما يعود بالفائدة على عراق ينزف من الداخل.
على الرغم من تأكيد اللجنة التحضيرية لقمة بغداد أهمية بناء أرضية مشتركة بين الأطراف المشاركين وعدم التطرق لأي مسألة خلافية، وهذا ما قد يجسده عدم إجراء لقاء ثنائي رسمي بين وزيري الخارجية السعودي والإيراني تجنباً للتطرق إلى تلك المحاور، إلا أن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، أصرّ على أن يعبر عن امتعاضه بعدم دعوة سوريا للقمة، ورفضه الوجود الأجنبي في العراق، بالتزامن مع تأكيد المؤتمرين أهمية عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها، كما أرسل عبداللهيان إشارات بأن الشراكة مع العراق من نصيب إيران من خلال التأكيد على أن حجم التبادل التجاري يصل إلى 13 مليار، في حين من يقرأ ملف التبادل التجاري بين البلدين سيدرك أن العراق يستورد من إيران ولا يصدّر إليها، ويساهم بشكل فعّال في إدخال العملة الصعبة إلى ايران بعد انهيار عملتها (التومان) جراء العقوبات الاقتصادية، كما يستورد العراق الطاقة الإيرانية، الأمر الذي جعل الإدارة الأميركية تستثني أكثر من مرة هذا الملف من العقوبات، ليستطيع العراق الحصول على الكهرباء، ترافق مع هذه التصريحات الحادّة لوزير الخارجية الإيراني موقف يتعلق بالتقاط الصورة التذكارية للزعماء المشاركين، حيث لم يقف عبداللهيان في الخلف برفقة وزراء الخارجية، بل وقف إلى جانب زعماء الدول تاركاً مكانه الأصلي، الأمر الذي فسره البعض بجهل عبداللهيان بالإجراءات البروتوكولية؛ نظراً لكونه قد تسنم منصبه منذ وقت قصير جدًّا، أما آخرون فلم يبدو حسن النية، بل اعتبروا أن هذه الخطوة مقصودة ويسعى وزير الخارجية الإيراني (البيروقراطي والخبير في الدبلوماسية) إلى إيصال رسائل معينة.
على صعيد آخر، لا يمكن تجاهل الملف الأمني الذي يعد حجر زاوية لعقد أي شراكة، في حين يعاني العراق من خروقات أمنية متكررة سواء من قبل تنظيم داعش أو فصائل مسلحة ترى نفسها أعلى من الدولة، وبإمكانها إيقاف أي مشروع استثماري ما لم تكن مقتنعة أو شريكة فيه، وهذا اتضح جليًّا بعد إطلاقها صواريخ من نوع كاتيوشا عشية القمة باتجاه الكويت تعبيرًا عن رفضها لعقد القمة.
هل يعود العراق للبيت العربي؟
تكمن أهمية قمة بغداد للتعاون والشراكة في أن العراق أوصل رسالة مفادها أن علاقاته الخارجية قائمة على حفظ التوازن مع الجميع، وأنه ساحة تعاون لا تنافس، كما أن يديه مفتوحتان ليكون وسيطاً في أي نزاع، وهذا ما أكدته الخارجية العراقية من خلال تصريحاتها باستمرار اللقاءات السعودية – الإيرانية، وما عزز من ذلك اللقاءات الثنائية التي أجريت على هامش المؤتمر.
على الجانب الآخر، تسعى الدول المشاركة، العربية خصوصاً، إلى إعادة العراق إلى عمقه العربي، من خلال استعداد دخولها عبر بوابة الاقتصاد ومشاريع التنمية، والاستفادة من العلاقات الأردنية العراقية، وإمكانية إعادة دور الأردن بمشروع أنبوب نفط العقبة – البصرة بعد توقفه لما يقارب 20 عاماً، يضاف إلى ذلك مشروع الربط الكهربائي الممتد من مصر مروراً بالأردن نحو العراق.
لكن على الدول المشاركة أن تكون أكثر واقعية، وأن لا تذهب بطموحها بعيداً في ظل وجود فاعل إقليمي داخل العراق يستطيع عبر أدواته إفشال أي مشروع تتقدم به أي دولة في حال تعارض ذلك المشروع مع مصالحها، وهذا ما عبّر عنه بشكل غير مباشر وزير الخارجية الإيراني.
رهانات النجاح والفشل متساوية في الخطوات التي يخطوها العراق لاستعادة دوره، سيما أن الانتخابات المقبلة ربما تعيد صياغة المشهد من جديد، فإما أن تعيد العراق إلى عزلته السابقة، أو تعزز من اندفاعته نحو عمقه العربي، وتفاعله الدولي. وجمع الأضداد في بغداد لمرة واحدة لايكفي لاجتثاث الخلافات الإقليمية والجروح الغائرة.