عام على الانفجار، هل ينتظر لبنان انفجاراً جديداً؟

ما يزال لبنان بعد عام من انفجار بيروت يمر بمرحلة انتقالية مضطربة؛ فالاقتصاد اللبناني وصل لحالة من التراجع والانكماش تعتبر الأكبر منذ بداية الاحصاء في مجال الاقتصاد نهاية القرن التاسع عشر في ظل غياب لكافة أشكال الخدمات وخلوّ الاسواق تقريبًا من جميع أشكال المنتجات المستوردة حيث تشير الأرقام الى انكماش الاقتصاد اللبناني بنسبة 25% عام 2020 والتي سبقها انكماش بنسبة 9% عام 2019 ومن ثم يتوقع ان يتبعها انكماش آخر بنسبة 6.5% عام 2021 ليخسر الاقتصاد اللبناني في ثلاثة أعوام 37% من حجمه تاركًا خلفه تضخمًا هائلًا وبطالة تجاوزت ال40% رافقها ارتفاع في معدلات الفقر التي وصلت الى 55% في عام 2020 والتي من المتوقع ارتفاعها بنهاية العام الحالي.

بينما يعيش الشارع انقساما ملحوظا سياسيًّا واجتماعيًّا بين جمهور الأحزاب التقليدية وقوى الحراك الذين استطاعوا منذ الانفجار وحتى اليوم اثبات قدرتهم على التنظيم والخروج بخطاب وسردية مقنعين ومناقضين لسردية وخطاب أحزاب السلطة ما يدفع أحزاب السلطة نحو خلق حالة من التوتر الطائفيّ وافساح المجال للفئات الأكثر تطرفًا داخلها من التحرك على الأرض بهدف اعادة احياء الخطاب الطائفيّ، الذي قد يدفع الناس من منطلق الخوف الى الالتفاف حولها مرة أخرى.
وتدل مؤشرات الاستحقاق الانتخابي القادم على اتجاه الشعب نحو قوى انتفاضة تشرين ذات التوجهات المدنية العلمانية ولكن مع الابقاء في عين الاعتبار ان خلق حالة استقطاب جديدة في لبنان قد تخرج عن السيطرة وتؤدي الى انفجار الأوضاع واتجاهها نحو اضطرابات أكبر وأشد عنفًا في ظل غياب الحكومة التي تتشكل ببطئ وكأن البلاد تمر بحالة رخاء تسمح بهذا التأخير.

قبل عام.. انفجار المرفأ
اتجهت انظار سكان بيروت بعد ظهيرة يوم الرابع من آب 2020 نحو المرفأ لمشاهدة وتصوير الحريق الهائل الذي اشتعل في مرفأ بيروت، المنفذ الرئيسي الذي يربط لبنان تجاريًا بباقي العالم  لكنهم لم يدركوا في تلك اللحظة انهم كانوا على بعد ثوانٍ من مشاهدة رابع اكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشرية. خلّف ذلك الانفجار كما هائلًا من الأضرار والخسائر وآلاف الضحايا بين قتيل وجريح ونازح وعشرات الآلاف من المآسي الانسانية التي أضيفت الى فصول “المأساة اللبنانية” الأخرى لتعمق الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يمر بها لبنان. وتمر الذكرى السنوية الأولى لهذا الانفجار اليوم على الجميع بسؤال قد تختلف صيغته من شخص لآخر ولكن الجوهر ذاته: هل غيّر مشهد الانفجار مشهد الحالة اللبنانية؟ وهل هناك أمل في تغيير المشهد حقًا؟ وما هي الفصول الجديدة التي تنتظر “المأساة اللبنانية”؟
شهد لبنان بعد الانفجار سلسلة من الاستقالات  كان ابرزها استقالة الحكومة ما أدخل لبنان في دوامة فراغ السلطة التنفيذية  والذي لم يتم سده حتى اللحظة وقد يستمر لعدة شهور أخرى، لتتحول معه معاناة اللبناني اليوم لتشمل نقص كافة الخدمات والحاجيات الأساسية بينما تتجه الأنظار نحو العاصمة الفرنسية باريس من خلال مؤتمر الدول المانحة للبنان والذي تسعى فيه الدول المشاركة لتقديم مساعدات انسانية توفر للشعب ما لم تستطع السلطة السياسية  في لبنان توفيره بسبب الأزمة في مجالات الطاقة والغذاء والصحة والتعليم.

ما قبل الانفجار
شكلت انتفاضة تشرين في لبنان علامة فارقة في المشهد العام، حيث عكس حراك تشرين حالة الاحتقان والتعب التي يمر فيها الشعب اللبناني وخاصة فئة الشباب ممن ولدوا بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 واللذين عانوا أكثر من غيرهم من البطالة وتردي الوضع الاقتصادي؛ حيث بدا على مطالبهم عدم الاكتراث للخطاب الطائفي الذي تطور خلال الحرب واستخدم من قبل احزاب السلطة في كل مرة كانت تشعر فيه بالخطر على مكتسباتها السياسية وللدفاع عن نفسها في كل مرة كانت تسأل فيه عن أدائها في بعض الملفات أثناء وجودها في الحكومة.
وعلى الجانب الآخر، تحول الصراع في لبنان للمرة الأولى في تاريخه من صراع بين أحزاب سياسية ممثلة لطوائف دينية الى صراع بين “الحاكم والمحكوم”؛ وللمرة الأولى وجدت الأحزاب التقليدية نفسها مضطرة لوضع أيديها بأيدي خصوم الأمس للتخلص من الضغط الشعبيّ الذي لم يميز بينهم تحت شعار “كلن يعني كلن”. كما أظهر هذا التغير أيضًا أن الشعب لم يعد مقتنعًا بخطاب المؤامرة الخارجية على لبنان واتجهت أصابعه نحو المطالبة بإصلاح النظام من الداخل؛ فلا محور 8 آذار عاد قادرًا على إقناع جمهوره بأن تآمر الإمبرالية والاستعمار هو سبب فشل الدولة ولا تحالف 14 آذار قادرٌ على إقناع الناس بأن حزب الله وعلاقته مع إيران والنظام السوري هي سبب التضييق الاقتصادي على لبنان؛ فالفشل البنيوي في نظام الدولة وشكلها والمحاصصة الطائفية والزبائنية السياسية وتعطيل عمل الدولة والخدمات الأساسية بحجة حماية حقوق الطوائف لا علاقة له بالخارج في نظر المتظاهرين، وإنما سببه الرئيسي هو تنافس الطبقة الحاكمة ورغبتها في الاستفادة من كل ملف في الدولة ومحاصصة كل الوظائف الحكومية مهما كان مستواها أو درجتها لتعيين أبناء الطائفة وكسبهم “كزبائن سياسيين” للأحزاب.

الأزمة السياسية المتجذّرة
وفي ظل هذا الجو العام المعارض للأحزاب التقليدية، تمت تسمية الأكاديمي والقادم من خارج الطبقة السياسية التقليدية حسان دياب كرئيس للوزراء وأوكلت له مهمة انقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي. ولكن بعد شهور من المباحثات لتشكيل الحكومة انصدم الشارع اللبناني بالتشكيلة الحكومية المكونة من وزراء تمت تسميتهم كالعادة من قبل الأحزاب والتكتلات البرلمانية التي تمثل طوائفهم بل ومن رضوخ رئيس الحكومة لمطالبات بعض الأحزاب مما يعطيها والطوائف التي تمثلها ورقة للضغط على الحكومة وإدخالها في مساوماتهم الخاصة. الأمر الذي عكس عدم مرونة النظام السياسي بل وعجزه عن تغيير طريقة تسيير أعمال الدولة ولو حتى شكليًّا. ثم كانت الصدمة الأكبر وقعًا على الشارع بإعلان رئيس الحكومة التخلف عن دفع السندات المستحقة على الحكومة في آذار 2020 نتيجة أزمة في السيولة ناتجة عن جائحة كوفيد-19 مما أدى لانهيار متسارع في سعر الصرف حيث وصلت الى 15000 ليرة لبنانية مقابل كل دولار وفرضت البنوك التجارية قيودًا على السحب النقدي، تبع ذلك في الأيام التالية إعلان آخر عن فرض قيود متعلقة بحظر التجول والإجراءات الوقائية للحد من انتشار الجائحة ليزداد المشهد تعقيدًا.

انفجار في المعادلة السياسية.. ليس مجرد مرفأ
تحولت الأزمة في لبنان بعد الانفجار من قضية محليّة إلى شأن دوليّ، فالإنفجار لفت انتباه العالم للبنان وأصبغ عليها الصبغة الدولية كقضية انسانية بالمقام الأول. وفي وسط انشغال العالم بمكافحة جائحة كوفيد-19 وانشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية، كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أول شخصية سياسية تزور موقع الانفجار بعد يومين من وقوعه في وسط غياب من السياسيين المحليين وزعماء الأحزاب التقليدية الأمر الذي صور الرئيس الفرنسيّ بمنظر المنقذ أمام الشعب المنكوب ورفع السخط الشعبي على القوى السياسية التي غابت عن المشهد والتي لم تقدم أي شيء سوى الاستقالات والمحاولات المتواضعة لركوب موجة الاحتجاجات بعد الانفجار مقابل فشلها في تنفيذ أي جهود تذكر للتحقيق في الانفجار وتحقيق العدالة للضحايا بل وحتى للقيام بعمليات اعادة تأهيل للمنطقة المتضررة التي تم إعادة تأهيلها من قبل لجان شعبية تشكلت من المتطوعين. وفي الأول من سبتمبر، عاد ماكرون لزيارة لبنان مرة أخرى في الذكرى المئوية لقيام الدولة اللبنانية التي تأسست خلال فترة الانتداب الفرنسي طرح خلال زيارته مبادرة لحل الأزمة وافق عليها زعماء الأحزاب السياسية نصت على تشكيل “حكومة مهمة” مكونة من المختصين تقوم بتنفيذ الاصلاحات الاقتصادية المطلوبة وتبتعد عن كل ما هو سياسيّ وعن القضايا التي يختلف حولها اللبنانيون والعمل على الخروج من الأزمة الاقتصادية.
وخرج البرلمان بعد مباحثاته لتسمية رئيس جديد للحكومة ليكلف السفير مصطفى أديب رئيسًا بتشكيل الحكومة، ولكن هذه الجهود لم تثمر واعتذر الرئيس المكلف بعد 26 يومًا عن تشكيل الحكومة بسبب تمسك الأطراف السياسية بمكتسباتها واعتبارها لتمسكها بهذه المكتسبات حمايةً لحقوق الطوائف. وأدى هذا الاعتذار الى بدء جولة أخرى من المباحثات انتهت بتسمية سعد الحريري مرة أخرى تحت ضغوط دولية لتشكيل حكومة باسرع وقت ممكن. ليعكس ثانيةً عدم قدرة النظام السياسي على المناورة والقدوم بوجوه جديدة على الساحة لاستيعاب احتقان الشارع.
وبعد تسعة أشهر من المباحثات، أعلن الحريري اعتذاره عن تشكيل حكومة ودخل دوامة من القاء اللوم ورمي الاتهامات بينه وبين رئيس الجمهورية، ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وفي ظل هذا الفراغ السياسي والعجز التنفيذي وصلت الليرة اللبنانية ل21000 ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء، بينما اتجهت السلطة مرة أخرى وبنفس الأسلوب التقليدي نحو تسمية رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة بنفس الطريقة القديمة المستهلكة للوقت والتي قد تأخذ شهورًا يستمر الاقتصاد اللبناني خلالها بالنزيف.

متغييرات جديدة تفرض نفسها على المعادلة
في الجهة الأخرى، فهم الشباب والناشطون اللبنانيون المعادلة حيث أدركوا من تجاربهم السابقة وتجارب الدول المحيطة في الاقليم أن الانتفاضة التي لا تفرز معها نخبًا جديدة لا يكتب لها الاستمرار وأن سيطرة الأحزاب التقليدية والطائفية السياسية لن تُكسر إلا باختراق منظومتهم بأحزاب جديدة ذات توجهات علمانية. ظهر هذا الأمر واضحًا في الانتخابات الجامعية أولًا حيث أوضحت الأرقام بالجامعة اليسوعية والجامعة الأمريكية في بيروت بداية تراجع الأحزاب التقليدية من خلال سيطرة الأندية العلمانية والمستقلين على الانتخابات بنسب تفوق ال75% في الجامعتين العريقتين أكاديميًا واللتين طالموا رفدوا الأحزاب السياسية بالوجوه الشبابية الجديدة. وعلى صعيد مؤسسات المجتمع المدني، وتحديدًا النقابات، اتضح تناسق توجهات الشعب بكافة أطيافه نحو تغيير الوضع القائم بالصندوق وعزوفه عن الأحزاب التقليدية؛ حيث ظهرت نتيجة هذا التوجه بفوز المرشح المستقل ملحم خلف بمنصب نقيب المحامين في نهاية 2019 ثم الانتصار الأكبر في يوليو 2021 في نقابة المهندسين حيث حصلت قائمة “النقابة تنتفض” كاملة بأعضائها العشرة على كافة مقاعد مجلس النقابة بالإضافة لمقعد الرئيس ليمثل انتصارًا ساحقًا لقوى الحراك مقابل الأحزاب التقليدية.

هل الانفجار قادم
وكنتيجة لهذه التحولات صعّدت الأحزاب التقليدية تحركاتها من خلال تحييد التيارات المسالمة داخلها واعطاء الصقور المجال للعمل على الأرض بهدف الحفاظ على وجودها في ظل الخطر المحدق بها من قبل القوى المستجدة، ولخلق حالة جديدة من التوتر والاستقطاب للعب على وتر الطائفية مرة أخرى خاصة في ظل اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية القادمة في أبريل 2022 والتي قد يصعب على القوى التقليدية تأجيلها نظرًا للضغوط الدولية من جهة ونظرًا للتنافرات السياسية فيما بين هذه القوى من جهة أخرى والتي قد تجعل تأجيل الانتخابات أبعد السناريوهات، بينما تدل المؤشرات على أن الانتخابات تتجه نحو تحقيق اختراق في البرلمان لقوى انتفاضة تشرين الأمر الذي يشكل خطرًا على الوضع القائم الذي أديرت به البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990.

المخاطر، الفرص، التحديات
مع وصول الأوضاع في لبنان الى نقطة اللاعودة، بات السؤال اليوم هل يتجه لبنان الى تغيير ناعم في شكل الدولة ام أن انفجار الأوضاع وسيناريو الفتنة الطائفية هو الأقرب؟ وما هي التحديات والفرص في المستقبل المنظور؟
بدايةً فلا أحد في السلطة يرغب بانفجار الوضع أمنيًّا، فكتلة لبنان القوي لا تريد انهيارًا أمنيًّا يسجل في عهد الرئيس عون بينما يخشى تيار المستقبل من عدم الاستقرار وهو التيار ذو الأذرع الاقتصادية الكثيرة والتي تحتاج الاستقرار للبقاء بينما يخشى في نفس الوقت من ان تؤدي الفتنة لتوجيه الطائفة السنّية نحو فكر أكثر تطرفًا مما قد يؤدي بشكل أو بآخر اعدام التيار وربما الطائفة ككل سياسيًّا كما حدث في السيناريو العراقيّ. أما حزب الله ومع انه الاقدر على التعامل مع سيناريو الحرب عسكريًّا وأمنيًّا يعي أن الفتنة قد تخرج بتوازنات جديدة تضع فكرة وجود الحزب وسلاحه على طاولة المفاوضات بشكل جديّ كجزء من التسويات السياسية. بينما تخشى الطوائف الأخرى الأصغر والأقل عددًا من كابوس الفتنة حيث أن الأطراف الأصغر هي دائمًا الخاسر الأكبر.
ولكن وفي نفس الوقت، ترى بعض الأطراف أن بعض الانفلات الأمني شرٌّ لا بد منه؛ حيث أنه أقوى من أي رسالة سياسية يمكن توجيهها للخارج للاسراع في التدخل واستدراك الوضع قبل أن يتطور لحرب أهلية، وفي المقابل يمكن الاعتماد عليه كورقة تعيد التفاف المواطنين حول طوائفهم من منطلق الخوف ما يحقق للأحزاب السياسية هدفها في الانتخابات القادمة المتمثل في البقاء وعدم السقوط بأي ثمن.
في المقابل، فإن الوصول للانتخابات دون انفجار لا يعني بالضرورة وصول لبنان لبر الأمان؛ فالانتخابات بذاتها قد تشكل نقطة الانفجار ان تسببت في اقصاء بعض الأحزاب الطائفية دون غيرها. بينما قد تشكل في الوقت ذاته طوق النجاة للبنان، حيث أن القوى المدنية والعلمانية تعوّل بشكل كبير على اختراق البرلمان وتشكيل كتلة تدفع نحو اصلاح حقيقيّ في الجمهورية. في المقابل، تواجه هذه القوى تحديًّا في ظل انتشار الفقر والبطالة من أن تستخدم القوى التقليدية المساعدات المالية والتوظيف كوسائل لشراء الأصوات مما يعيد لبنان لنقطة الصفر من جديد.
يقف لبنان اليوم على مفترق طرق، قد يأخذه بعيدًا في طريق الاصلاح أو يجره نحو طريق الفتنة الأهلية. ويبقى هذا المستقبل مرهونًا بالتزام الأطراف المختلفة محليًّا ودوليًّا بضبط النفس والسير نحو حل سياسي-اقتصادي، فالنتيجة اليوم صارت إمّا أن يكسب الجميع كل شيء أو يخسر الجميع كل شيء.

زر الذهاب إلى الأعلى