طالبان ومستقبل “الجهادية العالمية” بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان
وأصبحت قوات الحكومة الأفغانية في حالة دفاع، وانهار بعض قطاعاتها العسكرية بعد أن فرضت طالبان سيطرتها على جنوب البلاد باستثناء المدن الكبرى، فضلاً عن التقدم الذي أحرزته في شمال شرق البلاد على الحدود المتاخمة لطاجيكستان، وأصبحت الحركة منتشرة في غالبية الأقاليم الأفغانية، وهي تطوق العديد من المدن الكبرى، حيث باتت طالبان تسيطر على نحو 75 بالمئة من مساحة البلاد، ومع الانتصارات العسكرية السريعة تبدلت التقديرات المتفائلة بصمود القوات الحكومية لمدة عام أو عامين إلى التنبؤ باستيلاء طالبان على السلطة في غضون أشهر قليلة.
مع اقتراب عودة نظام “الإمارة الإسلامية”، فإن السؤال المركزي يدور حول العلاقة المستقبلية بين حركة طالبان والجهادية العالمية.
فقد شكلت هذه العلاقة الذريعة الرئيسية التي قامت الولايات المتحدة على أساسها بغزو أفغانستان في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2001 للإطاحة بحركة طالبان، متهمة إياها بإيواء أسامة بن لادن وشخصيات أخرى في القاعدة مرتبطة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة.
وعندما وقّعت واشنطن اتفاقاً تاريخياً مع حركة طالبان في الدوحة في 29 شباط/فبراير 2020، كان أحد أهم بنود الاتفاق عدم سماح طالبان لأي من أعضائها أو أفراد أو مجموعات أخرى، بما في ذلك تنظيم القاعدة استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها، وهو بند يشير إلى أنه بعد مرور عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لم تحقق الحملة الدولية على الإرهاب بقيادة واشنطن سوى انتصارات تكتيكية دون تحقيق نجاحات استراتيجية.
تدرك الولايات المتحدة وحلفائها أن فك ارتباط طالبان بالجهادية العالمية ضرب من المستحيل، فهما أشبه بالتوأمين السياميين، فطالبان لا تعتبر نفسها عضواً في النادي الجهادي العالمي، بل تقدم نفسها قائدة للجهادية العالمية.
فالتزام طالبان شروط الاتفاق مع الولايات المتحدة بمنع أي جماعة راديكالية مسلحة من استخدام الأراضي الأفغانية كقاعدة للتخطيط لشن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها، لا يعني تخلي طالبان عن احتضان الجماعات الجهادية، وإنما يشير إلى تحول أهداف الجهادية العالمية من مواجهة “العدو البعيد” إلى قتال “العدو القريب”.
فمنذ عام 2005 تنامت ميول حركة طالبان نحو قيادة وتبني قضيّة الجهاد العالمي، إذ تطورت آيديولوجيتها وتركيبتها وأهدافها، فالمتابع للمجلة الشهرية التابعة لطالبان “الصمود”، منذ صدورها عام 2006 حتى اليوم، يدرك أسس العلاقة المتينة والعميقة التي تجمع ما بين طالبان والقاعدة وباقي الحركات الجهادية العالمية، والتي تحول دون فك الارتباط عن تنظيم القاعدة وباقي الجماعات الجهادية.
على مدى سنوات ترسخت العلاقة بين طالبان والحركات الجهادية من خلال الصلات الآيديولوجية والروابط الشخصية والأهداف المشتركة، بل إن طالبان أكدت في بيان نُشر على موقع الحركة المعروف باسم “صوت الجهاد” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أن الحركة ليس لها أي التزامات تقضي بقطع علاقاتها مع “القاعدة” بموجب اتفاق مع الولايات المتحدة.
ولكن طالبان قالت حسب المتحدث باسم الحركة سهيل شاهين: “نحن ملتزمون عدم السماح لأي شخص باستخدام الأراضي الأفغانية ضد الولايات المتحدة أو حلفائها”، وهما مسألتان مختلفتان، فعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات ضد أمريكا أو حلفائها لا يعني فك الارتباط بالقاعدة والحركات الجهادية، وإنما يشير إلى اتباع نهج جديد للجهادية العالمية يرتكز على استهداف العدو القريب والحكومات المحلية، وهو ما يعيد الحركة الجهادية إلى سيرتها الأولى، إذ توفر إمارة طالبان ملاذات آمنة للحركات الجهادية في مجال التخطيط والتدريب، لتنفيذ عملياتها في بلدانها الأصلية، وقد كشف تقرير صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مؤخراً عن مدى وحجم التقارب والتعاون بين الجماعات الجهادية في آسيا الوسطى وطالبان والقاعدة.
تتعامل حركة طالبان مع الانسحاب الأمريكي باعتباره نصراً مظفراً لها ولحلفائها وهزيمة منكرة للولايات المتحدة وشركائها، وهو ما يعزز من شرعية طالبان في قيادة الجهادية العالمية، التي تتنافس على تمثيله مع تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وبعد هزيمة داعش وإنهاء “خلافته” في العراق وسوريا، تهدف طالبان إلى أن تصبح “الإمارة الإسلامية” في أفغانستان مظلة جامعة للجماعات الجهادية كافة، وقد ظهرت سياسة طالبان بوضوح في رسالة مجلس الشورى القيادي للإمارة الإسلامية التي بعثها لتنظيم الدولة بعنوان “الشيخ أبي بكر البغدادي وإخوانه المجاهدون”، والتي نشرتها مجلة “الصمود” في العدد (111) يوليو/تموز 2015، المتزامنة مع صعود تنظيم “الدولة” في أفغانستان، حيث عرض نائب الإمارة الإسلامية ومشرف الشورى القيادي آنذاك ملا أختر محمد منصور، علي البغدادي، وتفادياً لما وصفه بـ”الفتنة” الإذن له بـ”الجهاد” في صف الإمارة الإسلامية وتعتبر الرسالة “أي جماعة أو صف آخر في مقابل صفها عملاً مخالفاً لمصالح الإسلام والجهاد والمجاهدين”.
وفي سبيل تأكيد شرعية الإمارة الإسلامية عمد ملا أختر إلى تذكير البغدادي بالبيعات الشرعية التي اكتسبتها قائلاً: “إن قيادة الإمارة الإسلامية قد عينت بانتخاب شرعي وبمبايعة 1500 عالم شرعي وشورى أهل الحل والعقد، وقام بتأييد هذه الإمارة الشرعية عدد من علماء وفقهاء العالم الإسلامي وقادة المجاهدين كالشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي وكالشيخ أسامة بن لادن وكان قد بايعها… وأن الإمارة الإسلامية من منطلق الأخوة الدينية لا تنوي إلا الخير لكم ولا تريد التدخل في شؤونكم، وتتوقع بالمقابل منكم التعامل بالمثل”، وأضاف: “إن أبطال الجهاد المعاصر مثل إمام المجاهدين الشيخ عبد الله عزام وقائد المجاهدين الشيخ أسامة بن لادن وقاهر الصليبيين أبو مصعب الزرقاوي وهازم الملحدين خطاب رحمهم الله تعالى جميعهم كانوا يعتزون بالتتلمذ في مدرسة أفغانستان الجهادية”.
في هذا السياق فإن حركة طالبان تعتبر تنظيم الدولة خصمها الأكبر لكونه نازعها قيادة الجهاد العالمي، وقد تعاملت مع ولاية خراسان التابعة للتنظيم في أفغانستان بحزم وعنف، حيث وجهت طالبان ضربة قاسية للمنشقين عن الحركة منذ أواخر 2015 وقتلوا زعيم التمرد عثمان غازي ومئة من مناصريه في قاعدة في مقاطعة زابول.
وبعدها عاد معظم الجهاديين الأوزبك إلى حظيرة طالبان، لكن العلاقات ظلّت وطيدة بين طالبان والحركات الجهادية الأوزبكية والطاجيكية الجهادية، وزادها رسوخاً سقوط زعيم الجماعة المسلحة الأوزبكية عبد العزيز يولداش وهو يقاتل بين صفوف طالبان خلال عملية نفذتها القوات الخاصة الأفغانية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو نجل مؤسس الحركة الإسلامية في أوزبكستان الذي يحظى بمكانة رمزية القائد العسكري المتمرس طاهر يولداش الذي ربطته علاقة وثيقة بأسامة بن لادن، وقاتل أيضاً في صفوف طالبان.
لا جدال بين الخبراء والباحثين على أن الجهادية العالمية باتت أكثر انتشاراً وأشد خطورة، وذلك بعد تعديل نهجها وتركيزها على السيطرة المكانية والحكومات المحلية، فلم تعد أولوياتها تقوم على النكاية والانتقام من الحكومات الخارجية، ولذلك فقد استندت الولايات المتحدة في قرار انسحابها من أفغانستان إلى تلك الحقيقة، وذلك للتخلص من سياسة الحرب “إلى الأبد” أو “التي لا نهاية لها”، وهي سياسة أكدها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ومن قبله الرئيس دونالد ترمب، وشغلت أمريكا على مدى العقدين الأخيرين عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول تحت اسم “الحرب على الإرهاب”، باعتبارها حرباً مفتوحة في الزمان والمكان، وقد اتفقت الإدارتان الأمريكيتان السابقتان على وجوب قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم، وعكْس النموذج القائم منذ وقت طويل لنهج مكافحة الإرهاب العالمي، إذ توضح “استراتيجية الدفاع الوطني” لعام 2018، أن “التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، وليس الإرهاب”.
لا تقتصر الأهداف الأمريكية بالانسحاب من أفغانستان على أولوية التنافس الاستراتيجي بين الدول، بل تشمل خلق حالة من الفوضى في جنوب آسيا، فسيطرة طالبان تعني خلق مشكلات لروسيا والصين وإيران وحتى باكستان والهند، وهي دول منافسة للولايات المتحدة، فطالبان توفر ملاذات آمنة لحركات جهادية مناهضة لهذه الدول، فروسيا قلقة من تنامي قوة الحركات الجهادية في آسيا الوسطى وشمال القوقاز التي ترتبط بعلاقة وطيدة مع طالبان أمثال حركة أوزبكستان الإسلامية والحركات الطاجيكية وغيرها.
والصين قلقة من تصاعد قوة حركة تركستان الشرقية التي تمثل الجهادية من أقلية الأويغور في الصين، وإيران قلقة على مصير أقلية الهزارة الشيعة في أفغانستان، ومن تنامي الجهادية الإيرانية البلوشية وغيرها، وباكستان تخشى عودة طالبان باكستان، والهند مرتابة من صعود القاعدة في شبه القارة الهندية وحلفائها.
فمع وجود القوات الأمريكية في أفغانستان اعتمدت دول مثل روسيا وإيران، والصين على التزام الولايات المتحدة تحمُّل العبء الرئيسي لقتال القوات الجهادية في أفغانستان التي كانت تهدّد مصالحها. ولكن الوضع سوف يتغير بعد رحيل القوات الأمريكية والغربية.
إذا كانت عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان مزعجة للولايات المتحدة، فإن عودة الحركة تشكل قلقاً أكبر لروسيا والصين وإيران، وحتى باكستان والهند، فالانسحاب الأمريكي يعني أن روسيا والدول المجاورة مباشرة لأفغانستان هي التي سوف يتعين عليها مواجهة أي تهديد لها من جانب إمارة طالبان، ورغم أن دول جوار أفغانستان شرعت بالتواصل مع حركة طالبان وفتح علاقات حسنة معها خشية تنامي الحالة الجهادية في المنطقة، والحيلولة دون استخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات عابرة للحدود.
إلا أن طالبان لن تستطيع ضبط سلوك الجهادية العالمية لو أرادت ذلك، وفي كل الحالات ستجد هذه الدول نفسها مجبرة على التعامل مع إمارة طالبان، فإحدى المسائل المعقدة في خيارات طالبان بتبني قيادة الجهادية العالمية، أنها لا تستند إلى الصلات الآيديولوجية والروابط التاريخية فحسب، بل وإلى الضرورات الاستراتيجية العملياتية، فتخلي طالبان عن الجهادية العالمية سيدفع أعضاءها إلى الالتحاق بصفوف منافسها الشرس تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما ستسعى لتجنبه، لذلك فإن طالبان ستجد نفسها مجبرة على قيادة الجهاد العالمي، لكن بأهداف مختلفة عن حقبة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.