تركة “داعش” الأخطر

لم يحقق الانتصار العسكري في كلّ من العراق وسورية، وانهيار “الخلافة المتطرّفة” التي أقامها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، نهاية الظاهرة. ففضلاً عن أنّ التنظيم ما زال ناشطاً وفاعلاً في العراق وشرق الفرات في سورية، ويمتلك موارد بشرية ومالية كبيرة، كما يوضح الباحث حسن أبو هنية، فإنّ هناك مسائل عدة عالقة خطيرة ما زالت قائمة، وترتبط بما أحدثه التنظيم من “طفرة” على صعيد الدعاية والتجنيد ومصير آلاف البشر، الذين جذبهم التنظيم، أو وقعوا تحت سيطرته خلال مرحلة “الدولة” التي أقامها.

ناقش خبراء وباحثون غربيون وعرب متخصّصون هذه القضايا في مؤتمر “مستقبل داعش بعد مقتل قادته” الذي نظمه معهد السياسة والمجتمع في عمّان (بالتعاون مع مؤسسة “فريدريش أيبرت”) قبل أيام قليلة. أجاب الباحث تشارلي ونتر عن سؤال مهم: كيف تعاملت دعاية التنظيم مع خسارته دولته ونهاية الشعار المعروف “باقية وتتمدّد” من خلال عرض التحول الكبير في الموضوعات التي تهيمن على منشوراته، إذ قارن بين مرحلتي القوة وبعد انهيار الدولة، لنجد أنّه، في المرحلة الأولى، كانت النسبة الكبرى من الدعاية تركّز على “الدولة المثالية” التي أقامها. أما بعد الانهيار، فأصبح التركيز على العمليات العسكرية التي يقوم بها، لتأكيد استمراريته وشرعيته. والملاحظ، وفقاً لونتر، أنّ التنظيم الذي انتقل بصورة مكثفة (على وسائل التواصل الاجتماعي) إلى “تلغرام”، أصبح – وفقاً لمنشوراته – أكثر حضوراً وفاعلية في أفريقيا وأفغانستان، بعدما كان تركيز الإعلام سابقاً على المركز (العراق وسورية). أمّا ماهر فرغلي، فيشير إلى الخلافات الأيديولوجية والفقهية التي بدأت تطفو على السطح، بخاصة بين التيار المتشدد (الحازميين) وتيار أبو محمد فرقان، وتيار البنعلي.

الأسئلة المهمة يطرحها علي الطاهر في الدراسة التي قدمها عن مخيم الهول ومصير آلاف العائلات المرتبطة بالتنظيم، حيث يعيش آلاف الأطفال الصغار، في ظروفٍ قاسية، بينما يشير باحثون، مثل وليد الراوي، إلى قوائم في العراق لعشرات الآلاف ممن يُحسبون على التنظيم (من دون مستنداتٍ قانونيةٍ واضحة)، ما يجعلنا أمام “تركةٍ ثقيلةٍ” لا تصوّرات أو استراتيجيات دولية للتعامل معها، ما يجعلنا أمام “قنبلةٍ موقوتة” في المنطقة العربية.

المفارقة التي فجّرها، خلال المؤتمر، الباحث تشارلز ليستر، تتمثل بنقاشه مع أحد المسؤولين الأميركيين عن مكافحة الإرهاب، عندما سأله ليستر عن كيفية التعامل مع آلاف البشر بعد القضاء على التنظيم، فكان الجواب أنّهم يأملون قتل أكبر عدد خلال الحملة العسكرية!

ثمّة تساؤلاتٌ إنسانيةٌ وقانونيةٌ ومجتمعيةٌ وسياسيةٌ مهمةٌ ورئيسيةٌ تتعلق بمن هم اليوم في معسكرات الاعتقال من أطفال ونساء. والغريب أنّ هنالك تجاهلاً ملحوظاً من المجتمع الدولي، والأغرب أنّ الحكومات العربية، وأغلب الحكومات الغربية، تتنصّل من مسؤولياتها باستعادة النساء والأطفال العالقين في هذه المعسكرات، ولا ترغب في استعادتهم، ولا تمتلك أيّ تصوراتٍ لكيفية التعامل معهم، وخاصة الأطفال والمراهقين الذين خضعوا، أعواماً عدة، لدعاية التنظيم وتنشئته، ثم أعواماً أخرى في معسكرات الاعتقال في ظروف غير إنسانية، وقهرية، كما يسجل مروان شحادة.

بالانتقال إلى استراتيجيات مكافحة الإرهاب، يرتفع منسوب القلق من المستقبل. فمن الواضح، كما يؤكد الباحثان، سعود الشرفات ومحمد العظمات، أنّ هناك فجوات كبيرة فيها. بينما يتفق أغلب الباحثين (في المؤتمر) في أنّ الولايات المتحدة معنية فقط بمصالحها وأمنها القومي، فإنهم يرون أن الدول العربية تستثمر في الإرهاب أكثر مما تحاربه، وتوظف هذه الجماعات لتحقيق مكاسب أمنية وسياسية ومالية أيضاً، عبر ما يصفه الباحثون بـ”بيزنس الإرهاب”.

في النتيجة، يتفق الجميع في أنّ الشروط التي أنتجت “داعش” وشكّلت حواضنه الاجتماعية لا تزال قائمة، بل قد تزداد سوءاً، وما أنتجته الحرب على الإرهاب هو مزيدٌ من التطرّف والعنف، لأنّها اعتمدت على الاستراتيجيات الصلبة عسكرياً وأمنياً، ولم تتقدّم في تجفيف المنابع الحقيقية (الشروط السياسية والمجتمعية والثقافية) بقدر ما ذهبت إلى الجانب الأيديولوجي الذي يمثّل عاملاً ثانوياً وليس رئيسياً مع استذكار عنوان مقال حازم الأمين “ابحث عن السوسيولوجي قبل الأيديولوجي” في معرفة لماذا صعد تنظيم داعش.

المصدر
العربي الجديد
زر الذهاب إلى الأعلى