الأردن والجيوبوليتيك الجديد
لا تقاس نتائج “معركة التحرير” التي خاضها الفلسطينيون أخيراً، في قطاع غزة والضفة الغربية والـ48، بحجم الخسائر العسكرية والكلفة الإنسانية الباهظة، على الرغم من الألم الكبير من ذلك، بل بالنتائج السياسية التي تعكس موازين الكسب والخسارة.
وسياسياً، لا يوجد من يناقش، حتى باللغة الإسرائيلية في ما بعد المعركة المرتبكة، بأنّ هنالك نقطة تحول مفصلية حدثت جرّاء ما حدث، بل انقلاب كامل، على صعيد فلسطيني، وعلى صعيد عربي وعالمي أيضاً. فالسياق الذي تشكّل في مرحلة سابقة، وبلغ أوجه في فترة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، انهار، وعادت القضية الفلسطينية قضية مركزية في السياسات العالمية والإقليمية، بما في ذلك الوضع في القدس الذي أصبح واضحاً أنّه سيكون سبباً في انفجار المنطقة بأسرها إذا استمرت السياسات الإسرائيلية.
عربياً، ثمّة تغيرات كبيرة وقعت، وتتشكل حالياً في ضوء ما حدث، ومفهوم السلام الإقليمي خارج سياق الحلّ الفلسطيني انهار، والأنظمة العربية تعيد قراءة موضعها، والسلطة الفلسطينية أصبحت في مرحلةٍ ضعيفة، بينما عادت حركة حماس لتدخل الحسابات الإقليمية بجدارة.
أردنياً، كان الموقف الرسمي منذ أربعة أعوام ولاحقاً، متميزاً في دعم الفلسطينيين، بخاصة في موضوع القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية وفي رفض صفقة القرن، وهو موقفٌ حمل كلفته النظام الأردني، وأدّى إلى ما يشبه القطيعة بين الملك وإدارة ترامب. فوق ذلك، خرج الأخير ساخراً من تحذيرات الملك من أنّ القدس ستفجر المنطقة، ردّاً على قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وكان الموقف الأردني صلباً، وتوجه الملك حينها إلى تركيا، وتحرك وزير الخارجية، أيمن الصفدي، في جولات مكوكية بين أوروبا والدول العربية والعالم ليؤكد خطورة “صفقة القرن” وما يحدث في القدس.
المفارقة أنّ الموقف الأردني الصلب لم ينعكس بوضوح على السياسات والخطاب الإعلامي الأردني خلال الأزمة، وبدلاً من أن يكون ما حدث تأكيداً لمصداقية التحذيرات، وتعزيزاً للخطاب الأردني، ودعماً له داخلياً وخارجياً، بدا وكأنّنا غبنا قليلاً عن الوعي، واكتفى المسؤولون بخطاب تقليدي، لا يرقى إلى مستوى التفاعل الشعبي الأردني والعربي مع الحالة الفلسطينية ولا يعكس حجم الجهود وقوة الموقف الذي قدّمه الأردن نفسه خلال الأعوام الماضية!
لا أكشف سرّاً إن قلت إنّ المسؤولين الأردنيين كانوا يأملون ويتبنّون ضرورة وقوع حدث مفصلي مهم يقلب الأوضاع، ويغير موازين القوى، ويضع حداً لنتنياهو وكوشنير وترامب، بما في ذلك الانتفاضة السلمية الفلسطينية. وحتى في الشارع الأردني كانت هنالك رسائل لضرورة تحرّك الشارع حينها، ما يعني أنّ ما وقع فعلياً كان في صلب الرؤية الأردنية والمصالح الوطنية الأردنية والفلسطينية.
كانت هذه القضايا المهمة الأساسية في صلب ورشة عمل مغلقة، عقدها معهد السياسة والمجتمع، وشارك فيها سياسيون وخبراء أردنيون (خضعت لقواعد Chatham House)، وصلوا إلى نتائج وتوصيات تتعلق بتقييم الموقف الأردني خلال الأحداث؛ ولعلّ من أبرز ما جاء في النقاش أنّ هنالك اليوم جيوبوليتيك جديد يتشكل في المنطقة منذ إدارة الرئيس بايدن، وتسارع في تشكله مع ما حدث في الأراضي المحتلة، وعلى الأردن أن يتعامل مع المتغيرات بمقاربة استراتيجية وسياسية مختلفة، من ضمنها العلاقة مع إيران وتركيا وسورية والعراق، بما يضمن المصالح الوطنية الأردنية.
على صعيد السياسة الفلسطينية، هنالك مشكلة كبيرة في “الغموض الأردني” في ترسيم حدود الأمن القومي الأردني، فإذا كانت مصر تعتبر غزّة امتداداً لأمنها القومي، وهي كذلك، وتضع كلّ خلافاتها مع حركة حماس على الرفّ، وتعتبر طرفاً مهماً في تحديد الوساطة والهدنة وتقرير الأمور، فمن باب أَولى أن يكون الأردن واضحاً في ما يتعلق بالضفة الغربية والقدس والقضية الفلسطينية التي لا تمثل امتداداً للأمن القومي الأردني، بل هي جزء منه، تمسّ القضية الداخلية والأمن الوطني والحدود والمصالح المشتركة والوصاية على المقدّسات، لذلك ليس منطقياً أن يكون الدور الأردني خارج سياق الحسابات المباشرة في هذه الأحداث.
صحيحٌ أنّ الملك عبد الله الثاني تبنّى مقاربة استراتيجية واضحة منذ اليوم الأول، عنوانها الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين، وأنهى جدلاً تاريخياً معروفاً في هذا السياق، لكنّ ذلك لا يعني أنّ المصالح الأردنية ليست ممتدّة ومشتبكة مع الحالة الفلسطينية.
الأمر الآخر، الذي أشار إليه الخبراء وسيصدر في ورقة تقدير موقف، أنّ الرهان لا يجوز أن يقتصر على السلطة، ولا على الرئيس عباس الذي هو في أضعف حالاته اليوم، فمن الضرروي أن يكون هنالك انفتاح وعلاقة قوية بالفصائل والقوى والمجتمع الفلسطيني، بما في ذلك حركة حماس، والأهم أن يكون الأردن شريكاً في التفكير في مرحلة ما بعد عباس، أيّاً كان سبب أو وقت ذلك.
أعاد الأردن فتح قناة مع حركة حماس، خلال الأحداث، لكن ذلك لا يكفي، المطلوب إعادة تفكير جدّية في الأمن الوطني الأردني وأبعاده وآفاقه خلال المرحلة المقبلة.