انشطارات الهوية الوطنية والانفجار الهوياتي

ساهمت سياسة اللا سياسة وموت السياسة التى اعتمدت على القمع المادى والإيديولوجى والرمزى في إحداث حالة من الانكار للواقع الموضوعى المتعدد فى تكوين غالبُ المجتمعات العربية الانقسامية. ويبدو أن الإفراط فى استخدام القوة والقدرة على مواجهة الاضطرابات الداخلية، أو بعض المعارضات الضعيفة أدت إلى نسيان أن إدارة التعدد الدينى والعرقى والمذهبى والطائفى والمناطقى، تحتاج إلى إدارة سياسية، وليست أمنية. من ثم إلى سياسة للاندماج الداخلى، تتطلب تمثيلات سياسية لمصالح هذه المكونات وثقافاتها، على نحو يؤدى إلى توليد تفاعلات سياسية فيما بينها، تنتج موحدات وطنية، تعلو فوق الانتماءات الأولية.
يبدو أن آفة نخب القوة فى العالم العربى، هى النسيان تحت وهم القوة المادية والرمزية الغلابة، التى خايلت صناع السياسات والقرارات عند القمة، دون النظر إلى مستقبل الدول الناشئة  ومجتمعاتها  الأنقسامية ما بعد الكولونيالية.

كانت سياسة واستراتيجيات بوتقة الصهر القسرية بقوة أجهزة الدولة، تبدو تعبيراً عن غطرسة القوة ومؤسسة لوهم بناء الهوية الوطنية عبر ادواتها . من ناحية أخرى شكلت هذه السياسة الاندماجية العنيفة فى ظاهرها السعى إلى بناء الوطنيات الجديدة، والهويات الموحدة لمكوناتها، وذلك على حدود سياسية خططها الاستعمار البريطانى والفرنسى والإيطالى وان ذلك من الممكنات في ادراك النخب الحاكمة ، وذلك دونما مواريث سوسيو-ثقافية وسياسية تؤصل لهذه الوطنيات الجديدة حول الدولة الوطنية، والأهم نخب سياسية خارجه من أعطاف السياسة ومنافساتها وصراعاتها السلمية حول المصالح والأفكار والبرامج الاجتماعية والسياسية وهو ماثبت فشله طيلة العقود الماضية وذلك علي خلاف المثال المصري . غاب عن الكثرة الكاثرة من الحكام والمفكرين العرب ان القومية المصرية تشكلت مع الدولة الحديثة،و النخبة السياسية، وحركة البعثات لاوروبا والتعليم المدنى، وقطاع الدولة، والمدن الكوزموبوليتانية الحاملة لتنظيم وتخطيط عمرانى، وطرز حدايثة تشكل حواضن سوسيو ثقفافية ، ومجال عام مفتوح على داخله، وعلى العالم حول المركز الرأسمالى الأوروبى.
كان التعدد الثقافى، جزءاً من عمليات تفاعل اجتماعى وثقافى وتعليمىواقتصادي، من قلب هذه التحولات الكبرى حول الدولة النهرية العريقة –السبع ألفية وفق أنور عبد الملك- والعروة الوثقى بين جنيس إبراهيم باشا، والحركة الوطنية المصرية المعادية للاستعمار، والتى زاوجت بين مطالب التحرر الوطنى والاستقلال، والدستور الحديث والمؤسسات السياسية .

فى إطار التفاعل بين السياسى والاجتماعى والثقافى تم تأسيس القومية المصرية الراسخة الجذور. لم تكن الوطنية المصرية بعيدة عن التجانس الداخلى بين المصريين أيا كانت انتماءاتهم الاجتماعية، والدينية والمذهبية والمناطقية فى الريف والحضر والمدن الكبرى.

القومية المصرية لم تكن خيار نخبويًا أو سلطويا، وإنما تفاعلات ضارية وقاسية لكسر المجتمع التقليدي وعالمه،  لبناء الإطار التصورى والتخييلى حول الهوية القومية المصرية، والدولة الحديثة. لأنها هوية حداثية بامتياز تتجاوز التمايزات الاجتماعية، والاختلافات الدينية والمذهبية والسياسية. من هنا شكل النموذج المصرى التاريخى والمستمر استثناءا عربياً وشرق أوسطيا بامتياز، مع دولة المخزن فى المغرب الشقيق.
أحد أعطاب هشاشة محاولات بناء وطنيات عربية، تتمثل فى أن الأصول العرقية والمذهبية والعائلية والطائفية، والاجتماعية لنخب القوة بعد الاستقلال، أنها ظلت تعتمد على العائلات الكبيرة والعشائر، والبيوتات الحاكمة التى تفرز الحكومات، وقادة النظام حول مراكز القوة داخله عند القمة، وفى أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، والبيروقراطية، والإيديولوجية. ظل أهل الثقة يدورون حول انتماءات الحاكم وحلقته السياسية الضيقة، وكانت الوطنية هى تعبير عن الإطار التصوري والتخييلي المعبر عن انتماءات و مصالح هؤلاء وسندهم الأولى الدينى والمذهبى والعائلى والعشائرى..الخ. كانت الوطنيات محملة بهشاشتها، لأنها اعتمدت فقط على اختيارات الحكم وسنده الاجتماعى، دونما نظر لمصالح وهويات المكونات الأخرى وثقافاتها وتواريخها الحقيقية والمتخيلة.

من هنا بعد مرور فترات لا تتجاوز ستة عقود – وبعض الدول النفطية أقل من ذلك -، انكشفت هشاشة الوطنيات الجديدة، وخلالها قام بعض المثقفين والمتعلمين من داخل المكونات الأساسية القبلية والمذهبية والدينية والعرقية، بصياغة سياسة لهوياتها، تعتمد على بناء هوياتها وخصوصياتها، وتؤسس لانفصال هوياتى عن الهوية الوطنية فى هذه البلدان، بل وأمتد ذلك إلى تشكيك بعض أبناء الهويات الكبرى التى فرضت بعد الاستقلال، فى التشكيك فيها.، وخاصة مع التعليم واتساع احجام الفئات الوسطي وشعورها بالمظلومية إزاء هوية المكون الرئيس والمسيطر علي مقاليد الثروة والسلطة .
ثمة عديد الأمثلة على ذلك يمكن رصد بعضها فيما يلى:

1- الخطاب حول أفريقية السودان، وقبائل الوسط النيلي، وهوياتها العربية الإسلامية. خاصة مع التحول إلى الأسلمة فى ظل حكم حزب المؤتمر الوطنى الحاكم خلال ثلاثين عاماً، ومن ثم غلبة الهوية الإسلامية على غيرها. بناء القبائل الدارفوريةرالتاريخية لهوياتها الأفريقية، وكذا الأمر لقبائل شرق السودان. انفصال الجنوب السودانى، وبناء دولة لا تزال هشة بدعوى الانتماء العرقي الأفريقى فى ظل انقسامات قبلية ومناطقية.
2- بناء الهوية الكردية فى شمال العراق، بعد فشل مشروع الحكم الذاتى. من ناحية أخرى انهيار أيديولوجيا البعث والتحول إلى الانفصال الهوياتى حول المذهب والمنطقة، ويتجلى هذا الصراع، فى تحول المرجعيات الدينية الشيعية والسنية إلى جزء محورى فى بناء القوة ما بعد الاحتلال الأمريكى. الأخطر تحول بعض قادة البعث السابقين إلى جزء من تركيبة  تنظيم الدولة الإسلامية، وتحت الهوية السنية، ومعهم بعض ضباط وجنود جيش صدام حسين من السنة، بعد حل الجيش العراقى على أيدى برايمر.
3- تحول أيديولوجيا البعث السورى، وسندها الاجتماعى الأقلياتى إلى هوية هذا التحالف الأقلياتى، فى مقابل انفجار الهويات السنية، والكردية والمناطقية الأخرى.
4- بروز أزمات هوية مناطقية وقبلية بعد الحرب الأهلية فى اليمن، بدعم من دول الأقليم النفطى، وإيران بعد وصول جماعة الحوثىالمدعومة والمسلحة إلى العاصمة وسيطرتها على غالب العمق الشمالى، وبروز أحزاب وجماعات جنوبية تدعو إلى الانفصال، وذلك على الرغم من التاريخ اليمنى العريق.
5- انهيار الدولة فى ليبيا أدى إلى إحياء الهويات القبلية والمناطقية وأحلام العودة إلى الولايات الثلاث بعد الاستقلال طرابلس وبرقة وفزان، وإلى الهوية القبلية التى كانت سائدة فى ظل حكم الكولونيل القذافى، الذي استخدم الهوية العربية الجامعة أداة للتغطية على قمع الهويات الأساسية الأخرى التى عاشت وتنامت رغم القمع، ولعبه علي الهوية الوطنية المترددة بين العروبة والأفريقانية!
6- الحالة التونسية وهويتها الوطنية قديمة، لكنها هشة بالنظر إلى الطبيعة التسلطية للنظام السياسى منذ بورقيبة حتى بن على، والتى اعتمدت على التنظير السياسى لعلاقة تونس بالحداثة منذ عهد البايات، لكن الواقع كان يخفى سيطرة منطقة الساحل والمنتمين إليها، وبعض أبناء صفاقس-المدينة الاقتصادية المركزية الأولى-، مع تهميش الجنوب والوسط التونسى، الذى أصبح مصدراً من مصادر عدم الاستقرار، وخاصة مع تمدد الحركة السلفية، وجماعة النهضة، وانخراط ما يفوق أربعة آلاف تونسى من هذه المناطق أساساً، ضمن تنظيم القاعدة، وبعده تنظيم داعش.  ماسبق ادي الي اضعاف الهويات الوطنية وجعلها موضوعا مركزيا للصراع السياسي والاجتماعي . ( وللحديث بقية ) .

المصدر
الأهرام
زر الذهاب إلى الأعلى