هل تراجع مشروع استئصال الإسلاميين؟
صحيح أنّ هنالك اتجاهات معروفة في مراكز التفكير الأميركية تجاه الإسلام السياسي، ما ينعكس على مزاج الإدارات الأميركية عموماً، بين اتجاه انفتاحي عموماً (يتمثل حالياً في مؤسسة كارنيغي ونخبة من الباحثين المعروفين؛ مثل ميشيل دن، مارك لينش، ناثان براون وغيرهم) واتجاه منغلق يميني (مثل دانيال بايبس وخبراء المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي)؛ إلاّ أنّنا لا نجد موقفاً موحّداً أميركياً دائماً من الإسلاميين، وإنما متغير بحسب المصالح الأميركية.
عبر العقود السابقة، درجت الإدارات الأميركية، ضمن منظور مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، على تفضيل خيار الصفقة مع النظم السلطوية العربية وقيمة الأمن والاستقرار على حساب قيم الديمقراطية والحرية. وإذا كانت المصالح الأميركية تتمركز حول النفط وأمن إسرائيل والمصالح التجارية، فإنّ استلام الإسلاميين السلطة كان بمثابة الفزّاعة التي يتم رفعها، عادةً، في وجه أي دعوة إلى الديمقراطية والتغيير في المنطقة.
بدأت الأمور تتغيّر، وأخذ الباحثون والخبراء يراجعون تلك السياسات الأميركية بعد أحداث “11 سبتمبر” في 2001، وحمّلوا ما اعتبروها “صفقة تاريخية” بين الإدارات الأميركية وهذه النظم مسؤولية إنتاج الإرهاب وتصديره، وهي مراجعات وجدت صدى لها في مبادرة كولن باول لتوسيع الديمقراطية في المنطقة، لكنّ المشروع بأسره، والذي نظّر له المحافظون الجدد (خلال تلك المرحلة)، تدهور مع بروز المقاومة العراقية بعد احتلال العراق، ثم عودة “القاعدة” إلى الفعالية، وتحول العراق إلى مستنقع جديد شبيه بأفغانستان.
شكّل الربيع العربي مرحلة جديدة مختلفة، خلال حقبة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، التي تريّثت قليلاً، قبل أن تسير في ركاب قوى التغيير، وتبدأ باختبار العلاقة مع الإسلام السياسي. وحينها انفتحت كوّة في الباب الموصد، وأخذ الكونغرس يستمع لرأي خبراء مميزين في موضوع الإسلام السياسي في واشنطن (2011)، ثم عقد مؤتمر “الإسلاميون في السلطة” (من خلال مؤسسة كارنيغي في واشنطن 2012)، وقد حضرته قيادات الحركات الإسلامية، والتقت بمسؤولين أميركيين، وجرت لقاءات مغلقة في وزارة الخارجية الأميركية بين بعضهم ومسؤولين أميركيين بنيّة التعرّف على “النوايا الإسلامية” في السلطة.
لم يمض وقت طويل حتى تراجع ذلك الزخم، وانكمش التيار الانفتاحي في مراكز التفكير الأميركية، بخاصة بعد حادثة مقتل السفير الأميركي ليبيا، في بنغازي (2012). حينها انتفض الصقور، وقالوا إن هذه نتيجة التفكير في خيارات بديلة. وحمّلوا إدارة أوباما المسؤولية كاملة، ثم جاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليعزز المخاوف من التيارات الإسلامية عموماً، في الأوساط الغربية، وتزامن ذلك مع تدشين حملة رسمية عربية لشيطنة الإخوان المسلمين ووسمهم بالإرهاب والتطرّف.
ترك أوباما البيت الأبيض، بعدما تخلّى عملياً عن سياسات دعم الربيع العربي، وانكفأ عن منطقة الشرق الأوسط، وعقد الصفقة مع إيران، معتبراً أنّها طرفٌ مأمون الجانب، مقارنة بالوضع العربي المأزوم داخلياً، والذي يصعب إصلاحه، فكان توجه إدارة أوباما إلى الانسحاب من المنطقة، وعدم التورّط في أي نزاع عسكري، بما في ذلك سورية والعراق وليبيا وغيرها.
شكّلت حقبة الرئيس دونالد ترامب (2016 – 2020) منعطفاً جديداً في المواقف الأميركية من الإسلام السياسي، لم تقف عند حدود العودة إلى السياسة التقليدية قبل الربيع العربي، بل تآلفت مع رؤى اليمين الأميركي – الصهيوني هناك، بوصف الإسلاميين جميعاً بالإرهاب والتطرّف، وعدم التمييز بين المعتدلين والمتطرّفين منهم، أولاً، ومنح الأنظمة العربية شيكاً مفتوحاً على بياض، بصورة غير مسبوقة، من دون انتقادات أميركية تذكر للتنكيل بالمعارضين، وضرب قيم حقوق الإنسان بعرض الحائط، ذلك لتحقيق تحالف عربي – أميركي – إسرائيلي في مواجهة إيران والإسلام السياسي، واستدخال إسرائيل رسمياً في بناء منظومة إقليمية أمنية جديدة!
في ضوء ذلك كلّه، ستُحدِث مغادرة ترامب البيت الأبيض فرقاً مهماً في السياسات الأميركية تجاه الإسلام السياسي، وعودة الديمقراطيين بمواقفهم غير المتشنّجة، وغير المتناغمة مع الرواية اليمينية الأميركية، ما سيخفف من حبل المشنقة الذي كان يلتفّ حول عنق تيارات الإسلام السياسي، خصوصا التي تؤمن بالعمل السياسي، وتعلن القبول بالديمقراطية. هذا في الحدّ الأدنى، بمعنى مشروع اجتثاث الإسلام السياسي أمنياً كمقاربة رسمية عربية لم يعد يحظى بمباركة أميركية، وقد يواجه معارضةً إذا اصطدم بصورة صارخة بمعايير حقوق الإنسان. ثم إنّ إدارة الرئيس بايدن، وإن لم تتبن الديمقراطية قيمة أولية في السياسة الخارجية الأميركية، وهذا لم يحدث سابقاً أصلاً، فإنّها ستردّ الاعتبار للديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة معيارا ضمن جدول الاهتمامات الأميركية، وسيتم تمزيق الشيك المفتوح للنظم العربية لتفعل ما تشاء، ما سيفعّل من أدوار المجتمع المدني العالمي والعربي، ويعيد قضايا حقوق الإنسان والحريات إلى منزلة الاهتمام الإعلامي والسياسي الدولي والإقليمي.