هل أكلت ثورات الربيع العربي أبناءها؟.. قراءة في العشرية الأولى
تطرح هذه المقالة أسئلة أكثر مما تجيب على تساؤلات، ذلك أن الربيع العربي في عشريته الأولى مازال محط دراسة وقراءة من قبل الباحثين والسياسيين. ولم تكتمل هيئة العالم العربي الذي مازال يعيش إرهاصات تلك اللحظة الثورية الصاخبة، كما لم ينطفئ الجمر تحت الرماد.
والسؤال المركزي؛ هل أصابت “لعنة القطة” الثورات العربية فأكلت أبناءها؟، وماذا بقي من الربيع العربي بعد عقد على إحراق البوعزيزي لنفسه بعود ثقاب أشعل خلاله العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه؟ !
مقدمة:
كان الربيع العربي لحظة مؤسسية ومؤسسة لتاريخ عربي جديد، انطلقت شرارته الأولى في تونس قبل عقد (2010)؛ سواء بالحدث أو الأسباب أو الشعارات أو النتائج، التي بدت غير مكتملة أو منقوصة.
فالثورة التونسية في تلك المرحلة، كانت ظاهرة عربية غير مسبوقة، بل لم تكن متوقعة قبل ساعات من حدوثها، حتى أن البوعزيزي نفسه، بائع عربة الخضار، لم يكن يدرك تداعياتها وتطوراتها ومآلاتها، ومات دون أن يعرف ما فعل بالعالم العربي!.
ففي الموجة الأولى من الربيع العربي،آلت الدولة البوليسية التي شيّدها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي طوال 23 عاما إلى السقوط،وفي غضون 29 يوما، كما أنهت حكم الرئيس المصري حسني مبارك الذي قارب حكمه 30 عام، في 18 يوما، ورغم استمرار الثورة الشعبية في ليبيا لمدة تزيد عن 6 أشهر إلا أنها قوضت في النهاية حكم الرئيس معمر القذافي الذي ناهز 42 عاما، كما أسقطت الثورة اليمنية، فيما يقارب العام، حكم الرئيس علي عبدالله صالح الذي استمر 34عاما، فيما استعصت الثورة في سورية عن تحقيق أي من أهدافها.
وفي الموجة الثانية من الربيع العربي، التي كانت أكثر رشدا ولم تتعسكر، استقال الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، الذي قارب حكمه الـ 20 عاما، وذلك بعد 6 أسابيع من الاحتجاج الشعبي، كما أطاحت الثورة الشعبية في السودان، التي استمرت 4 أشهر بحكم الجنرال عمر حسن البشير الذي استمر لمدة تقارب 30 عاما، وقد طالت الموجة الثانية من الربيع العربي كلا من العراق ولبنان، حيث استقالت حكومة عادل عبدالمهدي بعد مظاهرات شعبية استمرت نحو شهرين، كما تقدم رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بعد نحو أسبوع من تظاهرات شعبية في لبنان، لكن طبيعة النظام الطائفي في البلدين تحول دون تحقيق نتائج شعبية حاسمة، في ظل التوازنات الطائفية الحساسة والتدخلات الإقليمية والدولية.
ولعل أبرز ما تميزت بهالثورة التونسية هو قوة التلقائية والمباغتة، كما يقول المفكر التونسي، الطاهر لبيب، أي حالة اللاانتظار، وهي حالة لاتترك متسعا لردة الفعل للخصم، أو التقاط الأنفاس، ولا وقتا للمتربصين للقيام بثورة مضادة، وليس في وارد الثوار أي خيارات للهدنة أو المهادنة أو الجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض والحلول الوسطى،خشية شبح الإجهاض.
كما أن تلك التلقائية لم تكن تملك الوقت لتنصيب قيادات أو أطر قيادية لثورة متدحرجة، فلم يكن الغضب مخططا ولا منظما ولا مدبرا، ولم يكن الغاضبون أو الثائرون يملكون ترف الوقت لإعادة قراءة الأدبيات الثورية أو الأبجديات، ولا استقراء التاريخ، وفي ذلك من السلبيات بقدر ما فيه من الإيجابيات.
وما يميز ثورات الربيع العربي أنها لم تكن ثورات جياع، فلم تكن من أجل الخبز، ولم يكن من مطالبها “دولة الخلافة” أو “دولة العمال والفلاحين”، كما يقول الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، بل كانت ضد الاستبداد والدكتاتورية، مطالبة بالحرية والكرامة، وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
لعنة القطة!!
لعنة القطة لم تستثن ثورات الربيع العربي، ولذلك يُقال أن “الثورات تأكل أبناءها، وأبناؤها؛ هم البشر والأفكار والشعارات”، بل يُقال أن “الثورة تأكل ذاتها”!!، فهل أكلت ثورات الربيع العربي أبناءها أو ذاتها؟!، ووفق الثائر العالمي تشي جيفارا فإن “الثورة يفجرها مغامر، ويخوض غمارها ثائر ، ويجني ثمارها جبان”.
وقد عرفت الثورة الفرنسية فترة رعب شهدت خلالها قطع آلاف الرؤوس، ثم انتهت بقطع رؤوس الثائرين اللدودين روببسبير ودانتون، والأخير هو صاحب المقولة الشهيرة:” الثورة تأكل أبناءها”.
ولذلك، بعد عقد من إنطلاق شرارة الربيع العربي، هاجرت عائلة البوعزيزي من تونس إلى كندا، إثر تلقيها تهديدات بالقتل، وعاد سكان سيدي بوزيد إلى فقرهم قبل الثورة، فيما الديموقراطية في تونس ماتزال هشة، والتجربة المصرية تحت المجهر، وأصبحت ليبيا (اللا دولة في زمن القذافي) دولة ممزقة ومنقسمة على نفسها، بعده، بين حكومة معترف بها وأخرى موازية، وفي اليمن سيطر الحوثيون على الدولة، وأصبح هناك أكثر من لاعب في الساحة اليمنية فيما احتفظ الرئيس بشار الأسد بموقعه في سوريا، وتحولت الثورة إلى حرب أهلية، والتجربة السودانية بقبضة العسكر، والجزائر من رئيس مريض إلى آخر مريض أيضا، ولم يتخلص العراق من نظامه الطائفي المستحدث، ولم يتبرأ لبنان من عقدة الطوائف، ورئيس الحكومة سعد الحريري الذي جرى إسقاط حكومته بتظاهرات شعبية يعود من جديد بسبب الحسابات الطائفية.
وفي خضم الربيع العربي أطلت دولة داعش الدموية في المشرق العربي،وسيطرت على مساحات جغرافية واسعة من العراق وسورية قاربت مساحة بريطانيا، ولكنها سرعان ما انهارت، بعدما أثارت الرعب في العالم.
دروس الربيع العربي:
من أبلغ الدروس المستفادة من ثورات الربيع العربي هو “الممكن”؛ حيث كان التفكير بهذا النمط من الثورات قبل ثورة الياسمين التونسية مستحيلا، بل ضربا من الجنون والخيال، وهو ما يجعل اللامتوقع ممكنا في يوم ما، الأمر الذي أدى إلى كسر حاجز الخوف.
كما أن من بين الدروس المستفادة من تلك الثورات هو أنه رغم أن الدكتاتوريات أنظمة بالغة القسوة إلا أنها بالغة الهشاشة، ولعل أبلغ الدروس المستفادة من تلك الثورات أن كثيرا من ثورات العالم العربي لم تكن ناجزة، بمعنى أنها كانت نصف ثورة، ما سمح للأنظمة المتهاوية بالعودة مجددا عبر صناعة ثورة مضادة، وبمساعدة الدولة العميقة (وفلول النظام السابق)، التي كانت بمثابة الثقب الأسود لثورات الربيع العربي، عملت على تعطيل سيرورتها وخطف ثمارها، مايجعل نصف الثورة مطابقا للهزيمة الكاملة، فالذين يفقدون السلطة لايتبخرون في الهواء ولايذوبون كالسكر في الماء، ناهيك عن البعد الإقليمي والدولي الذي تمالك نفسه بعد ثورة تونس، وقام بأدوار متعددة في سيرورة الثورات اللاحقة، بل وتحويل مسارها ومآلها.
ومن بين الدروس، أن الأصعب من يوم الثورة هو اليوم التالي ليوم الثورة، فالقاعدة الفيزيائية تقول أن “الطبيعة لاتقبل الفراغ”، وهو ما كان يقتضي ضرورة إنشاء منظومة العدالة الانتقالية سريعا، كي لايتم اغتيال الثورة الغضة أو إجهاضها في المهد، سيما أن القوى المجتمعية لم تكن تملك الجهوزية لليوم التالي لإدارة الدولة وقيادة دفة الحكم، حيث انتقلت تلك القوى فجأة من التهميش إلى سدة الحكم، وهي لم تكن “نقلة” بقدر ماهي”صدمة”، لاتقل مباغتة عن لحظة إحراق البوعزيزي لنفسه. النتيجة أن عملية إسقاط نظام أسهل كثيرا أو نسبيا من عملية بناء نظام جديد. وقد قال القيادي المصري المعارض الدكتور محمد البرادعي:” كنا أشبه بمن هو في حضانة أطفال عليه الانتقال منها مباشرة إلى الجامعة”.
بكل الأحوال، في البدء والمنتهى، الثورة التونسية مميزة باعتبارها الأولى، وبنتائجها شبه الناجزة، ومع ذلك أثبتت الثورات في العالم العربي أن الشعوب العربية أمة واحدة وهو ما يجعل “نظرية الدومينو” فاعلة فيها.
خاتمة:
حتى العقد الأول من الألفية الثانية بدا العالم العربي عصيّا على الديموقراطية والإصلاح بشكله العميق والجوهري، وذلك رغم موجة الديموقراطية التي ضربت جنوب أوروبا في السبعينات، وأمريكا اللاتينية في الثمانينات، ولاحقا في أوروبا الوسطى والشرقية، وكذلك أفريقيا في التسعينات، وقارة آسيا حتى بداية الألفية الجديدة، لكن الاستعصاء العربي تبدد بتونس عام 2010، بل تم كسر مقولة “الاستثناء العربي”، التي ترى أن العالم العربي غير قابل للديموقراطية وأن الإنسان العربي عصي على الديموقراطية وحقوق الإنسان..
ورغم ما أصاب الربيع العربي من إعاقة وتدخل وتدجين، إلا أن موجاته لم تتوقف، ونتائجه لن يتم حصدها بعقد أو عقدين، فأعمار الثورات أطول بكثير من أعمار الثوار، فالثورة الفرنسية، على سبيل المثال،لم تتحق أهدافها إلا بعد 9 عقود من انطلاقتها، والأمر ليس استثناء بل قاعدة مع تباين في فترة المدّ وعودة الجزر، والعشريات المقبلة للربيع العريي حبلى بالتحولات والتغيرات.