المرجعيات الدينية للسياسة الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر

في محاضرة قيمة ألقاها الدكتور فوزي بدوي، المتخصص فيما يعرف ب “الاستهواد” -أو الدراسات اليهودية- تسلط الضوء على موضوع بالغ الأهمية يتعلق بالمرجعيات الدينية للسياسة الإسرائيلية في أعقاب الأحداث التي شهدها “السابع من أكتوبر”. ولابد هنا من الإشارة إلى الدور الرائد الذي يقوم به معهد السياسة والمجتمع، الذي تأسس حديثًا ولكنه أثبت وجوده كمؤسسة بحثية تقدم رؤى استراتيجية، ويطمح للوصول إلى مرتبة “ثينك تانك  “Think Tankبالمعنى الأكاديمي العميق. كذلك، لا يمكن إغفال الإسهام الذي يقدمه منتدى الحموري الثقافي، الذي يمثل منصة مميزة للحوار الفكري في الأردن، مكملًا بذلك الدور الذي ينهض به منتدى شومان في تعزيز الحراك الثقافي. هذا التعاون بين معهد السياسة والمجتمع ومنتدى الحموري الثقافي أثمر عن تنظيم محاضرة تناولت المرجعيات الدينية في السياسة الإسرائيلية. وقد جاءت المحاضرة بمثابة فرصة للتفاعل مع رؤية الدكتور بدوي، الذي قدم طرحًا متعمقًا يتطلب مقاربة أكثر شمولية تتجاوز حدود هذا المقال.

إشكاليات الدراسات الأكاديمية حول إسرائيل

قبل استعراض أطروحات الدكتور بدوي، أجد من الضروري الإشارة إلى ما تناولته في كتابي المنشور في لندن عام 2009، الذي كان محاولة لتقييم الدراسات الأكاديمية العربية حول إسرائيل. وقد لاحظت في تلك الدراسات غيابًا واضحًا للعمق المعرفي، حيث سيطرت فرضيتان رئيسيتان على المشهد الفكري العربي في العقود الثلاثة الأولى من قيام دولة إسرائيل:

  1. إسرائيل كامتداد للإمبريالية الغربية: ساد اعتقاد بأن فهم التوجهات الاستعمارية يكفي لفهم إسرائيل دون الحاجة إلى دراستها من الداخل.
  2. إسرائيل كيان زائل: استندت هذه الفرضية إلى يقين بزوال إسرائيل حتمًا، ما أدى إلى تجاهل الحاجة لفهمها بنيويًا.

هيمنة هاتين الفرضيتين أدت إلى فجوة معرفية عميقة انعكست سلبًا على القدرة العربية في المواجهات العسكرية، حيث أهمل العرب دراسة عنصر القوة المعرفية لإسرائيل. على سبيل المثال، لم يصدر أي كتاب أكاديمي باللغة العربية عن إسرائيل بين عامي 1948 و1967، وهو مؤشر على ضعف التعامل العلمي مع هذا الملف. لكن مع تطور الكتابات الأكاديمية لاحقًا، اختلطت الأدوار بين الكتابة كوسيلة نضالية تستهدف فضح إسرائيل، والكتابة كأداة علمية تهدف إلى الفهم والتحليل. هذا الخلط جعل من إسرائيل موضوعًا مستعصيًا على المعالجة العلمية بسبب تشابك السياسي والأيديولوجي. فلا يمكن لمجرد أن إسرائيل كيان استيطاني إحلالي أن تكون خارج نطاق البحث الأكاديمي.

المرجعيات الدينية بين التنوير والصهيونية

أشار الدكتور بدوي في محاضرته إلى دور حركة التنوير اليهودية (الهسكلاه) في تشكيل الفكر اليهودي الحديث. كان موشيه مندلسون أحد أبرز رواد هذه الحركة، ودعا إلى اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية. إلا أن الرد اليهودي على التنوير تبلور في أربع مدارس فكرية، كان أبرزها المدرسة التي تبناها ثيودور هيرتزل، والتي واجهت رفضًا من اليهود المتدينين.

على الرغم من أن الصهيونية تُصور غالبًا كحركة ذات جذور دينية، فإن نشأتها الفكرية والسياسية تكشف عن مفارقة لافتة: لم تكن الصهيونية، في جوهرها، حلاً دينيًّا، بل حركة حديثة تهدف إلى حل ما عُرف بـ “المسألة اليهودية” في أوروبا. هذه الحركة تبناها صحفي ومثقف يهودي مندمج في المجتمع الأوروبي، هو ثيودور هيرتزل، الذي كان في البداية مؤمنًا بفكرة الاندماج الكامل لليهود في الدول الأوروبية. إلا أن تجربة تغطيته لمحاكمة الضابط الفرنسي ألفريد درايفوس، والتي كشفت عن عمق معاداة السامية في المجتمعات الأوروبية -حتى في أكثرها تقدمًا- دفعته إلى إعادة التفكير جذريًّا. عندها فكر هيرتزل بفكرة الاندماج وطرح بدلاً منها رؤية الصهيونية كحل قومي لليهود، معتبرًا أن إقامة دولة يهودية هي السبيل الوحيد لضمان كرامتهم وحمايتهم. وهكذا، جاءت الصهيونية كرد فعل على الفشل الأوروبي في دمج اليهود، لا كامتداد للتراث الديني، مما يعكس مفارقة تأسيسية في طبيعتها العلمانية القومية. لذلك كتب عن دولة لليهود وليس دولة يهودية وثمة فرق كبير بين التعبيرين.

تجدر الإشارة هنا إلى دور الحاخام أبراهام كوك، الذي اعتبر الصهيونية أداة إلهية تمهد لظهور المسيح المنتظر. هذه الرؤية أسست لمدرسة “مركاز هراف”، التي خرجت لاحقًا تيارات دينية متطرفة مثل “غوش إيمونيم”، والتي لعبت دورًا مركزيًا في تعزيز الاستيطان بعد نكسة 1967.

التزاوج بين الدين والصهيونية في السياق الإسرائيلي لم يكن جزءًا من نسيجها التأسيسي، بل تأخر ظهوره كظاهرة محورية حتى ما بعد حرب النكسة عام 1967. في بداياتها، كانت الصهيونية حركة ذات طابع علماني، مستندة إلى أفكار التحرر الوطني الأوروبي أكثر من اعتمادها على الموروث الديني. إلا أن هذا المشهد تغير جذريًا مع صعود التيار الديني الوطني وحركات مثل “غوش إيمونيم”، التي أعادت صياغة المشروع الصهيوني بمنظور ديني. فقد اعتبرت هذه الحركات الاستيطان في الأراضي المحتلة ليس مجرد هدف سياسي، بل واجبًا دينيًا يتماهى مع رؤيتها اللاهوتية لعصر الخلاص وتحقيق الوعد الإلهي. وهكذا، أصبحت الصهيونية الدينية إطارًا يمزج بين الغايات السياسية والقومية وبين الطموحات الروحية، مما جعل الاستيطان أولوية مطلقة تمثل بالنسبة لهم الامتداد الطبيعي للعقيدة. هذا التحول يُبرز العلاقة المتأخرة ولكن العميقة بين الدين والصهيونية، حيث بات الدين أداة للتأطير السياسي والاستقطاب الاجتماعي في خدمة مشروع قومي توسعي.

ختامًا

أود القول، إن الاستماع لمحاضرة الدكتور بدوي تكشف عن الحاجة الملحة لتطوير دراسات عربية متعمقة حول إسرائيل، بعيدًا عن خطاب التبرير أو الإدانة، وصولًا إلى فهم علمي شامل. من الضروري أن تستثمر الدول العربية في إنشاء مراكز بحثية متخصصة قادرة على إعداد جيل جديد من الباحثين يمتلكون الأدوات المنهجية اللازمة للتعامل مع هذا الملف الشائك.

زر الذهاب إلى الأعلى