هل لدينا القدرة على تعلّم الدروس؟

نُشرت هذه المادة، في العدد الثالث من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع JPS.
يصدر هذا العدد من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع، بالتزامن مع سكون المعركة بين إسرائيل وإيران، في لحظات ارتجفت فيها المنطقة تحت وطأة توتر لم تعرف مثله في العقود الأخيرة، وربما ما تزال قابلة للاشتعال مرة أخرى، في أي لحظة. تلك التحولات الديناميكية التي يعيشها الشرق الأوسط تضعه دائمًا أمام سيناريوهات غامضة وأسئلة جديدة ومعقدة، ولعل ذلك التعقيد ينبع أيضًا من الموقف العربي الضعيف والذي رغم محاولات لملمته وترصيصه وتطويره، لم يظهر حتى الآن كطرف استراتيجي قادر على تغيير المعادلات وإعادةة تشكيل التوازنات الإقليمية
منذ “السابع من أكتوبر” (2023) ونحن على مفترق طرق حقيقي في المنطقة؛ قوى تهيمن وقلاع تهدم أسوارها وأنظمة تدخل مرحلة التأسيس، ودول ما تزال ومنذ عقود في مرحلة التشييد تعيد البحث عن ذاتها. لكن المعادلة الواضحة من كل ما سبق هي؛ أن القديم مات، والجديد لم يولد بعد، كما يقول انتونيو غرامتشي، فما تزال هنالك تطورات قادمة وخطط وتصورات أميركية وإسرائيلية وتركية وإيرانية، وربما صينية وروسية، لكن أين هي الخطط والتصورات العربية بما يحقق المصالح الحيوية للعرب أهل هذه المنطقة وشعوبها ودولها؟!
لقد جاءت المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع لتحاول بناء تصورات واقتراحات ومداخل تحليلية لصانع القرار الأردني، والعربي، والنخب السياسية؛ بخاصة في هذا السياق الدرامي من تطورات المنطقة وتحولات السياسة، على الصعيد الخارجي والداخلي، وهذا ما عكفت وتعكف المجلة عليه بداية من العدد الأول الذي تناول التداعيات الإقليمية للحرب على غزة والتي ما تزال مستمرة، والأمن القومي الأردني في سياق التحولات الإقليمية في العدد الثاني، واليوم في العدد الثالث والذي يركز بطبيعة الحال على الملف السوري وأسئلته الشائكة والمتشابكة.
حَدَثٌ بحجم الثامن من ديسمبر 2024، والذي تمثل بإسقاط نظام الأسد الذي فاق عمره 5 عقود، كان كفيلًا بصياغة مشهد جديد على مختلف الأصعدة، تداعياتها بطبيعة الحال لا تنحصر في سوريا، بل تمتد إلى إقليميّة وعربيّة ولربما دوليّة أيضًا على الأقل من خلال الدروس التي أظهرتها تجربة سوريا ما قبل “الثورة” وأثنائها وما بعدها والذي تمثل بسقوط بشار الأسد.
قد تكون سوريا دخلت في عصر جديد ومختلف بالفعل وعلى صعيد إيجابي وربما – وهذا ما لا ننتمناه- العكس من ذلك، فالاختبار رهنٌ بعبور المرحلة الانتقالية الصعبة بحكمة وبروح وطنية جامعة، وهو ما ستظهره تطورات المشهد هناك، التي ستنعكس، بالضرورة، على باقي أجزاء المنطقة، فالسياسات الإقليمية في العالم مترابطة، لكنّها في منطقتنا هنا أشد ترابطاً وتفاعلاً من العديد من مناطق العالم الأخرى.
من المؤكد أنّ هنالك كمّاً كبيراً من التحديات ومصادر التهديد التي تمرّ بها الدول العربية اليوم، وأنّ ما سمي بالربيع العربي قبل قرابة عقدٍ ونصف من الزمن لم يكن سحابة صيف عابرة أو لحظة تراجيدية في تاريخ المنطقة، بل كان بداية مرحلة تاريخية جديدة من عدم الاستقرار والتوتر ودفع ثمن كبير لعقود من الحكم لم تأخذ قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية بعين الاعتبار، لذلك حدثت فجوة كبيرة بين الحكومات والمجتمعات، تلك الفجوة التي تحوّلت إلى ثقب أسود يبتلع جيل الشباب تحت وطأة مشكلات البطالة والتطرف واللا يقين تجاه مستقبلهم، مما أنتج لنا تلك الهويات الطائفية والعرقية وصعّد الأفكار المتطرفة التي باتت تستهوي آلاف الشباب بدلاً من أن يشعروا بأنّ دورهم الحقيقي في بناء دولهم ومجتمعاتهم والمساهمة في صناعة مستقبلهم!
لكن السؤال المهم اليوم هل تعلّمت الحكومات والنخب السياسية العربية من هذه المرحلة من “التيه العربي”؟! وما هي الدروس المستفادة؟! يرى عالم السياسة الأميركي، كارل دويتش أنّ الأنظمة الفاعلة القوية هي تلك التي تكون لديها قدرة وسرعة على التعلّم والتطوير بناء على ذلك، فهل هنالك مراجعات تتم فعلاً في أوساط مراكز البحث والتفكير والنخب السياسية العربية لتطوير السياسات بما يؤدي إلى تحسين حياة المواطنين وإدماجهم وإنقاذ أجيال من الشباب، ممن تطلق عليهم تقارير البنك الدولي “جيل الانتظار” (نظراً لارتفاع معدلات البطالة في كثير من الدول العربية!)؟ هل وصلنا إلى قناعة بأنّ الاستقرار السياسي لا يبنى إلاّ من خلال بيئة صحية تسود فيها الحرية ويشعر المواطنون بالانتماء الحقيقي وبأنّهم يشاركون في صياغة حياتهم، وأنّ منهج القمع والاستبداد وقمع الحريات لن يؤدي إلاّ إلى مزيد من الأزمات والمشكلات.
لقد أظهرت الحرب الإيرانية- الإسرائيلية أنّ العالم يتغيّر من حولنا سريعاً، حتى في نمط الحروب وطبيعتها، حروب الجيل الخامس الهجينة، التي تدمج ما بين الذكاء الاصطناعي ووسائل الدعاية والتلاعب بعقول الناس والجماهير، وهو ما يستدعي العمل الجاد على تعزيز الجبهة الداخلية حتى لا تصبح مجالاً خصباً للاختراقات الأمنية وللجواسيس، وكي تكون درعاً من دروع حماية الوطن ومصدراً من مصادر قوته لا العكس!
تشارك في هذا العدد نخبة من الباحثين والخبراء، إلى تقديم إضاءات مهمة لصانع القرار، تستدعي منه الاطلاع المعمق والمستمر على تلك القراءات، ويراعي فيها أهمية البحث العلمي والاستثمار الحقيقي بمجتمع الباحثين والخبراء، ومن الجدير بالذكر والتمعن فيه أنه ليس جزافًا أن تقوم إسرائيل باغتيال العلماء والباحثين في نفس العملية التي استهدفت كبار القيادات العسكرية في إيران، وليس جزافًا ايضًا أن يركز الرد الإيراني على استهداف معهد وايزمان للبحوث والذي يمثل أهم مؤسسة علمية بحثية بالنسبة لإسرائيل، ولربما أن ذلك يشير إلى إدراك متبادل من الطرفين إلى حجم وأهمية الاستثمار بالمورد البشري في البحث العلمي الذي يعد عصب الدولة وسر قوتها.
ختامًا، تحمل المرحلة القادمة في طياتها الكثير من السيناريوهات بقدر أهمية استشرافها فهنالك أهمية أكبر للبحث المعمق لقراءة العواقب والتداعيات لكل سيناريو، في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة من تفكك للمحاور وغطرسة إسرائيلية متزايدة سواء في المنطقة او في القدس والضفة الغربية بالتزامن مع استمرار الحرب على غزة والتي بلا شك لها تداعياتها على الأردن الذي يقع في قلب المشهد، ما يستدعي ضرورة وضع الخطط والخيارات دون انتظار حدوث ما سيحدث؛ فالجديد لم يولد بعد …