في مؤشر خطير على تصاعد التدخل الإسرائيلي في إدارة المواقع الدينية في الضفة الغربية، أقدمت الإدارة المدنية الإسرائيلية على نقل السلطة الإدارية للمسجد الإبراهيمي في الخليل إلى المجلس الديني التابع لمستوطنة كريات أربع، وهو ما يعكس توجهًا متسارعًا لإعادة تشكيل الوضع القائم في الحرم على نحو يُعزز السيطرة الاستيطانية ويُقصي الدور الفلسطيني الرسمي في إدارة الموقع.
ضمن هذه المساعي تدعي السلطات الإسرائيلية أن هذه الإجراءات تهدف الى العمل على إجراء تحسينات في الموقع تشمل، بناء سقف فوق “ساحة يعقوب” التي تُقام بها الصلوات اليهودية على مدار العام، هذا إلى جانب العمل على تركيب نظام متطور للحرائق، وتوفير مرافق صحية وخدماتية مثل دورات المياه والمظلات وأجهزة التكييف، غير ان هذه الأعمال تُنفذ سابقًا بالتنسيق مع الجهات الفلسطينية التي أشرفت على إدارة الموقع.
يمثل هذا الاجراء التحول الأكثر جذرية في إدارة الحرم الإبراهيمي منذ توصيات لجنة شامغار عام 1994 وهي لجنة رسمية شكلتها الحكومة الإسرائيلية للتحقيق في مجزرة المسجد الإبراهيمي التي ارتكبها باروخ غولدشتاين أثناء صلاة الفجر. في أعقاب ذلك أوصت هذه اللجنة بتقسيم المسجد زمانيًا ومكانيًا بين المسلمين واليهود إلى جانب تخصيص جزء من المسجد لصلاة اليهود، حيث تم تحويل 63% من المسجد إلى كنيس يهودي، إلى جانب وضع ترتيبات إدارية وأمنية تهدف إلى تقليل الاحتكاك بين المسلمين واليهود، وهو ما كرّس لاحقًا لوجود إسرائيلي في المكان.
علماً بأن البلدة القديمة في الخليل، بما فيها الحرم الإبراهيمي، أدرجت رسميًا في قائمة التراث العالمي عام 2017، وصُنفت مباشرة ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، بحسب تصنيف منظمة الأمم المتحدة “اليونسكو”.
هذا النموذج المفروض في الخليل لم يظل محصورًا ضمن حدوده الجغرافية، بل شكّل سابقة مرجعية لما يمكن تطبيقه في مواقع دينية أخرى، وعلى رأسها المسجد الأقصى، الذي بات يشهد ملامح متزايدة من محاولات استنساخ التجربة ذاتها، سواء على المستوى الإداري أو الطقسي
حيث يشير هذا المسار في أنّ السياسات والإجراءات التهويدية المتسارعة في الحرم الإبراهيمي لا تنفصل عن مشروع أشمل تسعى إسرائيل لتطبيقه أيضًا على المسجد الأقصى. فالنموذج الذي فُرض في الخليل بعد عام 1994 -أي التقسيم الزماني والمكاني وتكثيف الطقوس اليهودية- تحوّل إلى نموذج يُعاد إنتاجه في الأقصى، من خلال تكثيف اقتحامات المستوطنين تحت حماية قوات الاحتلال، وفرض قيود على دخول الفلسطينيين، إلى جانب تنظيم صلوات وطقوس دينية يهودية جماعية في مناطق مثل باب الرحمة وساحات الأقصى، بالإضافة إلى محاولات متكررة لتقليص صلاحيات دائرة الأوقاف الإسلامية. وقد تجلّى هذا التوجه بوضوح مع السماح العلني من قبل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بتنظيم رقص وغناء داخل باحات المسجد، في سابقة تحمل دلالات رمزية بالغة.
وبالتالي هذا قد يشير إلى أنّ النموذج المفروض على الحرم الإبراهيمي لم يعد تجربة معزولة، بل تحوّل إلى خطة ممنهجة تسعى إسرائيل لتعميمها على المسجد الأقصى أيضًا.
تكمن خطورة هذا السيناريو في أنّ ما يشهده حاليًا المسجد الأقصى لم يعد يقتصر على اقتحامات محدودة أو انتهاكات فردية، بل يتحوّل تدريجيًا إلى مشروع منظم يُعيد إنتاج تجربة الحرم الإبراهيمي، مستفيدًا من حالة الانشغال الدولي والانقسام الفلسطيني، بهدف فرض واقع ديني وإداري جديد بشكل متدرج أو متسارع بحسب السياق. بالتالي، لم تعد تجربة الحرم الإبراهيمي حالة معزولة، بل تحوّلت إلى نموذج ممنهج يُستخدم كمرجعية لتبرير سياسات مشابهة في المسجد الأقصى.
يمكن القول إن ما يجري اليوم من عمليات تهويديه مستمرة ومتكررة ومتسارعة أيضًا تشكل انعكاسا لاستراتيجية إسرائيلية تقوم على إعادة تشكيل الهوية الدينية والتاريخية للمواقع المقدسة، في حين أن سياسة “التدرج البطيء” قد تكون استخدمت في سياقات أخرى لتغيير الوضع القائم تدريجيًا دون إثارة ردود فعل واسعة، إلا أن ما يجري اليوم في المسجد الإبراهيمي لا يتماشى مع هذا الأسلوب، فالتطورات الأخيرة تكشف عن تسارع في تنفيذ السياسة الإسرائيلية، حيث لا يتم فقط تقليص الوصول الفلسطيني أو التوسع في الاقتحامات والانتهاكات، بل تعدى ذلك لفرض واقع جديد بشكل أكثر صراحة من خلال إجراءات متلاحقة يتضح من خلالها الرغبة الإسرائيلية في تغيير معالم المسجد بشكل سريع ومستمر.
ولعل الأدق لوصف هذا النمط المتسارع هو “التغيير السريع المنهجي”، الذي يجمع بين التسارع الواضح في تنفيذ خطوات تهويديه كبيرة وبين الحفاظ على الطابع المدروس لهذه الخطوات ضمن إستراتيجية أشمل لإعادة تشكيل واقع ديني مختلف.
تتزامن هذه السياسات التهويدية المتسارعة في الحرم الإبراهيمي والمسجد الأقصى مع تحوّل خطير على المستوى السياسي، تمثّل في تصويت الكنيست الإسرائيلي بتاريخ 23 تموز/يوليو 2025 على قرار يدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن. وقد حظي القرار بدعم 71 عضوًا مقابل 13 معارضًا، في خطوة رمزية لكن لها دلالات واسعة، تعكس توجهًا واضحًا نحو شرعنة الضم الرسمي لما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورغم أن القرار غير ملزم قانونيًا، إلا أنه يشكّل أرضية تمهيدية لطرح مشاريع قوانين مستقبلية تُكرّس الضم الفعلي، خاصة مع وجود تيارات يمينية متطرفة في الحكومة ترى في هذا المسار استكمالًا لمشروع “أرض إسرائيل الكبرى”. وفي هذا السياق، لا تبدو إجراءات تهويد الحرم الإبراهيمي والأقصى معزولة، بل تأتي كجزء من إعادة رسم الخريطة الدينية والسياسية في الضفة الغربية، حيث يُستخدم البُعد الديني في ترسيخ وقائع جغرافية وإدارية جديدة، تُفضي في النهاية إلى تكريس السيادة الإسرائيلية الكاملة على الأرض والمقدسات.
ختامًا، لا تكمن خطورة السياسات الإسرائيلية الأخيرة في الحرم الإبراهيمي على كونها خطوات ميدانية لتغيير الإدارة أو توسعات عمرانية، بل تكمن في جوهرها باعتبارها أداة لإعادة صياغة الذاكرة الجمعية والهوية التاريخية للمكان. فمن خلال تكثيف الوجود اليهودي الرسمي، وفرض تقسيم زماني ومكاني، ثم نقل السلطة الإدارية بشكل كامل إلى المجالس الدينية الاستيطانية، تسعى إسرائيل إلى ترسيخ رواية دينية وتاريخية أحادية تُهمّش الرواية الفلسطينية والإسلامية.
لا تقتصر هذه الرواية على فرض سردية توراتية تتعامل مع الحرم كموقع تراث يهودي، بل تُسعى لشرعنتها عبر أدوات متعددة، مثل؛ استخدام المصطلحات العبرية في الخطاب الرسمي، تغييب الرموز الإسلامية، تقليص الحضور العربي، والترويج دوليًا لصيغة “التراث المشترك” التي تُفرغ المكان من خصوصيته الدينية والتاريخية الإسلامية.
هذه الإجراءات لا تنفصل عن مشروع استعماري أشمل يعمل على إعادة تعريف المكان في الوعي العام، ليصبح موقعًا يهوديًا أولًا، بدلًا من كونه مسجدًا إسلاميًا عربيًا، فهذه التطورات لا يمكن قراءتها بمعزل عن المشروع الاستعماري الأشمل الذي تسعى إسرائيل إلى تكريسه، والذي لا يقتصر على السيطرة الجغرافية، بل يمتد إلى السيطرة الرمزية والتاريخية، عبر إعادة تعريف معاني الأماكن وهويتها في الوعي المحلي والدولي.