مناقشة النهج الاستراتيجي الأردني: بين توثيق الأمن وتبني المرونة
نُشرت هذه المادة، في العدد الثاني من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع JPS.
من الناحية التاريخية، لطالما كانت «الاستراتيجية» حقيقة واقعة، حتى لو لم تكن مفهومًا واضحًا. باتريك هيوسير
يتزايد النقاش بين عدد من باحثي الدراسات الأمنية والنخب السياسية في الأردن حول الحاجة الملحة لوضع وثيقة استراتيجية وطنية شاملة، حيث تهدف هذه الوثيقة بحسب التصورات إلى تعريف وبلورة مفهوم الأمن الوطني الأردني بشكل متكامل، وتحديد التهديدات والتحديات التي تواجه المملكة، بالإضافة إلى تصنيف الأولويات الوطنية وترتيبها وفقًا لمستوى أهميتها على سلم التهديدات والأولويات. كما يُفترض أن توضح الوثيقة الآليات والإجراءات الدفاعية المناسبة لمعالجة هذه التحديات من خلال توظيف موارد الدولة المتاحة. ويفترض الداعون لصياغة وثيقة استراتيجية مكتوبة؛ أن تصدر مثل هذه الوثيقة بشكل دوري، أي في كل فترة من الزمن ربما سنتين أو أكثر، وأن يتم معالجة ما يَرد فيها عبر عملية تغذية راجعة لتقييم هذه الاستراتيجية المكتوبة.
على كلٍ؛ فقد تحظى هذه الدعوات بنوع من الجاذبية بين المفكرين والنخب السياسية الأردنية، حيث إنها تؤطر للأمن بصورة أوضح، وتتيح المجال لتتبع وتقييم الأوليات الأمنية للأردن، وتخدم أغراض البحث والتحليل السياسي. إلا أن هذا الطرح بطبيعة الحال يُعبر عن جوانب من وجهة نظر اختزالية لديناميكيات الأمن الأردن وسياساته الخارجية، وبالتالي؛ فإن غياب وثيقة استراتيجية للأمن الوطني بصورة مكتوبة؛ لا يعني بالضرورة غياب التخطيط الاستراتيجي في الدولة الأردنية، وإنما تظهر هذه الاستراتيجيات على شكل ممارسات عملية، وبعضها يظهر في الخطاب الرسمي على شكل ثوابت وطنية. بذلك؛ يُجيب التحليل التالي عن مسألة وجود وثيقة استراتيجية أردنية، ومدى ملائمتهما للواقع الأردني، وتبين ما هي السمات الرئيسية الديناميكية للاستراتيجية الأردنية في مجاليّ الأمن والسياسة الخارجية.
بين الوثيقة المكتوبة والاستراتيجية العملية.. ضرورة التمييز مفاهيمًا
ينبغي في البداية التأكيد على أن الأردن ومنذ نشأته لا يعالج مسائل الأمن أو يتحرك بسياسة خارجية بطريقة عشوائية؛ وإنما وفقًا لاستراتيجية وطنية تضبط وجهة كليهما، وعلى الرغم من عدم صياغة وثيقة مكتوبة للاستراتيجية الوطنية، إلا أن الممارسة العملية للاستراتيجيا تظهر في سياسة الأردن الخارجية والتخطيط الدفاعي، والتي جنبته في معظم تاريخ الدولة الممتد لأكثر من مئة عام العديد من تعقيدات الشرق الأوسط والبيئة المحيطة به في العصر الحديث، بدءًا من الحروب العربية – الإسرائيلية، والاستقطاب في العصر الناصري، وليس انتهاءً بالربيع العربي وصعود موجات الإرهاب والتطرف، وكذلك مرورًا بالأزمة الخليجية 2017-2021 مؤخرًا، وجملة التحولات ما بعد الحرب على الغزة 2023. وفي كل مما سبق من أمثلة ومراحل؛ مارس الأردن استراتيجية عملية تنم عن قدر كافِ من العقلانية في اتخاذ القرار؛ ويُعنى هنا بالعقلانية (Rational Actor Model)[1]: النموذج السياسي في صناعة القرار المبني على حسابات منطقية تُعنى بتحقيق الربح وتقليل أو تجنب الخسارة، وتعريف مركزية الربح أردنيًا في تحقيق المصالح الوطنية العليا، وفي مقدمتها الأمن الوطني بطبيعة الحال.
بهذا السياق، تظهر في تجارب الدول الأخرى صياغة وثائق استراتيجية لها، وفي عدة نماذج تتراوح ما بين الاستراتيجية المكتوبة والتي تنشر بشكل كامل ودوري، أو وثائق استراتيجية تُنشر بشكل جزئي، أو وثائق تبقى سرية ومحدودة الاطلاع. كما ينبغي التأكيد على شيوع نمط من تعريف الأمن بوثيقة استراتيجية تنشرها مؤسسات الدفاع في عدد كبير من الدول حول العالم، ومن ذلك الولايات المتحدة الأميركية[2] وغيرها، ويعتبر إصدار مثل هذه الوثيقة أمرًا متعارفًا عليه بيروقراطيًا، وله العديد من المبررات في الدول التي تعتمد على هذا النمط من التفاعل مع أمنها.
في الجانب الآخر، تنتهج بعض الدول نموذج النشر الجزئي لوثائقها الاستراتيجية، فمن الإصدارات المتعمد اخفاؤها مثلًا “الكتاب الأبيض” الفرنسي لسنتي 2008 و2012، حيث فُسر ذلك بسبب تطرقها للاعتماد على القوة العسكرية[3] كوسيلة استراتيجية. في حين توجد حالات لدول تقوم بصياغة وثيقة استراتيجية لأمنها الوطني وتعمل وفقها، ولكن دون نشرها -بل هي سرية ومحدودة الاطلاع- مثل “الكتاب الأحمر” الصادر عن مجلس الأمن القومي التركي[4]. وبالمجمل، نجد بأن هناك تباينًا بين دول العالم في صياغة هذا النوع من الوثائق الاستراتيجية الوطنية، ما بين النشر الكامل، أو النشر الجزئي، أو عدم النشر مطلقًا.
وفي هذا الصدد، يشير التتبع التاريخي لأن القلة من الاستراتيجيين عبر التاريخ قد أوضحوا كتابةً استراتيجياتهم على شكل وثيقة، واكتفوا بالممارسة الاستراتيجية العملية عبر التاريخ[5].
من هنا يمكن فهم الاستراتيجية الأردنية على أنها عملية وغير مكتوبة، فهي سلسلة ممارسات وليست وثيقة، حيث تضطلع بذلك مؤسسات صناعة القرار، وبشكل خاص ومحدد مجلس الأمن الوطني الذي تشكل في 2022، ويختص بشكل دقيق بالشؤون العليا المتعلقة بالأمن والدفاع والسياسة الخارجية، ففي حين يرأسه الملك؛ فهو يضم كل من رئيس الوزراء، وزير الدفاع -حقيبة تنتمي عرفًا لرئيس الوزراء-، وزير الخارجية، وزير الداخلية، قائد الجيش، مدير المخابرات العامة، مدير الأمن العام، وعضوين يعينهما الملك بإرادة ملكية وفقًا للدستور الأردني[6].
يُعقد هذا المجلس بدعوة من الملك أو من يفوضه، ويتخذ القرارات بأغلبية الأعضاء، وعلى كلٍ، تُبين طبيعة المجلس أن يشمل كافة الشخصيات الرئيسية في الدولة المعنية بالشؤون الأمنية والسياسات العليا للدولة، سواء على المستوى المحلي أو خارجيًا، كما أن تتبع الجلسات منذ تشكيل المجلس، يُظهر أن أولى جلساته عُقدت في أغسطس 2024، في حين تلت الجلسة الأخيرة سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وهو ما يعني مواكبة أبرز المستجدات والأحداث المؤثرة بالأردن.
بذلك يُثار التساؤل؛ هل يكفي وجود هذا المجلس عن اصدار وثيقة استراتيجية أردنية بشكل دوري؟ تتبلور الإجابة بالتطرق لما قبل هذا المجلس أي ما قبل سنة 2022؛ فكما تقدم أن الممارسة الاستراتيجية في الدولة الأردنية ذات تقاليد ثابتة، وتشمل التخطيط الاستراتيجي دون النشر العلني، وبالتالي لا يمكن اختزال الاستراتيجية الأردنية في هذا المجلس فحسب، وإنما بالممارسة العملية الممتدة جذورها لسنة 1921.
النقاش القائم للحالة الأردنية: بين الدعوات الجذابة وحقيقة الواقع العملي
يظهر النقاش بين النخب السياسية والفكرية والبحثية؛ حول ضرورة صياغة وثيقة للأمن الوطني الأردني، ففي حين يشير مؤيدي وجود مثل هذه الاستراتيجية إلى ضرورة تبني مثل هذا النمط من اصدار الوثائق الاستراتيجية، بحيث تجمع الأردن ومؤسساته ومجتمعه خلف أهداف عليا واضحة ومكتوبة تصب في تحقيق الأمن والمصالح العليا للدولة، وبذلك، تستند الدعوات للتصورات والاعتبارات التالية:
1- تحديد الرؤية والأهداف الوطنية: حيث توفر الوثيقة الاستراتيجية إطاراً واضحاً يُحدد الرؤية المستقبلية للأمن الوطني وأهدافه الرئيسية، مما يساعد على توجيه السياسات والموارد بشكل أكثر فاعلية لتحقيق هذه الأهداف.
2- الاستجابة للتحديات والتهديدات: في ضوء بيئة إقليمية ودولية متغيرة ومليئة بالتحديات الأمنية، تُعدّ الوثيقة الاستراتيجية أداة لتقييم المخاطر والتهديدات، مثل: التحولات الجيوسياسية، الجريمة المنظمة، الإرهاب والتطرف، والأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية. كما تساعد في وضع خطط استباقية فرعية تنسجم مع الاستراتيجية الكبرى للتعامل مع هذه التحديات.
3- التنسيق بين المؤسسات الوطنية: تعمل الوثيقة الاستراتيجية كإطار عمل موحّد ينسّق جهود مختلف الأجهزة الأمنية والمؤسسات الحكومية، مما يضمن انسجام العمل وتكامل الأدوار لتجنب الازدواجية والهدر في الموارد.
4- تعزيز الشرعية المؤسسية والشفافية: يساهم وجود وثيقة رسمية في تعزيز الشرعية المؤسسية، حيث يمكن للشعب الاطلاع على الأولويات الوطنية والخطط المطروحة، مما يعزز الثقة بين المواطنين والحكومة.
5- ضمان الاستدامة والاستمرارية: تُساهم الاستراتيجية المكتوبة في تأمين استدامة السياسات الأمنية بغض النظر عن تغيّر الحكومات أو المسؤولين أو الشخصيات الرئيسية، مما يحافظ على الاستقرار ويضمن استمرارية التوجهات الأمنية الاستراتيجية.
6- دعم اتخاذ القرار: توفر الوثيقة الاستراتيجية مرجعية واضحة عند صناعة القرار، مما يساعد في اتخاذ قرارات مبنية على دراسات وتحليلات معمّقة وتجنب الاستجابات غير المدروسة.
هذه الأسباب والتصورات بشكل رئيسي؛ تلخص حجج الدعوات المطالبة بصياغة ونشر وثيقة لاستراتيجية الأمن الوطني الأردني.
– قيود الواقع العملي والاستراتيجية الوطنية الأردنية
في المقابل، يُظهر الواقع العملي لممارسة السياسة الخارجية والأمن في الأردن وجود قيود أكبر على هوامش الحركة والمناورة، خاصة في ضوء نشر هكذا وثيقة، مع الآخذ بعين الاعتبار تعقيدات البيئة الإقليمية والدولية التي يتحرك بها الأردن، والتي تؤدي لوجود عقبات أمام الاستراتيجيات الكبرى للدول العظمى[7] حتى، فكيف هو الحال بالتخطيط الاستراتيجي للأردن؟
بشكل عام، ينتقد عدد من منظري الأمن الوثائق الاستراتيجية الصادرة عن الدول جميعها، لأنها تحتوي على أنماط إرشادية مبالغ فيها، وأن بعضها يتضمن أنماط من التعبير عن الخطاب السياسي وتفتقر للأصالة الفكرية الأمنية عمومًا[8]، وبشكل عام فإن الدول الأخرى التي تُصدر مثل هذه الوثائق الاستراتيجية بشكل دوري تتسم بعدد من الخصائص، أبرزها:
(1) تداول السلطة وقياس مدى تنفيذ كل حكومة للأهداف الاستراتيجية، بالإضافة لتوظيف الاستراتيجيات كدعاية انتخابية في بعض الدول، خاصة الولايات المتحدة الأميركية واصدارها على شكل عقيدة للرئيس المنتخب[9].
(2) إرسال رسائل تهديد استراتيجية للأطراف المذكورة في الوثائق[10]، خاصة عند الحديث عن دول أخرى يتم ذكرها في الوثائق الاستراتيجية كتهديد أو حتى كتحدٍ استراتيجي.
(3) وجود استراتيجية كبرى مع وجود مقدرات وطنية قابلة للاستمرار لفترات طويلة، حيث ترتبط الاستراتيجيات الكبرى بالدول الكبرى بطبيعة الحال، في حين يكثر الجدل بين المنظرين الاستراتيجيين حول وجود استراتيجية كبرى للدول الصغرى[11]، وبشكل خاص بسبب القيود الجيوسياسية وقلة الموارد.
(4) استقطاب الحلفاء والتماهي مع استراتيجيات جماعية عبر تحالفات أو ائتلافات واضحة، ومثال ذلك استراتيجية الأمن الوطني الأميركية (عقيدة بايدن 2022)[12]، والتي توضح بنوع من التفصيل خطط الإدارة الأمريكية لتعزيز المصالح الوطنية، مع التأكيد على أهمية التحالفات والشراكات في مواجهة التحديات العالمية.
(5) إعطاء المبررات لتمويل الإنفاق العسكري أو الدفاعي، ومثال ذلك؛ المراجعة الاستراتيجية للدفاع والأمن (SDSR) 2015 – للمملكة المتحدة[13]، والتي تحدد هذه المراجعة استراتيجية الدفاع في المملكة المتحدة وتبرر الإنفاق العسكري من خلال تقييم التهديدات وتفاصيل القدرات المطلوبة. ويؤكد على الاستثمارات في المعدات والدعم، التي تصل إلى 178 مليار جنيه إسترليني حتى عام 2025 بهدف الحفاظ على الأمن القومي.
في هذا السياق، يشير التتبع العملي لأن الحالة الأردنية لا تتسم بأي مما سبق من خصائص، فليس الأردن دولة كبرى ذات استراتيجية طويلة الأمد (Grand Strategy)[14]، وإنما دولة صغرى في إقليم مضطرب وبمقدرات محدودة. وعن السلطة؛ فهي مركزية في السياسات العليا للدولة، والحكومات عادة لا تلعب دورًا كبيرًا في صناعة القرارات الاستراتيجية. وأما عن رسائل التهديد؛ فإن وجود مثل هذه الاستراتيجية يثير مسائل من قبيل القدرة على تنفيذ التهديدات، وأبرز مثال على ذلك تصريح رئيس الحكومة السابق بشر الخصاونة؛ أن “اعتبار تهجير الفلسطينيين إعلان حرب ضد الأردن”[15] مشيرًا للحرب الإسرائيلية على غزة عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023. وعن الحلفاء والسياسات الجماعية؛ فإن الأردن إلى حد كبير يفتقر للعمق العربي الكافي الذي يمكنه من تبني استراتيجيات تكاملية مع الحلفاء، خاصة مع تبدل أولويات هؤلاء الحلفاء، وتبدل المشهد الإقليمي باستمرار. وأخيرًا، فإن الإنفاق الدفاعي الأردني ومؤشر العسكرة يشيران لدرجة التوتر والاضطراب الإقليمي المحيط بالأردن، والذي تعالجه عمَّان بتعزيز القدرات الذاتية وفقًا لاستراتيجية (الاعتماد على الذات)[16] دفاعيًا، وسياسيًا عبر التفاهم الدبلوماسي الإيجابي والانفتاح على الأطراف. وأخيرًا، عبر الإدارة الفاعلة للموقع الجيوسياسي للأردن.
ولنقاش الحالة الأردنية بنوع من التفصيل، تظهر أبرز السمات للاستراتيجية الأردنية، وعلى النحو التالي:
- الاستراتيجية قصيرة الأمد: بطبيعة الحال لدولة صغيرة[17] كالأردن، فإن صياغة استراتيجية كبرى طويلة الأمد يعتبر أمرًا بالغ التعقيد والصعوبة، ويمكن الحكم عليه بأنه متعذر، عوضًا عن ذلك؛ فإن الأردن ينتهج استراتيجية ذكية تجمع ما بين الإدارة الصحيحة للموقع الجيوسياسي، مع دبلوماسية فاعلة ومرنة، بالإضافة لقوة ناعمة ترسم بنهاية المطاف تصور عن نمط دولة تتسم بالعقلانية والرشادة السياسية، مع صياغة استراتيجيات دفاعية لتأمين الحدود الأردنية.
في هذا الصدد، يمكن تسليط الضوء على أن الأردن ينتهج نمط استراتيجي يمكن وصفه باستراتيجية “الحدث-بحدث”، وتعني باختصار صياغة التموضع والدور والموقف بشكل منفصل لكل حدث بصورة مستقلة عن الآخر، وفصل الملفات الاستراتيجية سواء في السياسة الخارجية أو في القضايا الأمنية، ويمكن تسليط الضوء على توظيف استراتيجية هجينة للتصدي لشبكات تهريب المخدرات في سوريا -كما سلطت دراسة لكاتب هذه المادة منشورة حديثًا في معهد السياسة والمجتمع[18]– على توظيف الخيارات الدبلوماسية بموازاة المقارابات الأمنية للأردن للتصدي لتهديد رئيسي شكَّل تحديات كبيرة للأردن منذ سنة 2020.
- المرونة الاستراتيجية: والتعبير عنها بالتحركات الرشيقة؛ بهذا السياق يشير التتبع للمناورات الخارجية التي يجريها الأردن فيما يوصف بالمنطقة الرمادية في الشرق الأوسط، ويتجلى هذا المثال في المرحلة التي تلت طرح “صفقة ترامب للسلام” في الفترة 2018-2019[19]. عوضًا عن ذلك، يسمي الأردن أولوياته الوطنية على شكل ثوابت[20] في قضايا محددة وواضحة، والمثال الأبرز هو الموقف الأردني من القضية الفلسطينية، والذي يلتزم به الأردن كمصلحة وطنية عليا، من خلال التأكيد على قيام دولة فلسطينية على حدود حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. هذه الثوابت تظهر بالممارسة العملية وفي الخطاب السياسي، ولكن دون صياغة وثيقة تجسدها.
- غياب التحالفات الخارجية والعمق الاستراتيجي: عند الحديث عن مفهوم الأمن الجماعي والتحالفات الدولية، فإن الأردن على الرغم من كونه يتمتع بعلاقات استراتيجية وطيدة مع الأطراف الرئيسية في الشرق الأوسط وفي السياسة الدولية ككل، إلا أن أي من هذه العلاقات لا ترقى لإدراجها ضمن مفهوم التحالفات، أو الائتلافات. فباستثناء تحالفات جزئية ومؤقتة كالتحالف الدولي للتصدي لـ”داعش”[21]، أو ضمن عمليات كعاصفة الحزم[22]؛ فإن النمط العام لتعاون الأردن الدولي هو على شكل شراكات قوية لا تحالفات. قد يُعزى السبب في ذلك لتباين الأولويات الأردنية عن باقي الأطراف، فمثلًا فيما يتعلق بمركزية القضية الفلسطينية في التخطيط الاستراتيجي للدولة الأردنية والمصالح الوطنية العليا، فلا يوجد دولة عربية أو إقليمية تُصنف القضية الفلسطينية بهذه الدرجة المرتفعة من الأولية في استراتيجياتها، وهو ما يسلط الضوء على حجم التباين الذي يُعقد من وجود هذا النوع من التحالفات، والتي إن وُجدت ستمنح الأردن عمقًا استراتيجيًا مهمًا.
- الغموض البنَّاء: ينتهج الأردن حالة من الغموض البناء مع الأطراف الإقليمية لتحقيق مصالحه الوطنية، فعند الحديث مثلًا عن العلاقة المعقدة مع إسرائيل وإيران، نجد أن الغموض الاستراتيجي الأردني المتعمد؛ يوفر هوامش حركة إضافية عند صنع القرار، لا سيما لمنع حدوث اصطدام أو تصادم سياسي مع الأطراف الأخرى، فمثلًا؛ مع عدم توافق الأردن مع إيران ومشروعها الإقليمي، إلا أنه لا ينتهج عِداء مباشرًا مع طهران، بل على العكس؛ يُبقي الأردن على قنوات اتصال لبحث إمكانيات التفاهم، وفي هذا الصدد؛ التقى وزير الخارجية الأردني نظريه الإيراني أكثر من ثلاث مرات خلال سنة 2024، مع زيارة رئيسية لطهران[23].
- القدرة على التكيف: إن التكيف مع المتغيرات الإقليمية المحيطة بالأردن أمر مهم جدًا لضمان حماية وتأمين المصالح الوطنية الأردنية، وتتصل القدرة على التكيف مع درجة المرونة العالية كما تقدم، ويمكن تسليط الضوء على الحالة السورية وتطوراتها منذ سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024؛ حيث اجتمعت الأطراف الرئيسية الفاعلة في الشأن السوري الجديد في مدينة العقبة الأردنية[24]، ليتبعها زيارة وزير الخارجية الأردني لدمشق، في أول زيارة لمسؤول عربي ولقاء قيادة الإدارة الانتقالية في سوريا[25]. هذا التكيف الأردني السريع خلال 15 يوم منذ سقوط النظام؛ يعكس درجة مرتفعة من التكيف لمواكبة الأحداث، وتعزيز الدور الأردني في سياق المشهد السوري الآخذ بالتشكل.
خاتمة
في الختام، إن الدعوات المتزايدة لصياغة واصدار وثيقة للأمن الوطني الأردني قد تعكس رغبة مشروعة في تأطير وتحديد الأمن الوطني والأولويات السياسية بشكل أكثر وضوحًا، لكن الواقع العملي والاستراتيجي للدولة الأردنية يظهر أن هناك نهجًا مرنًا وأكثر تطورًا في التعامل مع التحديات والتهديدات. تبرز الاستراتيجية الأردنية في سياق ممارسات عملية وتقاليد تتسم بالعقلانية والمرونة، حيث يبقى توجيه السياسة الخارجية والأمن الوطني معتمدًا على فاعلية التحركات الدبلوماسية والاستجابة السريعة للتطورات الإقليمية في الشرق الأوسط وفي السياسة الدولية.
على الرغم من أن غياب وثيقة استراتيجية مكتوبة قد يُنظر إليه من قبل البعض على أنه تحدٍ؛ إلا أن الواقع يشير إلى أن الأردن قد نجح في توظيف استراتيجيات عملية تواجه التهديدات وتتكيف مع التغيرات بشكل دائم. كما أن تفعيل المؤسسات الاستراتيجية مثل مجلس الأمن الوطني يساهم في تنظيم التنسيق بين المؤسسات الأمنية وتنفيذ السياسات العليا للدولة. وفي هذا السياق، تبقى الأولويات الوطنية الأردنية مرنة، مما يسمح بمواكبة التحديات بما يتناسب مع البيئة الإقليمية المتقلبة.
يبقى السؤال الأهم: هل تكفي هذه الممارسات العملية للأمن الوطني الأردني في تحقيق الاستقرار والاستدامة؟ يرتهُن الجواب على مدى قدرة الأردن على الموازنة بين الثوابت الوطنية والمرونة الاستراتيجية في ظل التحولات الجيوسياسية السريعة. ومهما يكن من أمر، فيظهر أن الأردن مستمر في السير في طريق استراتيجي يوازن فيه بين التحديات المحلية والدولية، ويعزز من قدراته الذاتية لحماية أمنه الوطني ومصالحه العليا.
[1] Allison, Graham T. Essence of Decision: Explaining the Cuban Missile Crisis. 2nd ed. New York: Longman, 1999.
[2] The White House. 2022. National Security Strategy, October 2022. Washington, DC: The White House. https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2022/10/Biden-Harris-Administrations-National-Security-Strategy-10.2022.pdf.
[3] de Durand, Étienne. 2015. “Planification de défense : la belle Arlésienne ?” In Guerre et stratégie: Approches, concepts, edited by Stéphane Taillat, Joseph Henrotin, and Olivier Schmitt, 479–498. Paris: Presses Universitaires de France.
[4] Daily Sabah, “‘Red Book,’ Türkiye’s Top-Secret Policy Document, Set to Get Update,” Daily Sabah, February 28, 2024, https://www.dailysabah.com/politics/red-book-turkiyes-top-secret-policy-document-set-to-get-update/news.
[5] Heuser, Beatrice. “The History of the Practice of Strategy from Antiquity to Napoleon.” In Strategy in the Contemporary World. 6th ed, edited by John Baylis, James J. Wirtz, and Jeannie L. Johnson. Oxford: Oxford University Press, 2019. doi:10.1093/hepl/9780192845719.003.0002.
[6] The Jordan Times, “Cabinet Approves 2022 Bylaw of National Security Council,” April 10, 2022, https://jordantimes.com/news/local/cabinet-approves-2022-bylaw-national-security-council.
[7] Brands, Hal. What Good Is Grand Strategy? Power and Purpose in American Statecraft from Harry S. Truman to George W. Bush. Ithaca, NY: Cornell University Press, 2014. p. 14.
[8] de Durand, Étienne. 2015. ibid.
[9] Brands, H. W. “Presidential Doctrines: An Introduction.” Presidential Studies Quarterly 36, no. 1 (2006): 1–4. http://www.jstor.org/stable/27552741.
[10] انظر مثلًا إدراج الصين في وثيقة الناتو لعام 2022 (Strategic Concept)، انظر:
NATO. NATO 2022 Strategic Concept. Brussels: North Atlantic Treaty Organization, June 29, 2022. https://www.act.nato.int/wp-content/uploads/2023/05/290622-strategic-
[11] Thorhallsson, Baldur, and Anders Wivel. “Small States in the European Union: What Do We Know and What Would We Like to Know?” Cambridge Review of International Affairs 19, no. 4 (2006): 651-668. And, Elman, Miriam Fendius. “The Foreign Policies of Small States: Challenging Neorealism in Its Own Backyard.” British Journal of Political Science 25, no. 2 (1995): 171-217.
[12] United States Government. “National Security Strategy”. Washington, D.C.: The White House, October 2022. https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2022/10/Biden-Harris-Administrations-National-Security-Strategy-10.2022.pdf. And, McCallion, Christopher. “Grand Strategy: Alliances.” Defense Priorities, September 17, 2024.https://www.defensepriorities.org/explainers/grand-strategy-alliances.
[13] United Kingdom. “National Security Strategy and Strategic Defence and Security Review 2015: A Secure and Prosperous United Kingdom”. London: HM Government, November 2015.
[14] Ortmann, Stefanie, and Nick Whittaker. “Geopolitics and Grand Strategy.” In Strategy in the Contemporary World. 6th ed, edited by John Baylis, James J. Wirtz, and Jeannie L. Johnson. Oxford: Oxford University Press, 2019. Politics Trove, 2019. p.321-322.
[15] Middle East Monitor. “Jordan PM: Attempts to Displace Palestinians a Declaration of War.” November 7, 2023. Accessed January 2, 2025. https://www.middleeastmonitor.com/20231107-jordan-pm-attempts-to-displace-palestinians-a-declaration-of-war/.
[16] Waltz, Kenneth N. Theory of International Politics. Reading, MA: Addison-Wesley, 1979. pp. 91-93. And: Mearsheimer, John J. The Tragedy of Great Power Politics. New York: W.W. Norton, 2001. pp. 50-54.
[17] Wivel, Anders, “The Grand Strategies of Small States”, in Thierry Balzacq, and Ronald R. Krebs (eds), The Oxford Handbook of Grand Strategy (2021; online edn, Oxford Academic, 8 Sept. 2021), https://doi.org/10.1093/oxfordhb/9780198840299.013.32.
[18] حسن جابر، “حرب الشمال: شبكات الجريمة المنظمة في سوريا، الاستجابة الأردنية وخيارات الإقليم”، معهد السياسة والمجتمع ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 18 ديسمبر 2024، متاح عبر الرابط https://wp.me/pdSIuF-2KS
[19] Sawalha, Abdullah. “Jordan’s Balancing Act: Overcoming the Challenges Posed by Trump’s ‘Deal of the Century’.” The Washington Institute for Near East Policy, February 12, 2020. https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/jordans-balancing-act-overcoming-challenges-posed-trumps-deal-century.
[20] Al Sharif, Osama. “Why Jordan Was So Quick to Reject Trump’s Peace Plan.” Middle East Institute, February 3, 2020. Accessed January 2, 2025. https://www.mei.edu/publications/why-jordan-was-so-quick-reject-trumps-peace-plan.
[21] U.S. Department of State. “Members – The Global Coalition to Defeat ISIS”. https://www.state.gov/the-global-coalition-to-defeat-isis-partners/#nea.
[22] Al Arabiya News. “Your Guide to ‘Operation Decisive Storm’.” March 26, 2015. https://english.alarabiya.net/perspective/features/2015/03/26/Allies-back-Saudi-led-Decisive-Storm-op-in-Yemen-with-fighter-jets.
[23] The Jordan Times, “Safadi Concludes Official Visit to Iran, Delivers Message from King to President Pezeshkian,” August 4, 2024, https://jordantimes.com/news/local/safadi-concludes-official-visit-iran-delivers-message-king-president-pezeshkian.
[24] The Jordan Times. “Aqaba Meeting Underlines Arab Support for Syria’s Political Transition, Sovereignty, Territorial Unity.” December 14, 2024. https://jordantimes.com/news/local/aqaba-meeting-underlines-arab-support-syrias-political-transition-sovereignty-territorial.
[25] The Jordan Times. “Safadi Holds Talks with Syria’s New Leader, Reaffirms Support to Rebuilding ‘Free, Sovereign’ Syria.” December 23, 2024. https://jordantimes.com/news/local/safadi-holds-talks-syrias-new-leader-reaffirms-support-rebuilding-free-sovereign-syria.