ما الذي يريده ترامب؟
قراءة في أفكاره من ما يسمى "كتبه" - كتاب فن الصفقة
![](https://politicsociety.org/wp-content/uploads/2025/02/original.avif)
ألف دونالد ترامب أو “أوكل كتّابًا” متخصصين للعديد من الكتب باسمه لتعكس أسلوبه في التفاوض وفي النجاح، وفي المغامرة خلال عالم الأعمال. ورغم الجدل المستمر حول شخصيته، فإن هذه الكتب غالبًا ما تتصدّر قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا. ومثال ذلك كتابه الأول والأشهر “فن الصفقة The Art of the Deal” والذي بقي في القائمة لمدة 48 أسبوعًا، منها 12 أسبوعًا في المرتبة الأولى وهو أمر لا يحدث كثيرًا في عالم النشر. خلال فترة رئاسته الأولى، نُشر أكثر من 4,500 كتاب حوله، وهو رقم يفوق بكثير ما كُتب عن سلفه باراك أوباما خلال عامه الأول (800 كتاب فقط). ومع ذلك، لاحظ توني شوارتز، الكاتب المشارك في “فن الصفقة”، أن ترامب لم يكن يملك أي كتب في مكتبه أو شقته وهو ما يثير التساؤلات حول هذه الكتب وترويجه للأفكار من خلالها.
على كل حال، ترامب ليس مجرد رجل أعمال مغرور انتقل ليكون رئيسًا للولايات المتحدة، نحاول نحن قراءة مذكراته التحفيزية التي يتبجح فيها بإنجازاته، بل هو شخصية مؤثرة في السياسة العالمية وقراراته المثيرة والكثيرة أثرت على الشرق الأوسط والعالم، وما زالت طريقته التفاوضية تلعب دورًا في مستقبل القضايا الكبرى في هذا العالم. لذا، فإن فهم نهجه في التفاوض والإدارة قد يساعد السياسيين والمراقبين على توقع قراراته وفهم منطقه. فرغم أن النظام السياسي الأمريكي قائم على مؤسسات قوية تحدّ من سلطة الفرد، إلا أن للرئيس تأثيرًا واسعًا، خاصة في السياسة الخارجية والأمن القومي والاقتصاد، حيث يُشرف على تنفيذ القوانين الفيدرالية عبر تعيين آلاف الموظفين في مناصب تنفيذية، بينهم وزراء، مستشارون، رؤساء وكالات فيدرالية، وسفراء. وعادة يختار الرئيس فريقًا يعكس رؤيته، وهذا يجعل قناعاته الشخصية تلعب دورًا رئيسيًّا في رسم السياسات رغم رقابة الكونغرس والمحاكم.
عمومًا، إلى جانب كتاب فن الصفقة، كتب ترامب أو “أوكل الكتابة” لمشاركين في العديد من كتبه مثل (فن العودة The Art of the Comeback)، (فكّر مثل الملياردير Think Like a Billionaire)، (لا تستسلم أبدًا Never give up)، و (فكر كبطل Think Like a Champion)، (كيف تصبح غنيًّا How To Get Rich) و (الطريق نحو القمة The way to the top)، و كتاب (فكِّر بشكل كبير وحقق النجاح الساحق في الأعمال والحياة Think BIG and Kick Ass in Business and Life) و (لمسة ميداس Midas Touch: Why Some Entrepreneurs Get Rich-And Why Most Don’t) وعدد من الكتب عن نصائحه في عالم العقارات. أما في مجال السياسة فقد طرح أفكاره القومية في مجموعة أخرى مثل (حان وقت الصمود Time to Get Tough: Making America #1 Again) الذي روّج فيه لشعاره “أمريكا أولًا” و كتاب (أميركا العرجاء و كيف نجعلها عظيمة ثانيةCrippled America: How to Make America Great Again) و كتاب (عظيمة مرة أخرى: كيف نصلح أميركا العرجاء Great Again: How to Fix Our Crippled America).
يحاول المقال استخلاص أهم أفكار ترامب من كتابه، فن الصفقة، الذي يكشف فيه عن أساسيات منهجه التفاوضي واستراتيجياته في عقد الصفقات، وهي ذاتها التي شكلت نهجه في القيادة لاحقًا.
عن كتاب فن الصفقة
رغم أن هذا الكتاب “Trump: The Art of the Deal” كُتب قبل نحو 40 عامًا، إلا أنه يظل أحد أهم المصادر لفهم شخصية دونالد ترامب الذي يعد اليوم أحد أكثر القادة تأثيرًا وإثارة للجدل على الساحة العالمية. وما يميز هذا الكتاب ليس فقط استعراضه لإنجازات ترامب في عالم العقارات، بل كشفه عن ذهنيته التفاوضية، واستراتيجياته، وطريقته في إدارة العلاقات والصراعات. هذا الفهم ضروري اليوم، خاصة مع استئنافه الحكم والتأثير في السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا واقتراحه لمشاريع كبرى من قبيل إعادة إعمار غزة، والتي تأتي في سياق جزء من خطط جيوسياسية تشمل نقل سكانها وتوطينهم في الأردن ومصر بينما الرجل يعرض المسألة -حرفيًّا- وكأنها مشروع عقاري وفرصة استثمارية -على البحر- لا كقضية نزاع سياسي ممتد وصراع قومي مزمن يطالب فيه شعب مضطهد خارج للتو من إبادة جماعية وتطهير عرقي بحقه في تقرير مصيره والعيش في أرضه وأرض أجداده.
الهوس بالصفقات: ترامب والتفاوض كأسلوب حياة
لا يرى ترامب السياسة منفصلة عن الأعمال، بل يعتبرها مجالًا مشابهًا حيث يمكنك المساومة والضغط، والمناورة لكسب صفقات بأكبر مكاسب وأقل تنازلات. ويعتمد في ذلك على مجموعة من المبادئ التي يعرضها من خلال شرح صفقاته المتعددة. وقبل ذلك تلمس من خلال الكتاب أن الرجل مهووس بالصفقات والتفاوض لدرجة أنه يقوم بها لا من أجل الربح المالي فقط فلديه ما يكفي منه -كما يقول- ولكنه يستمتع بإبرام الصفقات كما يستمتع الفنانون بالرسم والشعراء بالكتابة. وهو كما نرى يحب عقد الصفقات الكبيرة المثيرة، ويفضل العمل بشكل غير تقليدي دون جدول زمني صارم أو اجتماعات مكثفة، وهو ما يمنحه -كما يرى- حرية التفكير والإبداع بالإضافة إلى ما يجده من متعة وتلذذ في محاولة إذلال الإدارات الضعيفة في محاولتها لحماية مكتسباتها الصغيرة.
بين صرامة والده وفخامة والدته
يذكر ترامب أن شخصيته تأثرت بعائلته، والده، فريد ترامب، كان مطوّرًا عقاريًّا يركز على المشاريع الموجهة لذوي الدخل المحدود، وقد كان حازمًا مع من يعملون معه لضمان إنهاء العمل في الوقت المحدد ودون تكاليف إضافية غير مبررة. ورغم نظرة ترامب إلى أن مشاريع والده كانت محدودة ولا يمكن لها أن تشفي غليله في عالم الأعمال إلا أنه تعلم منه الصرامة و الصبر، والانضباط، خاصة في التعامل مع المقاولين والعمال. ومن والدته ورث حب الفخامة والترف، وهو ما انعكس على مشاريعه التي كانت متميزة بالتصميم الفاخر والمواد عالية الجودة، مثل برج ترامب الذي جعله رمزًا للفخامة في نيويورك.
الحفاظ على خيارات متعددة دائمًا
يحب ترامب الاحتفاظ بأكثر من خيار في كل صفقة، ويوضح من خلال صفقاته الكثيرة كيف أن بعض الفرص تبدو مغرية على الورق لكنها قد لا تكون مربحة على أرض الواقع. ويؤمن بأن الحفاظ على خيارات متعددة وعدم التورط في صفقة واحدة فقط يمنحه قوة تفاوضية أكبر. فعند شرائه ساحات السكك الحديدية في غرب مانهاتن، خطط لمشاريع متعددة، بحيث يكون لديه دومًا خطة بديلة. وكذلك كان يفكر إذا لم ينجح مشروع برج ترامب، فبإمكانه بناء مكاتب، وإذا فشل في بناء الكازينو في أتلانتيك سيتي، فبإمكانه بيع الأرض التي اشتراها بشكل تدريجي وبأسعار منخفضة لمشغل كازينوهات آخر. وبهذه الاستراتيجية كان لديه مرونة هائلة شكلت له مصدرة قوة وجعلت من الصعب إجباره على قبول شروط غير مواتية في أي صفقة.
وفي بعض الصفقات استخدم تكتيك “الخوف من البديل الأسوأ” مثلما فعل لإجبار سلطات المدينة على قبول تصميمه الأساسي لـ “مدينة التلفزيون TV city”، حيث قدم تصميمًا قبيحًا وغير متناسق معماريًّا ولكن ملتزم بكل الشروط الهندسية والمدنية كخيار بديل. هذا النهج، المعروف بـ Worst Alternative Leverage يقوم على عرض خيار غير مرغوب فيه لدفع الطرف الآخر لقبول الخيار الأفضل. وفعلًا في النهاية، فضلت المدينة التصميم الفاخر لبرج ترامب على البديل القبيح الذي اقترحه بلا جدية و هو ما سهل عليها لحصول على الموافقات التي سعى إليها.
التفاوض من موقع قوة
يرفض ترامب الدخول في أي تفاوض من موقع ضعيف، لذا فإنه يستخدم الإعلام، النفوذ، وحتى التهديدات القانونية للضغط على خصومه ويطبق في تفاوضه نهجًا حذرًا ولكن هجومي ويركز على حماية نفسه من أي خسائر محتملة أولًا، ثم يسعى إلى تعظيم الأرباح لاحقًا. وفي الفصل 11 من الكتاب يروي تجربته في دوري كرة القدم الأمريكي (USFL) وهو دوري ناشئ تأسس كمنافس لـ الدوري الوطني لكرة القدم (NFL) لكنه كان يُقام في الربيع بدلًا من الخريف، وهو ما أدى إلى ضعف اهتمام الجماهير وشبكات البث مقارنة بـ NFL، الذي كان يسيطر على المشهد الرياضي في الخريف. ومن أجل حصول على فرصة لمحاكمة NFL بتهمة الاحتكار اشترى ترامب فريق نيو جيرسي جنرالز عام 1983. و قد نجح في استقطاب لاعبين كبار إلا أن دعواه القانونية ضد NFL انتهت بالحكم لصالح USFL لكن بتعويض رمزي (دولار واحد فقط)، وهو ما أدى إلى انهيار الدوري في النهاية لتستمر NFL مهيمنة ومع ذلك و رغم موقفه القانوني حقق ترامب من هذه التجربة شهرة إعلامية واسعة، وعزز صورته كمستثمر جريء يواجه المؤسسات الكبرى مثل NFL. كما استفاد من توسيع نفوذه وعلاقاته، واكتسب خبرة قانونية في استراتيجيات الضغط والمواجهة.
استغلال الإعلام كسلاح تفاوضي
يرى ترامب أن الشهرة والتغطية الإعلامية أقوى من أي إعلان مدفوع و أن أي دعاية حتى لو كانت سلبية يمكن أن تتحول إلى مكسب. ففي مشروعه الأكبر “برج ترامب”، لم يكن بحاجة لكثير من الترويج لأن الموقع كان ممتازاً وقام بتسويقه بشكل أكبر كرمز للفخامة التي زادت من قيمته وخصوصًا لدى شريحة معينة من الأثرياء. وقبل تلك المرحلة ورغم أنه لم يكن يملك أي مشاريع ضخمة، بدأ بتقديم نفسه كلاعب كبير في السوق حين أطلق على شركته الصغيرة اسم “منظمة ترامب” ليبدو أكثر نفوذاً.
وعند البدء بهدم Bonwit Teller الذي سيقوم برجه الجديد مكانه طلب إليه متحف متروبوليتان للفنون الحفاظ على بعض الزخارف Art Deco الموجودة على واجهة المبنى. وبسبب التكاليف الإضافية لتفكيكها، أمر ترامب بتدميرها كليًّا، مما أدى إلى ضجة إعلامية ضخمة وانتقادات من المعمارين والجمعيات المعنية عبر كبرى الصحف مثل New York Times وغيرها معتبرينه أنه يغلب الربح على القيم التاريخية والفنية. و رغم السلبية الإعلامية، يقول أنه استفاد من الاهتمام المتزايد بالمشروع حيث ساهمت الحملة في الترويج لبرجه الفخم و العصري وجذب الكثير من المستثمرين الباحثين عن الربح. ومثل ذلك الأمر فعل في قضية تسكين المشردين في 100 Central Park South، قدم نفسه كمدافع عن الفقراء بينما كان هدفه الضغط على المستأجرين لإخلاء المبنى.
استغلال الأزمات كفرص ذهبية
يرى ترامب أن الأزمات هي أفضل وقت لعقد الصفقات، حيث يكون الآخرون في وضع ضعيف. و يقول أنه كان يبحث عن الأزمات في الصحف والاذاعات لأنه يرى فيها فرصاً كثيرة. فبينما كان زملاؤه في الكلية يقرؤون الصحف للأخبار العابرة، كان هو يدرس قوائم العقارات المصادرة من الحكومة ويجد فيها صيد ثمينًا للانقضاض. وفعلاً كانت أول صفقة عقدها حين اشترى مع والده مجمع سويفتون Swifton Village المهجور بـ 6 ملايين دولار، وأعاد تأهيله وتخلص من المستأجرين غير الملتزمين واستثمر في تحسين المظهر العام لجذب مستأجرين أكثر استقراراً ثم بيعه مقابل 12 مليون دولار بعد فترة قصيرة.
وكذلك رأى في موقع فندق كومودور المتدهور بجوار محطة غراند سنترال في نيويورك فرصة رغم مظهره المهمل ومشاكله المالية. فاوض للحصول على إعفاء ضريبي لمدة 40 عاماً وهو ما ساعده على تأمين التمويل وإتمام الصفقة. ثم أقنع مجموعة حياة بالشراكة معه، وأعاد تصميم الفندق بالكامل، مستخدمًا واجهة زجاجية حديثة أثارت جدلًا لكنها عززت جاذبيته. وافتتح الفندق باسم جراند حياة عام 1980، وحقق نجاحاً كبيراً وأرباحًا تجاوزت 30 مليون دولار سنويًّا. و مثل ذلك فعل حين رأى أن مبنى بونوِيت تيلر في احدى شوارع نيويروك موقع مثالي لناطحة سحاب. في البداية رفض مالك المبنى البيع، لكن ترامب استمر في المحاولة لثلاث سنوات. وعندما واجهت الشركة المالكة مشاكل مالية، تمكن ترامب من التفاوض وشراء المبنى والأرض وأقنع مالك متجر تيفاني المجاور ببيع حقوق الهواء، وهو ما سمح له ببناء برج ترامب.
وفي أتلانتيك سيتي، لم يدخل في المضاربات العقارية فورًا بعد تقنين القمار، بل انتظر حتى تهدأ حمى الاستثمار ويواجه المستثمرون التقليديون الاشكالات المالية المتوقعة ليأتي ويشترى الأراضي بسعر منخفضه، وفعلاً مكنه هذا لاحقًا من جذب شركاء لتمويل مشروعه.
استخدام الأدوات المالية بذكاء
يستخدم ترامب الأدوات المالية لتعظيم أرباحه وتقليل التكاليف، حيث تمكن من الاستفادة من قوانين الاستهلاك الضريبي (Depreciation Tax Benefits)حيث تخفض الضرائب المستحقة عن طريق تقليل قيمة الأصول تدريجيًّا على الورق وهو ما زاد التدفقات النقدية لمشاريعه. ومنها أيضاً تطبيقه لمبدأ الهندسة القيمية (Value Engineering)في مشاريعه المختلفة حيث كان يعيد تقييم كل تفصيلة في مشروعه لخفض التكاليف بدون التأثير على الجودة. و في أحد مشاريعه مثلاً، قرر تقليل عدد مفصلات الأبواب من 4 مفصلات لكل باب إلى 2-3 مفصلات حسب كل حالة و بذلك استطاع توفير 20,000 دولار في هذا المشروع دون التأثير على الوظيفة الأساسية.
الجرأة أهم من الذكاء الأكاديمي
يؤمن ترامب بأن الجرأة أحياناً أهم من الذكاء الأكاديمي ويمكن للمجازفة الذكية أن تحقق نجاحًا استثنائيًّا. وعندما زاره الرئيس الأسبق، جيمي كارتر، طالبًا منه تبرعًا بـ5 ملايين دولار لمكتبته، كان ترامب مندهشًا من ثقة كارتر وجرأته رغم افتقاره للكفاءة، وهو ما جعله يدرك لحظتها أن الثقة وحدها قد تصنع منه رئيسًا. وفي مفاوضاته يعتمد ترامب على استراتيجية الندرة كما فعل في بيع شقق برج ترامب، حيث رفع الأسعار 12 مرة تدريجياً لإعطاء انطباع بزيادة الطلب وجعل العقار يبدو غير متوفر ومطلوبًا أكثر وهذا أدى إلى تحقيق أرباح قياسية، حيث اشترى المستثمرون الشقق بأسعار متزايدة، مقتنعين بأن التأخير سيجعلهم يدفعون أكثر في المستقبل.
يقول ترامب في إحدى فصول الكتاب “أنا متشائم وأفكر دومًا في أسوأ السيناريوهات”، وهذا بالضبط ما يجب أن نواجهه به في العالم العربي عبر إعطائه أسوأ السيناريوهات الممكنة ولكن مع كامل الاستعداد حيث يكشف كتابه بوضوح عن منهجه التفاوضي الهجومي القائم على خلق الأزمات واستغلال نقاط الضعف لإجبار الآخرين على التنازل. لا يساوم ترامب من موقع ضعف، بل يدفع خصومه إلى الحافة حتى يفرض شروطه. لذلك، التعامل مع مقترحاته، خاصة فيما يتعلق بقضايانا الكبرى، يتطلب وعيًا عميقًا بأساليبه واستعدادًا استراتيجيًّا يمنع وقوعنا في فخاخه التفاوضية.