ماذا يريد الغرب لرفع العقوبات كاملة عن سورية؟

تعرضت سورية منذ العام 2011 لموجة من العقوبات الدولية التي استهدفت النظام السوري السابق لإرغامه على وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ظل يرتكبها بحق السوريين المعارضين لحكمه. ومع سقوط نظام الأسد، وظهور إدارة جديدة في المشهد السياسي تقودها هيئة تحرير الشام، برزت تساؤلات حول استمرار العقوبات الغربية ومبرراتها. فما الذي يجعل الغرب مترددًا في رفع العقوبات؟ وما الذي يريده لضمان رفعها الكامل؟

ما يزيد عن عقد من العقوبات الغربية على نظام بشار الأسد

من الجدير بالذكر أولاً أن نشير إلى أن العقوبات هي إحدى أهم أدوات العلاقات الدولية التي تستخدمها الدول للتأثير بشكل سلمي على الأنظمة والحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان أو تفشل بالوفاء بالتزاماتها الدولية أو تبرز كتهديد للسلم والأمن الدوليين، وبالتالي يتم فرض العقوبات للضغط والتأثير وإجبار الدول على الامتثال للقوانين الدولية وتعديل سياساتها وإيقاف الانتهاكات والتجاوزات التي تقوم بها، دون الحاجة للدخول في أي تصعيد عسكرية معها.

منذ البداية فرضت العقوبات كأداة للضغط على النظام السوري للتقليل من قدرته على مواصلة القمع والانتهاكات والجرائم الواسعة التي كانت ترتكب من قبل قواته والمليشيات المتحالفة معها بحق الشعب السوري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأبعاد سياسية تتعلق بدور سورية في المنطقة وارتباطاتها الإقليمية بما في ذلك علاقاتها بإيران وروسيا، خاصة مع وصول الأطر الدبلوماسية إلى أفق مسدودة حالت دون إيجاد حل سلمي يوقف الجرائم ونزيف الدم في سورية. خلال العقد الأخير فرضت سلسلة واسعة وقاسية من العقوبات على سورية شملت تجميد الأصول، الحظر النفطي، حظر التعاملات المالية مع البنوك السورية، فرض قيود على الاستيراد والتصدير وخاصة على المنتجات ذات الاستخدام المزدوج (مدني، عسكري) مثل الطاقة، التكنولوجيا وغيرها. بالإضافة إلى قانون قيصر في يونيو/حزيران 2020 من قبل الولايات المتحدة الذي فرض عقوبات وقيودًا أشد شملت بالإضافة إلى ما سبق تجميد مساعدات إعادة الإعمار[1]. لم تستهدف هذه العقوبات النظام السوري فقط، بل وحلفائه وكل من يتعاون أو يدعم العمليات العسكرية او الاقتصادية للنظام السوري سواء كانوا كيانات أو أشخاص.

لعبت هذه العقوبات دوراً مهمًا في عزل النظام السوري وتقويض شرعيته بما في ذلك قدرته على إقامة التحالفات والشراكات الدولية والتي انحصرت على حلفائه الرئيسيين المتمثلين بروسيا وإيران. كما ساهمت هذه العقوبات في استنزاف الموارد الاقتصادية التي كان يستخدمها النظام لتمويل عملياته العسكرية بحق معارضيه والاستمرار في الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها وحلفاؤه بحق الشعب السوري، ومنعته من الوصول لمعدات وأسلحة عسكرية جديدة.

وبقدر ما كان لهذه العقوبات من تأثير كبير على النظام السوري، إلا إنها وبطبيعة الحال انعكست على السوريين والمدنيين الذين أُجبروا على دفع ثمن هذه العقوبات من خلال التضخم الهائل الذي حدث في الاقتصاد السوري، ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وكذا ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات مقابل انخفاض حاد في قيمة الليرة التي تجاوزت سقف 18 ألف مقابل الدولار الأمريكي الواحد. في حين انخفض الحد الأدنى للأجور في سورية إلى ما يقارب (19 دولارًا شهريًّا) وهو من أدنى معدلات الأجور عالميًّا. وبالتالي يتضح أنه وإن كان الهدف من العقوبات هو النظام إلا أن الضحية كان هو الشعب السوري الذي وجد نفسه محاصراً بين نظام قمعي وبين حياة وضغوط اقتصادية خانقة، خاصة وأن النظام قد استطاع بطريقة أو بأخرى التكيف مع العقوبات ومواجهتها من خلال وسائل التهريب والاقتصاد الموازي الذي صنعه لنفسه، بما في ذلك “مملكة الكبتاغون” التي بناها النظام السوري وأصبح ينتج ويصدر 80٪ من الكبتاغون العالمي تدر عليه مليارات الدولارات سنويا. [2]

العقوبات اليوم، ما الجدوى؟

انتهت حقبة الأسد والنظام الديكتاتوري الذي جثم على صدور السوريين لخمسة عقود ويزيد، بعد سيطرة هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة المتحالفة معها، والتي شنت عملية سُميت بـ “ردع العدوان” في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ومن ثم أحكمت السيطرة على العاصمة السورية دمشق في الثامن من ديسمبر/كانون أول 2024. وأصبح السؤال اليوم لماذا لم ترفع العقوبات بالكامل بعد؟ ولماذا رفعت جزئياً من قبل الأوروبيين ومازالت قائمة من قبل الأمريكان؟ ومتى سيتم رفعها إذن؟
خلَّف نظام الأسد دولة متهالكة، واقتصادًا منهارًا وبنوكًا فارغة، وديونًا خارجية وداخلية تتجاوز 23 مليار دولار، يضاف إلى ذلك التزامات هائلة تفوق قدرة الإدارة الجديدة على الوفاء بها بشكل منفرد، بما في ذلك تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، ضمان صرف الرواتب، والبدء في مشاريع إعادة الإعمار التي تعد ضرورية لإعادة بناء البلاد. كما يضاف إلى هذه التحديات الترتيبات اللازمة والضرورية لاستيعاب واستقبال اللاجئين العائدين من الدول المجاورة، ما يضاعف من حجم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الحكومة.

ظلت الإدارة السورية منذ تشكلها تطالب مرارًا وتكرارًا المجتمع الدولي برفع العقوبات المفروضة على سورية، وبرروا مطالبهم بسقوط النظام الذي فُرضت هذه العقوبات عليه، وبالتالي، فما الداعي لاستمرار هذه العقوبات بعد انتفاء سبب وجودها؟ ولماذا يتردد المجتمع الدولي ويحاول البحث عن بدائل لتخفيف هذه العقوبات أو تبني “نهج تدريجي” لرفعها وغيرها من التصريحات التي يطلقها الغرب اليوم للتهرب من الرفع الفوري والكامل للعقوبات ويدل على نوايا باستمرارها ولو بشكل جزئي.

بطبيعة الحال، فإن العقوبات التي يتم فرضها على الدول تضل سارية بغض النظر عن تغير الحكومات وتعاقبها، ما لم يكن هناك تغيير جوهري من قبل الحكومات الجديدة لمعالجة الأسباب التي أدت الى فرض العقوبات وتقديم الضمانات المقنعة والتي يمكن أن تغير سياسة الجهات التي فرضت العقوبات. وهذا ما شهدناه في كثير من السياقات الأخرى مثل العقوبات المفروضة على إيران والمستمرة منذ أكثر من أربعة عقود دون أن يتم مراجعتها أو تخفيفها حتى مع الحكومة الجديدة التي تشكلت في 2024 برئاسة مسعود بزشكيان والتي تحاول تقديم نفسها على أنها حكومة إصلاحية معتدلة، وأصدرت تصريحات متكررة عن رغبتها في استئناف وتعميق الحوار مع الغرب.[3] وبالتالي فإن تغير النظام في سورية ليس كافياً لرفع العقوبات عنها، لكنه عامل مهم لبدء نقاشات مهمة لتحقيق ذلك.

المتابع للتصريحات الغربية بخصوص سورية يستطيع أن يقول؛ إن الغرب لم يستوعب بعد صدمة سقوط نظام بشار الأسد، بل لم يكن جاهزًا أو مستعدًا لهذا السيناريو، خاصة وأنه وقبل أشهر قليلة فقط من سقوط بشار الأسد كان الاتحاد الأوروبي يناقش استعادة العلاقات مع نظام الأسد تحت ضغط الأعداد الهائلة للاجئين القادمين من سورية[4]. السقوط المفاجئ للنظام السوري انعكس على قدرة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية على تبني سياسة واضحة ومباشرة تجاه سورية والإدارة الجديدة، وهو ما يتضح من خلال التصريحات المختلفة والمتناقضة أحيانًا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي تجاه الإدارة السورية الجديدة بشكل عام ومسألة رفع العقوبات على وجه التحديد.

سورية بين العقوبات الأمريكية والأوروبية

من المهم توضيح سياق العقوبات المفروضة على سورية وديناميكيتها لما لذلك من أهمية في فهم وتحليل مستقبل هذه العقوبات وإمكانية رفعها وكيفية التعامل معها وهي كالتالي:

  • العقوبات الأممية: لا تخضع سورية لأي عقوبات من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسبب اللجوء لحق الفيتو لكل من روسيا والصين، والتي حالت دون فرض أي عقوبات أممية على سورية. بالمقابل تعد الأمم المتحدة منصة مهمة للحكومة السورية للدفع باتجاه رفع العقوبات من خلال تجديد التزامها وامتثالها بميثاق الأمم المتحدة.
  • العقوبات الامريكية: بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على النظام السوري في وقت مبكر منذ العام 2004 بسبب ما أسمتها سياسات الحكومة السورية في دعم الإرهاب بعكس العقوبات الأوروبية التي تزامنت مع الثورة السورية بعد 2011، وقد فُرضت هذه العقوبات على شكل عدد من الأوامر التنفيذية وهي على التوالي (13388 للعام 2004، 1399 للعام 2006، 13460 للعام 2008). ومنذ اندلاع الثورة السورية، قامت الولايات المتحدة الامريكية بفرض عقوبات جديدة على النظام السوري على خلفية انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبها بحق السوريين بدءاً من الامر التنفيذي رقم 13572 والذي بموجبه تم إضافة 49 شخص وكيان للقوائم الأمريكية، بالإضافة إلى الأوامر ذات أرقام (13573 لعام 2011، 13582 لعام 2011، 13606 لعام 2012، 13608 لعام 2012، ومؤخرا قانون قيصر والأمر التنفيذي رقم 13894 لعام 2019) [5]ومن خلال هذه الأوامر التنفيذية، تم تجميد العديد من ممتلكات الحكومة السورية في الولايات المتحدة الأمريكية وحظر التعاملات التجارية مع سورية ومنع سفر المسؤولين في النظام السوري أو المتعاونين معه. كما لم تبد الولايات المتحدة مرونة في التعامل مع النظام السوري، حتى مع سقوط نظام الأسد وتوافد الوفود الأمريكية للقاء بالإدارة السورية الجديدة، إلا أن موقفها من العقوبات مازال غامضاً ومحدوداً حتى الآن بالإعفاء الذي منحته الولايات المتحدة الأمريكية على المعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سورية بشكل مؤقت لمدة ستة اشهر فقط.[6] كما لا تبدي الولايات المتحدة اهتماماً خاصاً بالوضع في سورية وهو ما صرح به الرئيس دونالد ترامب بقوله: “لا ينبغي لواشنطن أن تنشغل بمشكلات سورية”[7] وهو أمر يمكن فهمه خاصة في سياق ضعف المصالح الأمريكية في سورية وعدم أو ضعف التأثر بالأزمة السورية مقارنة بالاتحاد الأوروبي الذي تشكل سورية تهديداً مباشراً واستراتيجياً للأمن والاقتصاد الأوروبي. وربما نستطيع أن نقتصر علاقة الولايات المتحدة بسورية حالياً من خلال دعمها لقوات سوريا الديمقراطية في قضايا مكافحة الإرهاب، واستمرار العمليات العسكرية الأمريكية في الأراضي السورية ضد “التنظيمات الإرهابية”[8]. يبدو ان الولايات المتحددة تتبنى سياسة (إذا لم يكن الشيء معطلاً، فلا تحاول إصلاحه “If not broke, don’t fix it”) في سوريا، وبالتالي وطالما ان العقوبات مازالت تحقق الهدف منها في ممارسة ضغط وتأثير على السلطة الحاكمة، فلا داعي لرفعها.
  • العقوبات الأوروبية: تخضع سورية لعقوبات أوروبية بموجب اللائحة 36/2012 تاريخ 18 يناير/كانون الثاني 2012 وتعديلاتها، والقرار 255/2013 تاريخ 31 مايو/ايار 2013 وتعديلاته، وتتنوع هذه العقوبات بين عقوبات مستهدفة أو فردية تستهدف أفراد وكيانات معينين لارتباطهم بالسلطات السورية السابقة، ولاعتبارهم المسؤولين عن قمع السكان المدنيين وانتهاكات حقوق الانسان في سورية، وعقوبات قطاعية تشمل قطاعات اقتصادية وتجارية هدفت إلى حرمان السلطات السورية من الوصول للموارد المالية التي قد تستخدمها. في تمويل حربها ضد السوريين.[9] الجدير بالذكر أن العقوبات الأوروبية يجب أن تخضع للتجديد بشكل سنوي ويجب موافقة جميع الأعضاء حيث إن اعتراض أحد الأعضاء قد يعيق تجديد هذه العقوبات. كما أن ضغط الملايين من اللاجئين السوريين الذين استمروا بالتوافد إلى أوروبا أثر على انفتاح الإتحاد الأوربي بعد سقوط النظام لرفع بعض العقوبات وتعليقها للمساهمة في إعادة إعمار سورية وتوفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين، وكان آخرها في 24 فبراير/شباط 2025 عندما أقر الاتحاد الأوربي رفع العقوبات التي طالت قطاعات اقتصادية رئيسية بما في ذلك قطاعات الطاقة والمصارف والنقل[10].

يحاول الاتحاد الأوروبي البحث عن صيغة رابح – رابح في إدارة مسألة رفع العقوبات على سورية بحيث تساهم في حل معضلة اللجوء التي أرقت الاتحاد الأوروبي ومن جهة أخرى عدم التسرع في دعم حكومة جديدة غير واضحة في ملامحها بعد، خاصة في ظل الترقب والجمود في الموقف الأمريكي، وهو ما يفسر تعليق العقوبات بدلاً من رفعها، وتصريح مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أن للتكتل القاري حق إعادة فرض العقوبات إذا لم يحترم القادة السوريون الجدد حقوق الإنسان أو القيم الديمقراطية[11].

يمكن تحليل وتلخيص مخاوف الغرب تجاه رفع العقوبات عن سوريا الجديدة بالتالي:

  1. التخوف من الإدارة الحالية: سقوط النظام السوري كان أمراً جللًا ليس فقط للسوريين، بل وللعالم بأكمله، فهو النظام الذي تورط في الكثير من الجرائم والانتهاكات وتسبب في افتعال الكثير من المشكلات والإزعاج لدول الإقليم والعالم، لكن سقوطه على أيدي هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة سابقاً- والفصائل المعارضة، لم يكن الأمر الذي يحبذه الإقليم والعالم، لكنهم كانوا مجبرين على التعاطي معه. توالت الزيارات الدولية على دمشق، زيارات يمكن تلخيصها في كلمتين اثنتين (أمل مقترن بالحذر). لم تستطع الوفود التي زارت دمشق إخفاء توجسها وقلقها من السلطة الجديدة في سورية وهي التي لها إرث تاريخي لا يمكن تجاوزه، لكنهم أبدوا انفتاحهم واستعدادهم أن يعطوا هذه الإدارة الفرصة لإثبات أنها قد تغيرت بالفعل وأنها على استعداد للتعاطي مع كل السوريين في تشكيل سورية الجديدة.
  2. إحراز تقدم في عملية الانتقال السياسي والحوار الوطني السوري: رُبطت عملية رفع العقوبات على سورية بمدى جدية الإدارة الجديدة بالانخراط في عملية انتقال سياسي حقيقي ينهي حالة التفرد بالسلطة التي تقودها حاليًّا هيئة تحرير الشام بشكل خاص، وتحيي العملية السياسية وتتيح المجال للمكونات السورية المختلفة للمشاركة الفاعلة في تشكيل حكومة سورية قائمة على الكفاءة، بالإضافة الى إطلاق حوار وطني شامل تمثل فيه كل فئات ومكونات المجتمع السوري، وتناقش وتقر فيه كل القضايا بحرية ووفق أطر ديمقراطية دون أي تدخلات أو أجندة أو قيود مسبقة يتم فرضها من قبل هيئة تحرير الشام أو أي مكون آخر. وعلى الرغم من الخطوات الهامة التي قطعتها الإدارة الحالية في هذا المسار، إلا ان هناك المزيد ليتم القيام به خاصة في ضل التفاهمات بين الادارة السورية الانتقالية والإدارة الذاتية في شمال شرق الفرات.  يبرز هذا المطلب بشكل ملح في خطابات وتصريحات الدبلوماسيين الأوروبيين والأمريكان على وجه الخصوص، نظراً لتفرد الهيئة في الحكم وغياب المعارضة السورية وشخصياتها المختلفة المعروفة دولياً والتي يثقون فيها أو على الأقل يعرفونها نوعاً ما مقارنة بشخصيات الهيئة والتي يُتهم بعضها بالتورط في ارتكاب جرائم وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال السنوات السابقة.  وقد اكد مسؤولون أمريكيون أنهم “سينتظرون لتقييم منهجية تدبير الإدارة الجديدة قبل أي تخفيف أوسع للعقوبات”.
  3. احترام الحقوق والحريات وضمان سيادة القانون: هناك تخوف دولي من توجه الإدارة السورية الجديدة وخاصة فيما يتعلق بالحقوق والحريات العامة وكذا وضع الأقليات في سورية. وعلى الرغم من الرسائل التطمينية التي بعثها الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع للداخل والخارج بأنه لن يكون هناك عمليات انتقام أو تصفيات خارج القانون، وأنهم لن يسمحوا أو يتسامحوا مع أي جرائم وانتهاكات ذات طبيعة طائفيه إلا أن البعض قد استغل حالة الانفلات الأمني لارتكاب جرائم وتصفية حسابات شخصية، وقد ظلت الانتهاكات والجرائم تتزايد يوماً بعد آخر في ظل عدم قدرة الإدارة السورية على ضبطها وهو ما اُعتبر مؤشراً خطيراً يتطلب معه التأني وعدم الاندفاع، فأي رفع للعقوبات دون وجود ضمانات لاحترام الحقوق والحريات وتوفير حماية للسوريين وخاصة الأقليات مثل الشيعة والدروز والعلويين من أعمال الانتقام التي تحدث بحقهم من قبل محسوبين أو أشخاص يدعون انتمائهم لهيئة تحرير الشام والفصائل التابعة والحليفة لها. كما أن وزيرة الخارجية الألمانية ربطت تقديم الدعم للإدارة السورية الجديدة بما في ذلك رفع العقوبات بمدى التقدم الذي تحققه الإدارة السورية في احترام الحقوق والحريات وتوفير الحماية الضرورية لحقوق الأقليات في سورية. في تاريخ 12 مارس/آذار 2025 وبعد تقارير عن انتهاكات جسيمة ارتكبتها قوات محسوبة على الإدارة السورية الجديدة عليى نطاق صادم بحق سوريين اغلبهم من الفئة العلوية في مناطق الساحل السوري، تضمنت اعدامات ميدانية واختطافات واطلاق نار عشوائي خلفت مئات القتلى،  نادى نيكولاس فارانتوريس – عضو لجنة الدفاع والأمن في البرلمان الأوروبي – من خلال منشور على صفحته في موقع “X”  الاتحاد الأوروبي والحكومة اليونانية الى اتخاذ إجراءات، مؤكداً ان العقوبات رفعات وفقاً لتعهدات باحترام حقوق الإنسان والديمقراطية في سوريا، وهو الذي لم يتم بحسب فارانتوريس.[12]
  4. العقوبات باعتبارها بطاقة قوة وحيدة بيد الغرب للتأثير في السياسة السورية: لطالما كانت سورية حليفة رئيسية ومهمة للمعسكر الشرقي ممثلاً بروسيا والصين وإيران، وبالتالي فالمصالح التي تربط الغرب بسورية هي بحدها الأدنى سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية وهو ما انعكس على محدودية الدول الغربية في التأثير والضغط على النظام السوري طيلة العقود الماضية، وتبقى العقوبات الورقة الوحيدة التي يستطيع الغرب أن يفاوض بها ويستخدمها لمحاولة استمالة سورية إلى المعسكر الغربي او على الأقل تحييدها وإنهاء التهديد الذي قد تشكله سورية على مصالحهم، وهو ما يشرح سبب البطء والرفع المؤقت للعقوبات والاشتراطات الكثيرة الأخرى التي يضعها الغرب أمام رفع العقوبات على سورية، فهم ليسوا مستعدين لخسارة البطاقة الوحيدة التي يمتلكونها للتأثير على السياسية المستقبلية في سورية، خاصة مع قرار الإدارة السورية على إبقاء المعسكرات الروسية في سورية والاتصال الأخير بين الرئيس احمد الشرع والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي وصفه الشرع بانه يؤكد على “الإستراتيجيات الوطيدة” التي تربط البلدين. [13]

هذه المطالب والمخاوف لا تنطلق فقط من الحرص على سورية والسوريين، بل من مصالح استراتيجية وأمن قومي للدول الغربية التي تخشى تحول سورية إلى خطر عليها بأي شكل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان الدول الغربية تريد باختصار وبشكل واضح أن يكون هناك دولة للسوريين يستطيعون من خلالها إعادة اللاجئين وأن يتخلصوا من عبء وتكاليف ومخاطر استضافة الملايين من السوريين، لكنهم وطالما أنهم لا يستطيعون تبني سياسة العودة القسرية التي تعد انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي، فإن الخيار أمامهم في دعم بناء دولة مستقرة تجذب اللاجئين السوريين وعودتهم الطوعية الى سورية، بالإضافة إلى رغبتهم في الإبقاء على ورقة فاعلة يستطيعون من خلالها المشاركة في رسم السياسة المستقبلية لسورية وضمان أن تكون سورية منفتحة للمعسكر الغربي أكثر من ذي قبل.

كيف يمكن للإدارة الجديدة أن تدفع باتجاه رفع العقوبات؟

لا يوجد جدال حول أهمية رفع العقوبات بشكل فوري وعاجل، فالسوريون اليوم في أمس الحاجة لأن يلتقطوا أنفاسهم بعد 13 سنة من الحصار المطبق والعقوبات التي وصلت إلى كل مجالات حياتهم. بل وتعتبر العقوبات اليوم أحد أهم وأكبر العوائق ليس فقط أمام عملية التنمية وإعادة الإعمار في سورية فقط، بل وفي ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار وهو ما أشار اليه الرئيس احمد الشرع في تصريحه تعقيباً على احداث الساحل السوري والذي اكد فيه ان العقوبات المفروضة على سورية تعرقل قدرة حكومته على ضبط الأمن وإعادة الاستقرار. لكن كيف يمكن للإدارة السورية تحقيق ذلك؟

إن تبديد مخاوف الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وتلبية مطالبهم، وقبل ذلك مخاوف السوريين أنفسهم وتطلعاتهم في سورية حرة وديمقراطية يتشارك جميع أبنائها في تقرير حياتهم والعيش في امان وكرامة هو ضرورة لرفع العقوبات بشكل كامل عن سورية. وبالنسبة للغرب فإن العقوبات هي الورقة الوحيدة تقريباً التي يمتلكونها في التأثير على الإدارة السورية الجديدة وسياساتها، وضمان عدم تحولها إلى مصدر خطر أو تهديد لمصالحهم وأمنهم القومي وبالتالي لن يتخلوا عنها بسهولة. خاصة في ظل حكم اللون الواحد وعدم وجود مسار سياسي ديمقراطي واضح يمكن الاعتماد عليه في ضمان المصالح الجيوسياسية المتبادلة.

بالتالي ولرفع العقوبات عن سورية، فعلى الحكومة السورية أن تراعي التالي:

  1. إدارة التوازنات الإقليمية وعلاقات سورية بدول المنطقة والعالم، بما في ذلك كسر هيمنة المعسكر الشرقي على سورية والانفتاح على المعسكر الغربي وفق استراتيجية تضمن مصالح سورية والعالم، وبالشكل الذي لا يفرض نوع جديد من هيمنة القطب الواحد على القرار والسياسة السورية. بالإضافة إلى أهمية بناء علاقات استراتيجية قائمة على احترام السيادة والمصالح المتبادلة مع دول الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والذي كان سمة رئيسية للنظام السوري على مدى عقود من الزمن، وإدارة العلاقات بما فيها السياسية والاقتصادية بما يخدم السوريين ويحقق المصلحة العليا لسوريا فقط.
  2. توفير بيئة آمنة ومشجعة لعودة اللاجئين السوريين: كما أشرنا سابقاً، فإن استمرار تدفق اللاجئين الى أوروبا والضغط الهائل الذي شكله ملايين اللاجئين السوريين على اقتصاديات تلك الدول كاد ان يدفعها الى التطبيع مع نظام الأسد أملاً في التخلص من هذه المشكلة التي أرقتهم، فلولا أن سقوط النظام السابق بشكل مفاجئ حال دون ذلك، وبالتالي فان تهيئة الظروف لعودة هؤلاء اللاجئين وربطها برفع العقوبات وإعادة الاعمار هي إحدى الرسائل الهامة التي يجب أن تبعثها الإدارة الجديدة باعتبار أن ذلك سيخدم مصالح كل الأطراف.
  3.  تبني سياسة أكثر شمولية من خلال تمثيل وإشراك مختلف فئات المجتمع دون استبعاد أو إقصاء أي مكون، وليس بالضرورة أن يكون ذلك من خلال المحاصصة، بل يمكن تحقيقه من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط (كفاءات) وتجنب التعيينات الجدلية خاصة لأولئك المتورطين أو المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والتي يستقبلها المجتمع الدولي كرسائل سلبية.
  4. إحياء العملية السياسية في سورية وتسريع الانتقال السلمي والسلس للسلطة بما يضمن مشاركة مختلف المكونات السورية، وكذا إتاحة المجال لتشكل الأحزاب السياسية وأن تنشط بشكل فاعل وتمارس عملها في الحكم أو في المعارضة بحرية، وهذه هي الرسالة الأبرز التي يجب أن ترسلها الإدارة الحالية لتبديد مخاوف الغرب والضامن للمصالح الجيوسياسية لسورية والدول الأخرى.
  5. ترجمة وعود الإدارة السورية باحترام الحقوق والحريات وحماية الأقليات إلى واقع من خلال اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لضمان سيادة القانون ووقف الانتهاكات والجرائم التي تحدث في العديد من المناطق، خاصة من قبل أولئك الذين يدعون انتمائهم لهيئة تحرير الشام أو الجيش الوطني السوري أو غيرها من الفصائل، واتخاذ إجراءات صارمة لمسائلة ومحاسبة كل المتورطين بانتهاكات او عمليات انتقام او اعدام خارج القانون بما يساهم في إعادة ثقة السوريين بمختلف انتماءاتهم بالدولة السورية الجديدة، وكذا ثقة المجتمع الدولي.

خاتمة

إن رفع العقوبات أمر بالغ الأهمية لتعافي سورية، لكنه يتطلب جهودًا كبيرة من الإدارة الجديدة لمعالجة المخاوف الغربية. ورغم أن شروط الغرب تستند إلى مخاوف ومطالب تتعلق باللاجئين، حقوق الإنسان والانتقال السياسي، إلا أن السياق الجيوسياسي الأوسع والصراع بين المعسكر الشرقي والغربي لا يمكن تجاهله في السياق السوري. حيث يجب على الإدارة الجديدة أن تتعامل بحذر مع هذه التعقيدات، عبر الموازنة بين الأولويات المحلية والتوقعات الدولية.

في النهاية، يعتمد مستقبل سورية على قدرة قادتها على بناء دولة شاملة، ديمقراطية، تحترم الحقوق بكل أشكالها. ومن جانبها، يجب على الغرب أن يعرف أن مصلحته تكمن في دعم هذه العملية من خلال رفع العقوبات وتقديم المساعدات اللازمة لإعادة الإعمار والتنمية، والذي لن يتحقق إلا من خلال جهد تعاوني يمكن لسورية أن تتجاوز أزمتها الحالية وتتجه نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.


[1] State.gov. “Caesar Syria Civilian Protection Act – Translations,” 2017. https://2017-2021-translations.state.gov/2020/06/17/caesar-syria-civilian-protection-act/.

[2] Carnegie Endowment for International Peace. “Border Traffic: How Syria Uses Captagon to Gain Leverage over Saudi Arabia,” 2024. https://carnegieendowment.org/research/2024/07/border-traffic-how-syria-uses-captagon-to-gain-leverage-over-saudi-arabia?lang=en.

[3] المشهد. 2024. “بزشكيان: نخطط لاستعادة الحوار مع الغرب – المشهد.” قناة ومنصة المشهد. المشهد. https://shorturl.at/wlwEV

[4]DW، “, ثماني دول أوروبية تدعو لإعادة النظر في العلاقة مع دمشق”، يوليو/تموز 22، 2024. https://shorturl.at/lWipD

[5] SLDP, لمحة مختصرة عن بعض انظمة العقوبات المفروضة على سوريا، 19 مارس/آذار 2020. https://shorturl.at/xEH7d

[6] سكاي نيوز عربية. “ما هي الإعفاءات التي أقرّتها أميركا للعقوبات على سوريا؟.” سكاي نيوز عربية. https://shorturl.at/EYT0r

[7] RT Arabic. “البيت الأبيض: ترامب يحتفظ بالحق في دراسة خيار سحب القوات الأمريكية من سوريا.” RT Arabic, January 31, 2025.  https://shorturl.at/YNUNb

[8] فرانس24. “الولايات المتحدة تعلن تصفية قيادي رفيع في تنظيم تابع للقاعدة في سوريا.” فرانس 24 February 17,  2025. https://f24.my/Ax6b  

[9] SLDP, لمحة مختصرة عن بعض انظمة العقوبات المفروضة على سوريا، 19 مارس/آذار 2020. https://shorturl.at/xEH7d

[10] الجزيرة نت. “الاتحاد الأوروبي يعلق عقوبات مفروضة على سوريا.” الجزيرة نت, February 24, 2025. https://www.aljazeera.net/ebusiness/2025/2/24/eu-suspends-syria.  

[11] الجزيرة نت. “الاتحاد الأوروبي يعلق عقوبات مفروضة على سوريا.” الجزيرة نت, February 24, 2025. https://www.aljazeera.net/ebusiness/2025/2/24/eu-suspends-syria.

[12] Nikolas Farantouris,X, March 12, 2025, https://x.com/nfarantouris/status/1899397618049925568?s=46

[13] DW، “للمرة الأولى .. اتصال هاتفي بين أحمد الشرع وبوتين.”. Deutsche Welle, February 12, 2025. https://shorturl.at/FB3wF.

زر الذهاب إلى الأعلى