مأزق الساحل السوري

بإطلاق وزارة الدفاع السورية عملية أمنية في الساحل السوري اليوم عقب سلسلة من الكمائن التي نفذتها مجموعات من فلول النظام السابق، وأودت بحياة نحو 16 شخصًا من عناصر وزارة الدفاع، يظهر الاختبار الأمني الأهم لفرض إرادة وزارة الدفاع أمام الخارجين عن القانون في أرياف محافظتي اللاذقية وطرطوس، ومع تزاحم القضايا الضاغطة على وزارة الدفاع السورية، سواء في الساحل السوري وملاحقة فلول نظام الأسد لفرض الأمن والاستقرار، أو الحالة المعقدة في شمال شرق سوريا أمام قوات سوريا الديمقراطية وتراجع فرص التفاهم حول المرحلة المقبلة، بالإضافة للتطورات العسكرية الإسرائيلية في القنيطرة، وحالة عدم الانسجام مع الطائفة الدرزية في الجنوب السوري؛ يظهر مأزق الساحل السوري تعبيرًا عن اختبار جاد قد يُبنى عليه حيثيات المشهد القادم، وطبيعة العلاقة مع الأطراف والمكونات الأخرى داخل سوريا.
بالرغم من حجم التطمينات الكبيرة التي قدمتها الرئاسة السورية الجديدة لمكوناتها ومحيطها والمجتمع الدولي حول المرحلة المقبلة، وحدوث انفراجه واضحة في المسألة السورية التي استنزفت الشرق الأوسط والسياسة الدولية لنحو عقد ونصف؛ إذ تتضح ملامح الانفراج بعدة مؤشرات ملموسة ويمكن قياسها، كالانفتاح السياسي الذي يظهره الساسة السوريون الجدد، والتعاطي مع مطالب دول جوار سوريا العسكرية والأمنية والسياسية، والبدء بخطوات تمهيدية تُظهر نوايا جادة للسير في عملية انتقالية لم تخلو من الانتقاداتبطبيعة الحال في تفاصيلها، ولكنها لم تكن مُتخيلة ما قبل سقوط نظام الأسد، بالإضافة للحملات الأمنية لملاحقة بقايا الجماعات الإرهابية، وشبكات الجريمة المنظمة وضبط كميات كبيرة من المخدرات المعدة للتهريب نحو الإقليم، ناهيك عن عودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين لبلدهم، والتوصل لاستثناءات مهمة من العقوبات الغربية المفروضة زمن النظام السابق، وبواكير تحسن الاقتصاد السوري بارتفاع سعر الصرف تباعًا، وجميعها مؤشرات تدل على تحسن المشهد في سوريا؛ إلا أن حجم التعقيدات والتحديات الجارية قد لا تعالج كلها بمنطق الحوار والتفاهم.
ففي الساحل السوري حيث تركزت مجموعات من بقايا مؤيدي النظام السوري السابق يُطلق عليهم فلول نظام الأسد، وحيث تنتمي تاريخيًا نخبة الهياكل العسكرية والأمنية التي ارتكزت عليها عائلة الأسد في الحكم لنصف قرن مضى؛ تحشدت هذه المجموعات في القرى الجبلية هربًا من العدالة الانتقالية التي يطالب بها الشعب السوري تبعًا لسنوات عانى فيها هذا الشعب من ويلات الحرب ووحشية النظام السابق؛ وتظهر الكمائن الأخيرة عدم اقتصار هذه المجموعات على الاختباء وتجنب المحاسبة فحسب، بل نحو التحرك لخلق الفوضى العسكرية والأمنية في المحافظتين، وهو ما يعني حجم وتوجهات هذه المجموعات المسلحة.
أمام هذه الحالة، قد يتحتم على وزارة الدفاع السورية السير بعمليات عسكرية مبررة بل قد تكون ضرورية، لاسيما أن التهاون أمام هذه المجموعات يُفضي لدلالات سلبية وقد تمهد لانتشار مثل هذه الكمائن والعمليات المضادة للوزارة الجديدة، ففي حين تسير وزارة الدفاع السورية على حبال مشدودة لتجنب التصادم مع المكونات الرئيسية في سوريا، ونزع فتيل الطائفية بعدم التسرع نحو اللجوء للقوة والعنف؛ إلا أنه وفيمثل هذه الحالات تصبح العمليات العسكرية والأمنية ضرورة لا مناص منها، وتصبح مشروعة لتجنب تداعيات سلبية قد تنتشر في عموم المحافظات السورية، ففي أبسط تعريفات النُظم السياسية تظهر القدرة على احتكار العنف على أرض الدولة، وانفاذ القانون أو فرض الاستقرار على الأقل.
بذلك، يظهر حجم التعقيد الذي تواجهه الرئاسة الانتقالية السورية ولا سيما في الجانب الأمني ومسؤوليات وزارة الدفاع، خاصة أن حجم التسريبات الذي بات يتكشف مؤخرًا عن وجود اتصالات إسرائيلية – روسية ترتبط بالوجود العسكري الروسي في سوريا كبديل مفضل عن تركيا في الرؤية الإسرائيلية لسوريا الجديدة “الهشة”، وهو ما قد يعني أن التطورات الأخيرة لا تقتصر فقط حول المشهد المحلي وفلول النظام؛ بل تتعداه نحو توازنات جيوسياسية إقليمية ودولية قد تتطلب جهودًا مقابلة تتجاوز قدرة السلطة الجديدة في دمشق، وتتطلب جهود تعاونية عربية تركية – غربية أمام هذا المشهد ومطامع الأطراف الأخرى في سوريا.
في هذا السياق، تبرز أهمية رفع وتيرة التفاهم والتنسيق بين الأطراف الداعمة لسوريا الجديدة، بهدف مجاراة التحديات التي تواجهها على أرضها، خاصة أن مثل هذه الفرص الجيوسياسية في الإقليم قد لا تتكرر، ففي الوقت الذي لطالما تموضع نظام الأسد بسوريا خارج العمق العربي خاصة في المنعطفات التاريخية؛ أظهر الحضور الجديد للرئيس الانتقالي أحمد الشرع درجة من التفاؤل العربي بعودة سوريا كدولة عربية أمام التعقيدات الإقليمية، وهو ما ينبغي البناء عليه.