لبنان على مفترق نزع السلاح: الورقة الأميركية واختبار التوازنات الداخلية والإقليمية

في مرحلة تتسم بتبدلات إقليمية دقيقة، وتوازنات هشة داخل لبنان، جاءت الورقة الأميركية التي حملها المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا ولبنان، توماس باراك، لتدفع بالملف اللبناني إلى صدارة المشهد مجددًا. فبعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، وبدء محاولات أميركية لرسم مرحلة ما بعد المواجهة، تَحوّل لبنان إلى ساحة اختبار لنموذج جديد من الترتيبات الأمنية والسياسية. وفي صلب هذا النموذج، تقف مسألة حصر السلاح بيد الدولة بوصفها أولوية مطلقة، وربما بوابة إلزامية لأي مسار اقتصادي أو إنمائي جديد.

الوثيقة التي سلّمها باراك إلى القيادات اللبنانية حملت عنوانًا واضحًا؛ إنهاء وضع السلاح خارج إطار الدولة، ضمن آلية متدرجة تنتهي في أكتوبر/تشرين الثاني، وتبدأ بخطوة لبنانية فورية تقضي بإقرار حصرية السلاح في مجلس الوزراء. ما هو مطروح يتجاوز الرغبات التفاوضية التقليدية، إذ يتكئ على تغير في المزاج الدولي، وعلى مقاربة أمنية – سياسية شاملة تستند إلى مبدأ “الخطوة مقابل الخطوة”، أي الانسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلة مقابل تفكيك منظومة السلاح، وصولاً إلى إعادة الإعمار.

والورقة التي تمت مناقشتها في بيروت تتضمن مراحل تنفيذية مُحكمة، تبدأ أولاً بإقرار مبدأ حصرية السلاح في المؤسسات الرسمية، وتليها خطوات ميدانية تشمل نشر الجيش اللبناني جنوبًا، وضمان مراقبة دولية للانسحابات الإسرائيلية. يُفترض أن يؤدي التزام لبنان بهذه الخطة إلى فتح أبواب الدعم المالي الدولي، وإطلاق آلية لإعادة إعمار المناطق المتضررة، والإفراج عن المعتقلين. يُفهم من مضمون الورقة أن الجانب الأميركي لا يطلب تفكيكًا فوريًّا، بل دخولًا تدريجيًّا ومدروسًا في عملية نزع السلاح، شرط أن تُرفَق بخطوات سياسية – قانونية تؤكد التزام الدولة بالمسار.

لكن الورقة لا تقف عند حدود لبنان، بل هي أيضًا مقترح لربط الساحة اللبنانية بمسار إقليمي أكثر اتساعًا، يشمل سوريا وملف الحدود معها، كما يفتح باب التنسيق مع قوى عربية أخرى، خصوصًا دول الخليج، وخاصة أن لبنان الرسمي يعول على السعودية وباقي الدول الخليجية في ملف إعادة الإعمار أو عودة الاستثمارات الخليجية للبنان، وفي خلفية هذا الربط، يظهر سعي واشنطن إلى إنهاء وظيفة حزب الله كعامل إقليمي فاعل، عبر إدخال حزب الله في تسوية تُجرده تدريجيًّا من أدوات التأثير الميداني.

أما الموقف اللبناني الرسمي وأمام حجم الطرح الأميركي، فقد تحركت الدولة اللبنانية ضمن لجنة ثلاثية، تضم ممثلين عن رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام، لصوغ رد موحد يأخذ بالاعتبار التوازنات الداخلية الدقيقة. النقاشات التي دارت في القصر الجمهوري تركّزت على ضرورة تجنب أي التزام صريح قد يؤدي إلى انفجار سياسي داخلي، وفي الوقت نفسه تقديم موقف جدي يُظهر نية الدولة في الانخراط في عملية تفاوضية منتجة.

ما جرى حتى الآن لا يوحي برغبة رسمية في المواجهة مع الطرح الأميركي، لكنه لا يعكس أيضاً قدرة على الذهاب في اتجاه الالتزام الكامل. فالموقف الرسمي اللبناني يسعى إلى مقاربة مرنة؛ تثبيت خيار الدولة، ولكن مع ربط التنفيذ بخطوات مقابلة واضحة من الجانب الإسرائيلي. ويتم تداول أفكار تقضي بأن تُدرج حصرية السلاح ضمن بيان سياسي يصدر عن مجلس الوزراء، من دون التطرق مباشرة إلى تنفيذ أو توقيت، وهو ما يُفهم كمحاولة للالتفاف التكتيكي على شرط التوقيع الثلاثي الذي طلبته واشنطن.

فيما يتعلق موقف حزب الله، فلا يبدو ملتبسًا؛ فالرد الصريح الذي عبّر عنه نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم لم يترك مجالاً للتأويل أو الاجتهاد. الحزب يرفض بشكل قاطع أي نقاش في مسألة نزع سلاحه خارج إطار التفاهم اللبناني الشامل، ويعتبر أن الحديث عن تسليم السلاح قبل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة يُعد إخلالاً جوهريًّا بتوازن الردع الذي أُرسِي خلال العقود الماضية.

النقطة المركزية في موقف حزب الله تكمن في أنه لا يرفض، من حيث المبدأ، فكرة الحوار حول مستقبل سلاحه، لكنه يربط ذلك بوجود بيئة سياسية وأمنية مختلفة تمامًا. فالحزب يشترط انسحابًا إسرائيليًّا كاملاً من الأراضي المحتلة، وقفًا نهائيًّا للاعتداءات والخروقات، إطلاقًا للأسرى، وتوفير ضمانات فعلية بأن الدولة اللبنانية قادرة على تحمّل أعباء الدفاع الوطني. من هذا المنطلق، يواصل الحزب سياسة التريث في إعلان أي موقف تفصيلي، مفضّلاً إدارة النقاش بهدوء ضمن المؤسسات الرسمية، بعيدًا عن السجالات العلنية والمواقف الإعلامية التصادمية.

وفي هذا السياق، يرفض حزب الله المقترحات التي حملها المبعوث الأميركي توماس باراك، خصوصًا تلك التي تحدد مهلاً زمنية لسحب السلاح، معتبرًا أنها تتعامل مع لبنان بمنطق الوصاية وتستهدف عناصر قوته الدفاعية في ظل استمرار التهديدات الإسرائيلية والضغوط السورية.

وتشير المعلومات إلى أن الحزب يعكف حاليًّا على إعداد ورقة مقترحات مضادة، تستند إلى معادلة واضحة؛ التزامه الكامل باتفاق وقف إطلاق النار، وتسليمه بالفعل منطقة جنوب الليطاني إلى الجيش اللبناني، مقابل سلسلة مطالب يراها غير قابلة للتنازل، أبرزها؛ الانسحاب الإسرائيلي الكامل، وقف الخروقات بجميع أشكالها، إطلاق سراح الأسرى، والسماح بإطلاق ورشة إعادة إعمار فعلية من خلال إنشاء صندوق دعم دولي.

بذلك، يسعى “حزب الله” للتهرّب من أي نقاش مباشر حول سلاحه شمال الليطاني، عبر الدفع بالملف إلى إطار حوار وطني شامل برعاية رئيس الجمهورية جوزيف عون، تحت عنوان “استراتيجية دفاعية”. حيث يربط الحزب مصير سلاحه بورشة سياسية طويلة ومعقدة، ما يتيح له كسب الوقت بانتظار التطورات الإقليمية، خصوصاً في مسار التفاوض الأميركي–الإيراني، وهو ما قد يُفرغ الضغوط الدولية من مضمونها بتحويلها إلى خلاف داخلي مؤجل.

وبينما يترقب حزب الله الموقف الرسمي اللبناني المرتقب من الورقة الأميركية، يتعامل بقدر عالٍ من التروّي، متحسبًا في الوقت نفسه لاحتمال تصعيد عسكري إسرائيلي متزايد للضغط عليه. وهو يسعى للترويج أنه سينسحب من الحكومة اذا ما جرى إقرار الرد الرسمي على الورقة من دون التشاور معه، ما قد يفتح الباب أمام أزمة سياسية عميقة في البلاد.

إسرائيليًّا،يبدو أن حكومة نتنياهو تتعاطى مع الورقة الأميركية بوصفها غطاءً لتحرك ميداني تصعيدي. عمليات الاغتيال التي استهدفت كوادر أمنية وشخصيات مالية قريبة من الحزب، تنبئ باستراتيجية مزدوجة؛ خلط أوراق الردع، وتوجيه رسائل بأن التسويف اللبناني ستكون كلفته عالية. الحديث عن استمرار الضربات الجوية، والتهديد باستهداف بنى تحتية داخل العمق اللبناني، يعكس قرارًا إسرائيليًّا بالضغط لا لفتح الجبهات، بل لتحسين شروط التفاوض.

إسرائيل لا تُبدي استعدادًا للانسحاب من النقاط المحتلة من دون مقابل. هي تقرأ الورقة الأميركية كمدخل لتصفية البنية العسكرية لحزب الله في الداخل، وتعتبر أن أي تراجع دون نزع السلاح سيبقي لبنان منصة تهديد. بهذا المعنى، فإن الموقف الإسرائيلي لا ينفصل عن رغبة بفرض معادلة إقليمية جديدة، لا يكون فيها أي تنظيم مسلح خارج سلطة الدولة، ولو أدى ذلك إلى إعادة إشعال الاشتباك العسكري بشكل محدود أو موضعي.

في البعد السوري، ومن بين البنود غير المعلنة في الطرح الأميركي، تبرز سوريا كعنصر أساسي في المعادلة. فترسيم الحدود اللبنانية – السورية، وتسوية وضع مزارع شبعا، وإطلاق تعاون اقتصادي محدود بين بيروت ودمشق، كلها خطوات مطلوبة في مسار التهدئة. يظهر من طبيعة هذه الطروحات أن المقاربة الدولية الجديدة تعتبر أن حلّ المعضلة اللبنانية يتطلب معالجة جوانبها الحدودية والأمنية، بما يشمل العلاقة مع الجوار، لا سيما في ظل تسريبات عن دور مستقبلي للقوات الدولية في مراقبة الحدود الشرقية.

كل ذلك يجري في وقت تشهد فيه العلاقة اللبنانية – السورية نوعًا من التحفظ المتبادل، ما يجعل إدخال سوريا في التسوية أمرًا غير مضمون، لا سيما أن التوازنات الداخلية في لبنان لا تسمح باتخاذ قرارات في هذا الشأن دون توافق عريض. ومع ذلك، فإن تسوية ملف الحدود تبقى شرطًا ضمنيًّا لتقدم أي مسار تفاوضي مع واشنطن، خصوصًا في ضوء الطرح المتداول بشأن ضمّ مزارع شبعا إلى المفاوضات النهائية.

ما يتبدّى من مواقف مختلف الأطراف أن المسار التفاوضي المتوقع لن يكون مباشرًا ولا سلسًا. الدولة اللبنانية تحاول كسب الوقت من خلال الإيحاء بالإيجابية المشروطة، فيما الحزب يحتفظ بموقعه كمراقب ضاغط من خارج الطاولة. في المقابل، الجانب الأميركي يواصل تثبيت مبدأ أن لا مساعدة مالية من دون خطوات عملية، ولا إعادة إدماج للبنان في النظام الإقليمي من دون تسليم السلاح.

من هنا، يُفهم الإصرار على صيغة “خطوة مقابل خطوة” بوصفها جوهر المرحلة المقبلة، أي تقليص تدريجي لدور حزب الله، مقابل إعادة التموضع العربي والدولي داخل لبنان. لكن المعضلة تكمن في أن أي مسار من هذا النوع يتطلب توافر قدر كبير من الثقة السياسية الداخلية، وهي ثقة غائبة منذ سنوات، نتيجة الانقسامات الحادة وانعدام التوافق الوطني.

ومع عودة باراك المرتقبة إلى بيروت، سيكون لبنان أمام مفترق حاسم. أي رد رسمي لا يأخذ في الاعتبار توازنات الداخل قد يُفجّر الوضع السياسي، وأي مماطلة مكشوفة قد تُقابل برفع الغطاء المالي والسياسي عن الدولة. السيناريو الواقعي يتجه نحو إنتاج ورقة لبنانية تفتح الباب للنقاش التدريجي، من دون تقديم التزامات صارمة، لكنها تُبقي لبنان ضمن الهوامش المقبولة إقليميًّا ودوليًّا.

كل ما جرى ويجري يشير إلى أن مرحلة ما بعد الحرب بين إسرائيل ولبنان لم تنتهِ، بل انتقلت إلى ميادين سياسية. والورقة الأميركية تمثل الإطار السياسي الجديد لهذه المواجهة. السؤال لم يعد ما إذا كان لبنان سينخرط في هذا المسار، بل متى، وبأي شروط، وبأي كلفة.

زر الذهاب إلى الأعلى