قمّة بغداد… تُعقد في ظرف عراقيّ داخليّ معقّد

تستعد بغداد إذًا، يوم غد السبت، وبعد زيارة حافلة قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى المنطقة، لاستضافة القمة العربية الرابعة والثلاثين، “في لحظة استثنائية تمرّ بها منطقتنا، لحظة تحوّلات كبرى، وصراعات مفتوحة، وتحديات إقليمية مركبة” كما يصفها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي يسعى جاهدًا لإنجاح هذه القمة لاعتبارات عديدة، بالتزامن مع المفاوضات النووية التي تستضيفها مسقط بين واشنطن وطهران.
لا ينفصل المشهد العراقي عن واقع تلك اللحظات التي تحدث عنها رئيس الوزراء، بل يمكن القول إنه يعيش في قلبها ويخشى بعضًا من مآلاتها وتداعياتها، بعد عدة أحداث عصفت وماتزال تعصف في المنطقة، بدءًا من الحرب على غزة، مرورًا بتفكيك منظومة حزب الله واغتيال أمينه العام حسن نصر الله، وليس انتهاءً بالصدمة المتمثلة بسقوط نظام الأسد وتولي سلطة جديدة تقلق العديد من الأطراف في بغداد رغم أنها -سوريا- تحظى اليوم برعاية إقليمية حثيثة وانفتاح دولي متقدم إلى حد كبير.
صاحبَ القمة جدل كبير وصاخب داخل الأوساط العراقية وتحديدًا تلك المتعلقة بحضور رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، بين من يدعو إلى التكيف والتعامل مع واقع جديد وإعادة تعريف المصالح العراقية عبر تعزيز التفاهمات التي تتجاوز الإطار الأمني ليرقى إلى السياسي والاقتصادي، وبين من يتهم الشرع بتورطه في الدم العراقي خلال وجوده في السنوات الأولى من الاحتلال الأمريكي على العراق، وبالتالي تدعو هذه القوى إلى التروي وعدم الاندفاع للانخراط بشكل فعّال سياسيًّا، وأن التمثيل السوري في القمة لا ينبغي أن يكون على مستوى القمة، وأن تكتفي بغداد بحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بل إن هنالك من طالب أن يقتصر حضور دمشق على مستوى سفيرها فقط. جدير بالإشارة أن قرار الشرع، في حال عدم الحضور، قد يكون نابعًا من إدراكه لضرورة ألا يكون عنصر تأزيم في الداخل العراقي، خاصة إذا ما أرادت الإدارة الجديدة بدمشق الانتقال من مستوى التفاهم إلى مستوى الشراكة مع بغداد على مختلف الأصعدة، ويمكن ملاحظة ذلك في خطاب الرئيس السوري الذي لم يغفل فيه عن شكر رئيس الوزراء العراقي، وحرصه على استئناف العلاقات التجارية بين البلدين.
بعيدًا عن حقيقة تلك الاتهامات للشرع بل ما وراء إطلاق تلك الاتهامات، إلا أنها تعبر بطبيعة الحال عن واحدة من أعقد الإشكاليات التي يعاني منها العراق بعد 2003، وهي غياب تصور استراتيجي واضح وموحد للمصالح الوطنية العراقية العليا من قبل الأحزاب في العملية السياسية وخاصة الحاكمة منها، إلى جانب تغليب المصالح الذاتية على المصالح العراقية، وهو ما يظهر جليًّا في طريقة الاستجابة للتغيير الجذري الذي شهدته سوريا في 08 ديسمبر/كانون الأول 2024، أو حتى ما عاشه العراق في السنة الأولى من الحرب على غزة، رغم الجهود المضنية التي يبذلها رئيس الوزراء لضبط سلوك جميع الأطراف، وتحقيق التوازن في دور العراق الإقليمي.
يمكن القول، إن الحسابات الانتخابية حاضرة وبقوة في هذه القمة، إذ يسعى رئيس الوزراء الذي اكتسب زخمًا داخليًا، بعد أن وسّع نطاق التوظيف في القطاع العام مستفيدًا من أسعار النفط رغم التحذيرات من التضخم الحاصل في القطاع، إلى أن يحظى بدعم إقليمي يمكّنه من الظفر بولاية ثانية، عبر إظهار العراق كطرف مندمج في العمل والرؤى الإقليمية بعدة ملفات ويدير بتوازن العلاقة بين بغداد وطهران وبغداد ومحيطها العربي، في حين يخشى خصوم السوداني السياسيون وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وأمين عام عصائب اهل الحق قيس الخزعلي، من طموح رئيس الوزراء الحالي، وهو لربما ما سيفسر أيضًا الأسباب التي تقف وراء رفض الطرفين تحديدًا (المالكي والخزعلي) حضور الشرع إلى بغداد وتحشيد الرأي العام ضد الإدارة الجديدة في دمشق وضد رئيس الوزراء العراقي الذي يُتهم بأنه لا يفي بالتزامات التحالف الحاكم “الإطار التنسيقي الشيعي”، في حين أن معالم الانقسام داخل الإطار تتضح كلما اقترب العراق من موعد الانتخابات والتي من المزمع عقدها في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
أمام ما ذُكر، لا يمكن تجاهل الفاعل الإيراني في العراق، والذي حاول إيصال رسائله عبر الزيارة التي قام بها إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الإيراني، والتي تأتي قبيل عقد القمة بأيام وبالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي في المنطقة. أيًّا كانت الأهداف المعلنة لهذه الزيارة، فليس سرًّا أن طهران اليوم أحرص من أي وقت مضى على إبقاء وتثبيت نفوذها في العراق بعد الخسارات الاستراتيجية التي مُنيت بها في المنطقة في الآونة، إلى جانب ما يمثله العراق من أهمية جيواستراتيجية لنفوذها الإقليمي وبقائها كقوة فاعلة في المنطقة، بخلاف كافة المواقع والميادين الأخرى التي تنتمي إلى المحور الذي تنضوي تحت مشروعها، فأي اضطراب لا يعكس مصالح إيران يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
ختامًا، تشكل القمة العربية واحدة من الفرص المهمة بالنسبة للعراق، لتعزيز علاقاته العربية، والتأكيد على أنه جزء من المحيط العربي والجهود الإقليمية الرامية نحو تحقيق الاستقرار. إلى جانب ذلك، ووفقًا للحسابات الداخلية، فإن معيار النجاح الأساسي للقمة بالنسبة لرئيس الوزراء هو مستوى التمثيل الدبلوماسي للدول المشاركة والتي ستمثل بالنسبة له رسالة انتخابية تتجاوز لربما أهميتها المخرجات من القرارات أو المبادرات التي ستصدر عن القمة. لكن تبقى الإشكالية الرئيسية الحاضرة في العراق، في ضعف الإدراك السياسي للقوى الفاعلة للمصالح العراقية العليا، وتغليب اعتبارات الأحزاب السياسية والانتخابية والفصائلية على منطق الدولة واعتباراتها سواء في الحكم أو في العمل السياسي بشكل عام، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على السياسة الخارجية وحضور العراق الإقليمي والدولي.