صعود هيئة تحرير الشام ومستقبل الإسلام السياسي
ثلاث ملاحظات رئيسية

نُشرت هذه المادة، في العدد الثالث من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع JPS.
وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سورية، وتسمية زعيم هذا الفصيل السلفي الجهادي (سابقاً) المسلّح رئيساً لسورية، وما حظي به من اعتراف إقليمي ودولي، يمثل ذلك تجربة مهمة ومختلفة بصورة كبيرة عما شهده العالم العربي، منذ مرحلة ما بعد الاستعمار وظهور الدولة ما بعد الكولنيالية في العالم العربي، وقد يكون نقطة تحول في مسار الإسلام السياسي ليس فقط في سورية، بل في العديد من الدول العربية، لا سيما أنّ هذا التطوّر النوعي يتزامن ويتوازى مع تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة وما قد تؤول إليه من نتائج استراتيجية على صعيد الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة، التي تمثّل خطاً أيديولوجياً وسياسياً مختلفاً بدرجة كبيرة عن النموذج الذي تقدمه حركة هيئة تحرير الشام، مثل حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان.
في هذا المقال سنناقش دلالات وصول الهيئة وقائدها أحمد الشرع إلى الحكم في سورية، والأسئلة المتعلقة بالمرحلة القادمة وسلوك الهيئة وتأثير ذلك على الإسلام السياسي المحلي في سورية، وعلى صعيد مستقبل الحركات الإسلامية في المنطقة العربية بصورة عامة؛ وسنحاول الاقتراب من أسئلة رئيسية؛ ما هي النتائج والتداعيات المرتبطة بوصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سورية وتسمية قائدها أحمد الشرع رئيساً للنظام السوري على صعيد النماذج المطروحة في الإسلام السياسي؟ ما هي النتائج المترتبة على الإسلام السياسي بشكل عام في سورية؟ كيف أثر تزامن هذا التحول مع الحرب على غزة على مستقبل الإسلام السياسي واتجاهاته في المرحلة القادمة..
يتأسس هذا المقال على فرضية “العدوى” الإقليمية في عمليات الانتقال أو التحول السياسي Regional Contagion ، وهي التي يمكن أن نطلق عليها أيضاً مفهوم الموجة (أسوة بكتاب صموئيل هانتنجتون الشهير “الموجه الثالثة: التحول الديمقراطي في آواخر القرن العشرين)، فإذا وضنعا ثلاثة تحولات رئيسية: انهيار نظام الأسد وحكم الجهاديين السابقين، حركة حماس ما بعد الحرب على غزة، تراجع حلف الممانعة ومستقبل حزب الله، فإنّ هذا قد يشكّل نقطة تحول أو بداية لتشكل أفكار أو تيارات فكرية، صعود وهبوط بعض الاتجاهات وتحولات في سوسيولوجيا الحركات الإسلامية بصورة عامة.
على الجهة المقابلة فإنّ هذه الأحداث المهمة على صعيد الإسلام السياسي تتزامن مع تراجع الحالة الديمقراطية في العالم العربي عموماً، وتأتي بعد مرحلة الربيع العربي 2011، التي أدت إلى وصول إسلاميين إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ثم خسارتهم لها عبر تدخل الجيش، كما حدث في مصر في العام 2013، أو عبر انتخابات جاءت برئيس جديد في تونس، قيس بن سعيّد، أعاد الإسلاميين إلى مربع المنع والسجون، وتحولت النماذج اليمنية والليبية والسودانية نحو حروب داخلية وأهلية طاحنة، فيما يمكن أن نصفه بـ”الثورة المضادة” أو الهجمة المرتدة على الاحتجاجات التي أدت لمرحلة قصيرة لنشوء ديمقراطيات جديدة لم تعمّر طويلاً، وكانت القوى الإسلامية، التي تتبنى العمل الديمقراطي، فاعلاً رئيسياً فيها، وربما كانت هي الخاسر الأكبر كذلك بعدما تراجعت تلك الموجة من التحولات الديمقراطية.
إذاً في ضوء ذلك فإنّ السؤال المهم يكمن هنا: ما هي القناعات والإدراكات أو الخلاصات التي يمكن أن تتشكل لدى جيل كبير من الشباب الإسلامي في العديد من الدول العربية، بدايةً، من خلال مقارنة نجاح حركة “جهادية” اعتمدت العمل المسلّح في مواجهة النظام في الوصول إلى الحكم بينما تفشل الخيارات الإسلامية التي تعتمد الديمقراطية في العديد من الدول؟!
تحولات الشرع وهيئة تحرير الشام.. إلى أي مدى ستصل؟
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024 انتقلت هيئة تحرير الشام الحركة الجهادية- السلفية إلى مرحلة جديدة مختلفة بصورة كاملة عن المسار السابق لها، فبالرغم من أنّها كانت تحكم إدلب (التي تضم ما يقارب 3 ملايين إنسان) إلاّ أنّ ذلك لا يقارن بحكم مجتمع متنوع ومتعدد ودولة بحجم سورية أولاً وبموقعها الجغرافي ثانياً، وبتشابك الحرب الداخلية فيها خلال ما يقارب 13 عاماً مع أجندات إقليمية ودولية متعددة، بل إنّ أجزاءً واسعة كانت لفترات طويلة خارج نطاق سيطرة النظام ( خلال صعود تنظيم داعش ودولته 2014-2017)، وما تزال أجزاء من الدولة أيضاً تخضع لمنطق الفوضى الداخلية وتعدد السلطات والعلاقات الخارجية، وتخضع الدولة إلى عقوبات دولية اقتصادية قاسية جعلتها في أوضاع مالية واقتصادية وخدماتية في غاية السوء، مع نسب لاجئين ومهجّرين تكاد تصل إلى نصف السكان تقريباً[1].
أعلنت الحكومة الجديدة عن مرحلة انتقالية تستمر لبضع سنوات لتتمكن بعدها من إجراء انتخابات والدخول في عملية التحول السياسي، بالرغم من أنّ الإعلان الدستوري (الذي صدر في 13 آذار 2025) لم يتحدث صراحةً عن الديمقراطية، إلاّ أنّه يستبطن بالحدّ الأدنى نظاماً سياسياً مدنياً وسلمياً، ويتوافر على الشروط الدنيا المطلوبة لأي دولة حديثة تقوم على فكرة المواطنة والدستورية وتوزيع السلطات، وهذه جميعاً لا تدخل في الأصل في البنية الأيديولوجية للتيارات الجهادية عموماً.
لقد وجدت الهيئة نفسها ليس أمام استبدال نظام حالي سلطوي بنظام آخر، بل أمام مشكلة أكبر من ذلك بكثير تتمثّل بدولة في حالة من الانهيار والفوضى الداخلية والمشكلات الجذرية الاقتصادية وإرث نظام سلطوي استبدادي يستند إلى منطق طائفي وجغرافي، وخزينة مفلسفة وبيروقراطية متخضمة ونسب فقر مرتفعة جداً تصل إلى 90%، وأجهزة أمنية وعسكرية مفككة وضعيفة وفاسدة؛ وأجندة إسرائيلية توسعية تحاول استثمار الفرصة السانحة لضمان دولة ضعيفة محدودة عاجزة في الجوار؛ ذلك كلّه جعل العملية المنشودة إقرب إلى إعادة بناء الدولة والأمّة والهوية الوطنية منها لعملية تحول سياسي من نظام إلى آخر.
أظهرت الهيئة قدراً كبيراً من المرونة في التعامل مع هذه الاستحقاقات الخارجية والداخلية، وتجاوزت بدرجة كبيرة “البنية الأيديولوجية” للسلفية الجهادية، بل حتى للإسلام السياسي نفسه، في سياساتها الخارجية وعلاقاتها مع الدول العربية وتركيا من جهة، والسياسات الداخلية في التعامل مع التنوع الديني والطائفي والإثني الموجود في سورية، وتمكن النظام الجديد برئاسة رئيس هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، من مواجهة العديد من التحديات الداخلية والخارجية بكفاءة ملحوظة، بالرغم من قلة الخبرة السياسية لدى الهيئة، التي تأسست كجماعة قتالية ونضالية عسكرية لا كحزب سياسي.
ما تزال هنالك تحديات وصعوبات كبيرة تواجه استكمال عملية إعادة بناء الدولة والأمة، لكن المهم أنّ العامل الخارجي في جزء كبير منه، حتى الأميركي والعربي والتركي، باستثناء الإسرائيلي والإيراني، يدعم تأسيس وتعزيز المسار الجديد، ويساعد على تسريع هذه العملية ودعمها من خلال المساعدات الاقتصادية والمالية ورفع العقوبات وتدريب القوات الجديدة وربما لاحقاً المساهمة في تعزيز الاستثمار وفي عملية إعادة البناء، ودعم الشرعية السياسية للنظام الجديد، بالإضافة إلى أنّ التوق إلى النهوض والتغيير والتطلع نحو الأفضل لا يمثّل فقط الأمل لدى الأغلبية السُنية، بل حتى المواطنين الآخرين من علويين وأكراد ودروز الذين دفعوا ثمناً باهظاً خلال حقبة الدكتاتورية التي استمرت لأكثر من سبعين عاماً والحرب الداخلية لأكثر من 13 عاماً، والجميع يسعى نحو الأفضل، وتلك هي ديناميكية مهمة جداً في تحفيز العوامل الإيجابية نحو الوحدة والاستقرار وإعادة بناء الدولة.
الأمن والاقتصاد عاملان أساسيان في ترسيم حدود وقدرات النظام الجديد، ثم يأتي سؤال التوافق على قواعد اللعبة الداخلية الجديدة، وهو تحدي مرتبط بالدستور الجديد ومدى توافر رضا من قبل مختلف الأطراف عن المسار الجديد، وقدرة الجميع على تقديم تنازلات في هذا المجال.
هذه هي البيئة السياسية المحيطة بسؤال مستقبل الإسلام السياسي في سورية، بعد انهيار النظام السياسي هناك، ولا يمكن تصوّر التداعيات بمعزل عنها، من هنا من الصعوبة بمكان وضع تصوّر واضح ومحدد لسيناريوهات مستقبل الإسلام السياسي في سورية وتأثيراته على المنطقة العربية، لأنّ ذلك يرتبط بتطور المشهد السياسي وديناميكياته، وذلك أيضاً منوط بكمّ كبير من المتغيرات الداخلية والخارجية التي تؤثر عليه، مع ذلك فإنّ هنالك مجموعة من الملاحظات التي تشكّل مؤشرات وإشارات مهمة على مستقبل الإسلام السياسي في سورية وتساعد على تأطير النقاش في ذلك..
1. مأزق الإسلام الديمقراطي المدني
إنّ انتصار “هيئة تحرير الشام” عبر استخدام السلاح بإسقاط النظام السوري السلطوي، بالتزامن مع عجز الحركات الإسلامية التي تأخذ المسار الديمقراطية، وانسداد أفق التحولات الديمقراطية على الأقل في ضوء مؤشرات الواقع الراهن، قد يعزز الانطباع لدى نسبة كبيرة من الشباب الإسلامي بأنّ طريق السلاح والقوة والثورة هو الأفضل والأكثر نجاعة طالما أنّ الأفق السياسي الديمقراطي مسدود، بعدما حدث في تجارب سياسية عربية أخرى، وبعدما حدث في غزة من مذابح إسرائيلية مع عجز من قبل الحكومات العربية في حماية الفلسطينيين أو القدرة على وقف المشروع الصهيوني، مما قد يؤدي إلى تعزيز ديناميكيات موجة من الغضب الشبابي والداخلي يحفّزها نجاح تجربة “العمل المسلّح”.
وبالرغم من أنّ جماعة الإخوان المسلمين، عالمياً وإقليمياً، قد أكّدت مراراً وتكراراً رفضها للعمل المسلّح وإيمانها بالمسار الديمقراطي والسلمي، فإنّ ما حدث في غزة، وما قد تؤول إليه تجربة ما بعد 7 اكتوبر من انكسار للجناح العسكري لحركة حماس، وما قد يحيط بمستقبلها من علامات استفهام، فإنّ ذلك قد يعزز بدرجة كبيرة الاتجاهات الراديكالية داخل الإخوان، كما هي حال الجناح الكمالي هناك، الذي يدعو إلى الثورة والعمل الاحتجاجي الخشن والصدام مع الحكومة، ليس بالطريقة التي مارستها الحركات الإسلامية المسلحة، مثل الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي بمصر، لكن بمعنى فقدان الأمل والرهان على المسار الديمقراطي مقابل التفكير بمسارات أكثر راديكالية أو خشونة، والإيمان بأنّ الثورة لا الإصلاح هي السبيل الفضلى، وقد يعزز هذا الاتجاه أكثر – أيضاً- الترامبية السياسية وتخلي الولايات المتحدة بدرجة كبيرة عن تلك الصورة السياسية التي تظهرها معنية بالديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان، بل وصعود الجماعات اليمينية في أوربا بموازاة اليميني الإسرائيلي المتطرّف في فلسطين، فهي جميعاً ديناميكيات تعكس الأزمة الكبيرة اليوم في خطاب الإسلاميين الديمقراطيين، وتعزز الأفكار التي تؤمن بالقوة لدى جيل الشباب.
ثمّة متغيّر آخر مهم وأساسي آخر (يتعلّق بتأثير التحولات السورية على مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة)؛ وهو حالة السلام والأمن الإقليمي، فإذا اتجحت المفاوضات الأميركية- الإيرانية بخصوص البرنامج النووي، وربما صفقة إقليمية بين الطرفين، فإنّ ذلك سيخفف من حدة التوترات الإقليمية، لكن في حال نشب صراع عسكري أو توتر أكبر بين إسرائيل من جهة وإيران من جهةٍ أخرى، فإنّه سيجر العديد من الحركات الإسلامية والفئات الاجتماعية إلى تعزيز فكرة أنّ الطريق الوحيدة الممكنة لمواجهة إسرائيل هي القوة، بما في ذلك العمل المسلّح.
2. نموذج الهيئة والبراغماتية الإسلامية
على النقيض من مؤشرات فشل الإسلام الديمقراطي؛ فإنّ نجاح هيئة تحرير الشام في الوصول إلى السلطة، ثم التصالح بينها وبين المحيط العربي وتقديمها تنازلات سياسية كبيرة للداخل والخارج، وتخليها بدرجة نسبية عالية عن المحتوى الأيديولوجي الذي قامت عليه، يؤشر على أنّ مثل هذا النموذج قد يكون مغرياً بدرجة كبيرة للعديد من الاتجاهات الإسلامية في المضي أشواطاً أخرى في البراغماتية السياسية والتحلل من الجانب الأيديولوجي، الذي كانت تمثله هذه الحركات سواء كانت إخوانية أو حتى جهادية.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ البراغماتية لا تعني – بالضرورة- الديمقراطية والمدنية، بل تعني الواقعية السياسية والتحلل من الأيديولوجيا، فهيئة تحرير الشام – جبهة النصرة سابقاً (التي كانت على علاقة مع تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، لما كانت كلها حركات موحدة) كانت ترى في الدول والحكومات العربية جميعاً هي حكومات موالية للغرب، وكانت تقوم على دمج قتال هذه الحكومات بـ”العدو البعيد” (الولايات المتحدة الأميركية)، لكنها اليوم تقيم علاقات قوية مع كل من السعودية والإمارات وقطر، وتتقرب إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتحاول خفض التصعيد مع إسرائيل، وتعطي الجوانب الاقتصادية والخدماتية أهمية كبيرة؛ فمثل هذه القفزات الأيديولوجية الكبرى نحو الواقعية السياسية إذا نجحت كنموذج في سورية قد تدفع العديد من الحركات الإسلامية إلى التخلي أكثر فأكثر عن الشعارات الفكرية والأيديولوجية التي رفعتها، وربما تحاول الوصول إلى صفقات سياسية لتكون جزءاً من المشهد السياسي في الدول العربية الأخرى.
صحيح أنّ لكل حالة من الحالات العربية شروطها وسياقاتها ويصعب القياس بينها، لكن هنالك “نظرية العدوى”، فقد يشجع هذا النموذج آخرين من التيارات الإسلامية إلى قدر أكبر من البراغماتية السياسية، وتجاوز النماذج أو القيود الأيديولوجية، حتى على صعيد التحول الديمقراطي، أي أنّها قد تقبل التعايش مع أنظمة سلطوية عربية وتقديم تنازلات، طالما أنّ خيار القوة المسلّحة مكلف وجُرّب في دول قوية وفشل (فهو لا ينجح إلا مع دول ضعيفة ومفككة)، وأن الرهان الديمقراطي معطّل إلى حين، فلا بديل من محاولات اجتراح خيارات أو أفكار أخرى، وقد يكون نموذج تحولات الهيئة موحياً بالنجاح لهذه الحركات والاتجاهات الإسلامية.
المفارقة أنّ النزعة البراغماتية تبرز لدى الاتجاهات السلفية، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، بصورة كبيرة مقارنة بتغلب الجانب الأيديولوجي لدى جماعات الإخوان المسلمين؛ فبالنظر إلى تجربة حزب النور السلفي في مصر، فقد تحالف مع الحكم المصري الجديد، وتخلى عن تشدده الأيديولوجي، في مرحلة الربيع العربي الأولى 2011-2-13، بينما دخل الإخوان في صراع قاس مع الحكم ودفعوا ثمناً كبيراً، فيما حزب النور السلفي ما يزال قانونياً وشرعياً، ويمارس العمل السياسي والبرلماني، والحال كذلك أيضاً بالنسبة للجماعات السلفية في السعودية التي كانت تتشدد في المجال الديني والعقائدي ضد التحديث الاجتماعي، لكنها اليوم تبدي مرونة شديدة في التعامل مع التحولات الجذرية التي يقودها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان (ثمة تفسيرات لهذه البراغماتية السلفية لا مكان لذكرها هنا).
بالعودة إلى نموذج حكم “تحرير الشام”؛ فمن الواضح أنّه بعيد كل البعد عن استدعاء ومحاكاة نموذج حركة طالبان وافغانستان في الحكم السياسي لأنّ السياقات مختلفة ومتباينة بدرجة كبيرة بين الحالتين، لكن ليس من المرجح أن يتحول النموذج نحو الحكم الديمقراطي لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بطبيعة التحول وديناميكياته وإرث النظام السلطوي ومنها ما يتعلّق بالعامل الإقليمي- العربي، الذي وإن كان يدعم هيئة تحرير الشام فإنّه غير متحمس للديمقراطية، وبالتالي قد يكون النموذج الجديد شبيهاً بالعديد من النظم العربية، التي يطلق عليها في النظريات السياسية مصطلح “التعددية السلطوية”,
الشرع أسرّ لبعض الدبلوماسيين العرب بأنّه يرى النموذج التركي في الحكم أكثر ملائمة لسورية، وهو نموذج – كما هو معروف- يقوم على دور رئيس لحزب العدالة والتنمية الذي تخلي عن الأيديولوجيا الإسلامية بصورة رسمية[2]، وتبنى ما يمكن أن نطلق عليه “العلمانية المعتدلة”، وهو أقرب إلى الديمقراطية في الانتخابات والتعددية السياسية والحزبية، لكن فيه دور مهمين ومحوري، منذ عشرين عاماً لزعيم الحزب، رجب طيب أردوغان، من جهة، ومشكلات عديدة في الحريات الإعلامية والعامة وفي الاندماج الاجتماعي من جهةٍ ثانية.
من الصعب الوصول إلى خلاصات ونتائج واضحة وجلية عن طبيعة نظام الحكم القادم في سورية بصورة كبيرة، لكن هذا أيضاُ مرتبط بالتوافق على قواعد اللعبة السياسية ودور المجتمع المدني وفي علاقة الحركات الإسلامية ببعضها وفيما إذا كان سيسمح للإخوان – مثلاً- بالتواجد في سورية، بينما هم محظورون في العديد من الدول العربية، وعلى علاقة عدائية بالإدارة الأميركية الحالية، دونالد ترامب؟! وفيما إذا كانت هيئة تحرير الشام ستتحول إلى حزب سياسي محافظ، مثلاً، في المشهد السوري برئاسة أحمد الشرع، في محاولة لتكرار تجربة أردوغان في تركيا؟ هنالك العديد من الأسئلة التي تجعل التنبؤ مسألة في غاية الصعوبة؛ إلاّ ضمن لعبة الإحصاء (إذا .. فإنّ).
3. تأثير الانتصار السوري على مستقبل التيار الجهادي
من الضروري في إطار أي تحليل مستقبلي ألا يتم تجاهل أهمية التيار الجهادي العالمي الأكبر اليوم، وهو تنظيم داعش، الذي مثّل – وما يزال- المعادل الموضوعي لهيئة تحرير الشام ضمن الجماعات الجهادية، لكن الهيئة قامت منذ مرحلة مبكرة بعزل نفسها عن داعش، ثم عن مجمل مسار الجهادية العالمية، وتحللت من العلاقة مع التنظيمين الرئيسين؛ داعش والقاعدة، واكتفت بالإعلان عن أهدافها المتعلقة بقتال النظام السوري، وحاولت حتى قبل إسقاط نظام بشار الأسد تطبيع العلاقات مع الغرب والبيئة الإقليمية، عبر التأكيد على مرونتها وواقعيتها وانفصالها الكامل عن مسار الحركات الجهادية العالمية الأخرى.
لم تكن الهيئة وحيدة في هذا التوجه فإنّ حركة طالبان هي الأخرى نجحت في إسقاط النظام الأفغاني بعد عشرين عاماً على الحرب الأفغانية، وعقدت اتفاقاً مع الولايات المتحدة الأميركية وقامت بمقايضة معها على التخلي عن القاعدة وعن أي دور خارجي عسكري في مقابل إطلاق يدها في المعادلة الداخلية الأفغانية، ومثّل نموذج طالبان ملهماً لهيئة تحرير الشام إذ قام أحد منظّريها المعروفين، عبد الرحيم عطون، باجتراح تصنيف جديد داخل الحركات الجهادية، بالإضافة إلى التيارين الرئيسين حينها، داعش والقاعدة، وهي السلفية الجهادية المعتدلة- المحلية[3]، وقد وضع كلا من حركة طالبان وهيئة تحرير الشام مع حركة حماس (بوصفها جهادية تقاتل الاحتلال الإسرائيلي في داخل فلسطين ولا تقوم بعمليات في الخارج) ضمن هذا التصنيف، لكن هيئة تحرير الشام تجاوزت حتى حركة طالبان بتخليها عن جزء كبير من خطابها الأيديولوجي المتعلق بإقامة دولة إسلامية، بخلاف الأولى التي ما تزال تتمسك بالجانب الأيديولوجي.
بينما يبدو تنظيم القاعدة في مرحلة موت اكلينيكي، بعد مقتل زعيمه الثاني أيمن الظواهري (في العام 2022)، فإنّ تنظيم داعش ما يزال ناشطاً في العديد من مناطق العالم، وحتى في العراق وفي سورية، بالرغم من انهيار خلافته ومقتل العديد من زعمائه وقياداته، فهنالك تواجد له في أفغانستان وفي أفريقيا واليمن والصومال؛ وأصبح التنظيم بصورة أساسية يمثّل تيار الجهادية العالمية، ويحاول توظيف تنازلات وصفقات وتحولات هيئة تحرير الشام بوصفها دليلاً كبيراً على مصداقية خطابه الأيديولوجي بأنّ هذه الهيئة منحرفة، بل عميلة للحكومات الغربية والعربية، وبالتالي من المتوقع أن يستثمر بدرجة كبيرة تنظيم داعش في تحولات الهيئة وفي الحرب الإسرائيلية على غزة وفي انغلاق أفق الديمقراطية في العالم العربي، وفي السياسات الأميركية الممالئة لإسرائيل من جهة، والتي تظهر تخلياً عن الدعوة إلى الديمقراطية من جهةٍ أخرى، فذلك كلّه سيعمل تنظيم داعش على استثماره وتوظيفه وهو الذي يمتلك ماكنة إعلامية قوية وفاعلة.
وكما شكلت أولية خراسان التحدي الأمني الرئيس لحكم طالبان في أفغانستان فإنّ داعش قد يمثّل التحدي الأمني لحكم الشرع، في حال تمكن الأخير من احتواء الأكراد والعلويين والدروز ضمن النظام السياسي الجديد، وفي حال لم ينجح في ذلك ودخلت سورية في صراع جديد، فإنّ داعش سيستغل ذلك أيضاً لاجتذاب مقاتلين أجانب ومحليين ممن لم يقبلوا ولم يرحبوا بتحولات الشرع، وسيعمل تنظيم داعش على ملء ” فراغ اليمين” بصورة كبيرة.
الخلاصة
من الواضح أنّ وصول هيئة تحرير الشام وإسقاط نظام بشار الأسد ليست منعزلة عن سياقات إقليمية عديدة وعن تحولات تشهدها المنطقة، وتتزامن وتتزاوج مع متغيرات عالية أخرى، وربما الحلقة الأولى لسلسة هذه الديناميكيات الجديدة لم تبدأ بالشام، بل في غزة ومع طوفان الأقصى، لكن سقوط الأسد وصعود الشرع وهيئة تحرير الشام هو أحد أبرز النتائج والديناميكيات الجديدة في الوقت نفسه، لكن مآلات ذلك مرتبطة بتطورات البيئة الإقليمية، وربما العالمية وبالعديد من المتغيرات الأخرى، وإن كان هذا لا ينفي أنّ هنالك العديد من النتائج الأولية، التي أشار إليها المقال، ظهرت على المدى القصير، لكنها مرشّحة هي الأخرى للتحول والتطوّر مع بيئة داخلية عربية غير مستقرة، وبيئة إقليمية ما تزال تحت طائلة الصراعات والنزاعات والمفاوضات، وبيئة عالمية قد تكون في طور التحول هي الأخرى.
[1] أكثر من 7.4 ملايين سوري لا يزالون نازحين داخليًا داخل بلدهم، حيث يحتاج 70% من السكان إلى مساعدات إنسانية، ويعيش 90% منهم تحت خط الفقر. كما يعيش أكثر من 6 ملايين لاجئ سوري في دول مجاورة لسوريا، بما في ذلك تركيا ولبنان والأردن والعراق، أو في الخارج. انظر: المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. “شرح أزمة اللاجئين السوريين”. آخر تعديل في 13 مارس/آذار 2025. https://www.unrefugees.org/news/syria-refugee-crisis-explained/
[2] مصدر دبلوماسي موثوق، فبراير/شباط 2025.
[3] محمد أبو رمان، “هل نجحت هيئة تحرير الشام في إعادة التأهيل الدولي؟” معهد السياسة والمجتمع،12، سبتمبر 2023، https://wp.me/pdSIuF-1BR.