سوريا وروسيا: سقوط الحليف وانكسار الفكرة؟

منذ أن طرح الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين رؤيته حول “الأوراسية الجديدة” قبل ثلاثة عقود، ظلّت هذه الفكرة إطارًا طموحًا لتجاوز الهيمنة الغربية، وصياغة نظام دولي متعدّد الأقطاب، تتضلع به روسيا في موقع مركزي كما تطمح النخب الروسية الجديدة. وعلى الرغم من أن هذه الرؤية فلسفية – نظرية بالأساس؛ إلا أن سياسات موسكو الخارجية منذ سنة 2008 (خطاب بوتين على هامش مؤتمر ميونخ للأمن2007، متبوعًا بالتدخل الروسي في جورجيا 2008)، بدت وكأنّها تُجسد التصورات الأوراسية إلى واقع عملي. بالنسبة لروسيا، كانت سوريا فرصة تاريخية لإعادة تموضعها على الخارطة الجيوسياسية العالمية، وإحياء دورها في الشرق الأوسط، إذ أتاح لها التدخل العسكري العنيف في سوريا منذ سبتمبر/أيلول 2015؛ تعزيز الوصول إلى المياه الدافئة غرب البحر الأبيض المتوسط، وبناء قاعدتين عسكريتين على الساحل السوري[1]، وصياغة عقود للاستخدام غير المقيد لهذه القواعد، وهو ما منحها نفوذًا استراتيجيًا في منطقة شديدة الحساسية والتنافس. وإذا ما اعتبرنا أن الساحة السورية جسّدت ميدانًا لاختبار أفكار دوغين حول بناء أوراسيا متحرّرة من الأحادية الأميركية؛ فإنّ انهيار النظام السوري اليوم يُمثل ضربة قد تعتبر قاصمة لهذا المشروع.
لا شكّ في أنّ موسكو، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991؛ سعت جاهدة لاستعادة دورها في السياسة الدولية. فمع خسارة إرث الإتحاد الذي امتد ليشمل أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، والدور المهم في الشرق الأوسط؛ أدى الانهيار لتراجع دورها وانكماش التمدد السابق، حيث انحصر النفوذ الروسي في حدود محيطها القريب، وغدا دور موسكو في مجلس الأمن الدولي -رغم أهميته- غير كافٍ للتعويض عن ذلك التراجع. وإذ لم يكن هناك فضاء واسع لتعزيز حضورها الدولي في الجوار الأوروبي، بات خيار الاندفاع نحو الشرق الأوسط محتمًا في العقلية الروسية. في هذا الإطار، شكّلت سوريا ركيزة أساسية، إذ فتحت لموسكو بوّابة نحو البحر المتوسط، ومنحتها فرصة لبناء تحالفات وتحقيق مكاسب فعلية على الأرض، لتعيد التأكيد على أنّ روسيا ليست مجرد قوة حق نقض (فيتو) في أروقة الأمم المتحدة، بل لاعب قادر على التأثير في الديناميكيات الدولية بشكل واضح.
في هذا السياق، جاءت التصريحات الأخيرة لدوغين في مقال، (بالإضافة لتعليقاته المستمرة عبر صفحته الشخصية على منصة إكس)؛ لتكشف عن وجع عميق لدى النخبة الروسية، وربما لدى القيادة في الكرملين أيضًا. بالنسبة لدوغين، الذي طالما نُظر إليه على أنه “عقل بوتين” أو مُلهم النظرية الجيوسياسية لروسيا المعاصرة؛ فإنّ انهيار النظام السوري لا يمكن فهمه فقط من زاوية سقوط حليف أو خسارة موقع عسكري، بل إنّ المسألة تمسّ جوهر الفكرة الأوراسية ذاتها. فروسيا، بحسب هذا الطرح، تسعى لصياغة نظام دولي يعترف بقوتها كفاعل تصحيحي (غير راضٍ عن الدور والمكانة الحالية)، يستعيد مكانتها بعد عقود من التراجع.
من زاوية أخرى؛ تدخلت روسيا في سوريا لإثبات أنها قادرة على حماية حلفائها في وجه الضغوط الغربية، وأنّ زمن الهيمنة الأحادية يقترب من نهايته. لكن انهيار النظام السوري ربما أفسد هذا الطموح الروسي، خاصة مع عدم قدرتها على إدامة الحليف السوري، ولربما تصبح روسيا في حرج أكبر مع تكشف الواقع الوحشي الذي كان مسؤولًا عنه النظام السوري، وهو ما قد يفضي لانهيار فكرة (روسيا حامية الحلفاء)، حيث ستزداد الشكوك حول مدى جدية الرؤية الأوراسية وقدرتها على مجاراة النفوذ الأميركي – الغربي في السياسة الدولية؛ خاصة مع غياب قدرتها على حماية حلفائها كما اتخذت من ذلك سردية لها.
وبذلك، فإنّ ما يجري في سوريا لن يكون معزولاً عن السياق الدولي الأوسع؛ إذ سيترك صداه في شرق أوروبا وآسيا الوسطى، وسيعزز الانطباع بأن روسيا ما زالت عاجزة عن الخروج تمامًا من دائرة رد الفعل إلى دائرة الفعل الاستراتيجي الضيق، وأنها بالرغم من كل تحركاتها العسكرية والدبلوماسية؛ ستظل غير قادرة على تحصين مكتسباتها في مناطق نفوذها المستجدّة. كما أن أنظمة حليفة لروسيا تقليديًا قد تخشى سيناريوهات مماثلة لبشار الأسد، كصربيا، وجورجيا، وربما روسيا البيضاء كذلك، وهو ما يعني أن التدخل العسكري الروسي قد لا يكون مسعفًا في المستقبل لبقاء هؤلاء الحلفاء، مستندين على التجربة السورية غير المستدامة.
في النهاية، يبدو أنّ انهيار النظام السوري لن يكون محض حدث محلي أو إقليمي عابر، بل يمكن اعتباره نقطة تحول قد لا تقل أهمية عن الأحداث الكبرى في السياسة الدولية، كانهيار الإتحاد السوفيتي وتفكك يوغسلافيا؛ كما أنه حدث يمسّ تصوّرات روسيا عن نفسها وقدراتها، ويُلقي بظلالٍ قاتمة على نظريات دوغين ومشروعه الأوراسي. هذه التحولات قد تدفع موسكو إلى إعادة النظر في آليات حضورها الدولي، والتي قد تُبعدها من جديد عن تحقيق عالم متعدّد الأقطاب بالمعنى الذي طمحت وسعت له في مراحل سابقة. بذلك، يمكن للانهيار السوري أن يترك روسيا أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما التقوقع على نفسها مجددًا ضمن حدود نفوذ محدودة تشمل جوارها القريب والمباشر، أو إعادة بلورة مشروعها الدولي نحو مسار أكثر واقعية، يعترف بصعوبة تغيير بنية النظام الدولي بمجرد الرهان على حلفاء ضعفاء ومناطق نفوذ هشّة.
[1] مع العلم بوجود تعاون عسكري مسبق في طرطوس منذ السبعينيات بين الاتحاد السوفيتي والنظام السوري زمن حافظ الأسد، إلا أنه كان ضمن صيغة الحرب الباردة في سياق نظام دولي ثنائي القطبية، حيث كلا القطبين أقرَّا بالآخر ودوره كقطب دولي؛ الولايات المتحدة والمحور الغربي، والإتحاد السوفيتي والمحور الشرقي. إلا أن أوراسية دوغين طُرحت ما بعد تفكك الإتحاد، ونادت بصيغ جديدة من الوجود العسكري طابعه النفوذ وليس التعاون العسكري، والذي يُفسر توظيف المجهود الحربي الروسي الضخم منذ 2015 في سوريا بأنه تم لتحقيقه.