سوريا الجديدة في ميزان التطبيع: واقع جديد أم تكتيك مرحلي؟
أنتج الموقف الأميركي برفع الرئيس دونالد ترامب للعقوبات عن سوريا؛ تحولًا ملموسًا في التوجه الإسرائيلي حيال دمشق، لا سيما بعد أن سادت الضبابية أهداف تل أبيب منذ سقوط نظام الأسد، وكسرها لخط الهدنة لسنة 1974، والتوغل البري وإنشاء خطوط إمداد لوجستية بالإضافة لنقاط عسكرية تزامنت مع تجريف للأراضي وكشفها لتسهيل المراقبة الأمنية للمساحة التي توسعت بها، فضلًا عن الغارات الجوية والتي كانت أعنفها مطلع مايو/أيار الجاري، وتحديدًا استهداف محيط القصر الجمهوري، والذي وُصف بأنه رسالة تهديد مباشرة للرئيس الانتقالي أحمد الشرع، ناهيك عن استمرارها بالتصعيد وتوظيف قضية الأقليات وبشكل خاص المسألة الدرزية، حيث تكاملت هذه الخطوات في دور إسرائيلي غامض الفحوى، لكنه واضح النتيجة تمثل في تهشيم سوريا الجديدة، وكسر صورة دمشق على المستوى المحلي، وربما لإجهاض التجربة السورية قبل أن تبدأ.
بالتزامن مع زيارة ترامب للرياض، وتسرب الأنباء عن فرص لقاء الرئيسين السوري والأميركي؛ بدا التحول في لغة الخطاب الإسرائيلية، حيث صرح وزير الخارجية جدعون ساعر بأن إسرائيل ترغب بعلاقات مستقرة مع سوريا، بالإضافة لبيان شيخ عقل الدروز موفق طريف عن ضرورة الوحدة الوطنية لدروز سوريا في بلدهم سوريا، وهو ما أظهر سقوفًا جديدة للتوجهات الإسرائيلية في سوريا، لا سيما أنها عكست تباينًا ما بين ترامب ونتنياهو بالانفتاح على الحكومة الانتقالية، وبصورة غير متوقعة تجلت برفع العقوبات الأميركية، وهي مسألة مصيرية على طريق إعادة بناء الدولة السورية.
تظهر الخطوة الأميركية كعامل رئيسي في التغير الإسرائيلي الحاصل مؤخرًا، إلا أن التتبع يُظهر أنه سبقها عدة جهود دبلوماسية وسياسية مورست في القنوات الدبلوماسية الخلفية ما بين دمشق وتل أبيب، أو حتى القنوات الأمنية التركية – الإسرائيلية المستمرة منذ مارس/آذار الماضي في العاصمة الأذرية باكو، وجميعها سعت لانتزاع موقف تخفض فيه إسرائيل من حدة تصعيدها العسكري في سوريا، ولتجنب التصادم سواء مع الحكومة الجديدة، أو حتى مع المجتمع المحلي السوري، وكلاهما يضع دمشق أمام مأزق محرج لاتخاذ خطوات مقابلة ردًا على التصعيد، أو للانخراط في مباحثات مباشرة وتقديم تنازلات وضمانات.
بذات الصدد، يتصل بالمطالب الأميركية الصريحة دَفعُ دمشق نحو التطبيع مع إسرائيل وفق صيغة السلام الإبراهيمي، وهو ما يدعو للتساؤل حول عدة قضايا رئيسية وإشكالية، وهي:
أولًا؛ وفق أية شروط قد تُفتتح محادثات التطبيع بين الطرفين؟ حيث تظهر عقدة الاستعصاء في الطبيعة الصفرية للقضايا الخلافية وأبرزها ملف الجولان السوري المحتل، والذي اعترفت به إدارة ترامب الأولى كأرضٍ إسرائيلية، فهل يُستثنى الجولان من مباحثات السلام، وينتقل الحديث للانسحاب عن التوسعات الحاصلة منذ سقوط نظام الأسد؟
ثانيًا، ما هي التنازلات التي قد تقدمها تل أبيب لدمشق، وما هي حدود إلزامها بها؟ فمنذ توقيع اتفاقية كامب دافيد مع مصر 1978؛ وإسرائيل مستمرة بخرق الاتفاقيات والتفاهمات مع دول طوق فلسطين المحتلة، سواء المتصلة بأمن واستقرار هذه الدول، أو حتى التقنية المرتبطة بحصص المياه المشتركة مثلًا، وبالتالي فإن الاستناد إلى النوايا الحسنة وحدها في العلاقة مع إسرائيل؛ هو أمر مستبعد، لا سيما في سياق التطرف الإسرائيلي وحالة سُعار الحروب منذ بدء الحرب على غزة.
ثالثًا، ما هو مدى تقبل المجتمع السوري لأطروحات التطبيع السوري مع إسرائيل؟ بطبيعة الحال، يعتبر الرأي العام عاملًا أساسيًا عند اتخاذ قرارات سيادية كبرى بهذا الحجم، حتى وإن كان التطبيع مقتصرًا على مستوى الحكومات، فالمجتمع السوري نشأ وترعرع وفق أيديولوجية مناهضة للصهيونية، وإن كانت تُوظف سياسيًا في كثير من الأحيان في زمن النظام السابق؛ إلا أن بنية المجتمع السوري قد ترسخت وفقًا لهذه المبادئ، وبالتالي؛ فإن تصور حدوث تحول حاد بهذا الحجم تجاه العلاقة مع إسرائيل؛ سيفضي إلى ردود فعل محلية قد تؤثر سلبًا في سياق شرعية المرحلة الانتقالية وحكومتها ككل. يضاف لذلك مسألة غياب روح الشعب عن هكذا اتفاق للتصديق عليه، والمقصود هنا غياب ممثلين منتخبين تحت سقف مجلس تشريعي حتى اللحظة.
على النقيض مما سبق؛ تظهر مفارقة الحكومة السورية في كونها أمام مفترق طرق، فمن جهة تشتد الحاجة إلى فرض الاستقرار على التراب السوري، والبدء بشكل حقيقي في إعادة الإعمار أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وهو ما قد يتعذر أو يُجهض تبعًا للدور الإسرائيلي المخرب في سوريا، ومن جهة أخرى، تظهر الواقعية السياسية في حسابات صنع القرار، وتبرز أولوية الاستقرار أمام أي معادلات أخرى، خاصة أن منطق تفكير الدول -كهياكل مجردة- عند سعيها لتحقيق مصالحها العليا، تحمل قيم ومبادئ قد تختلف وتناقض القيم التي يحملها الأفراد عادةً.
خلاصة ما تقدم، يشير دخول الحكومة السورية في قنوات اتصال مع الجانب الإسرائيلي إلى ضرورات فرضتها طبيعة المرحلة الانتقالية عقب سقوط الأسد، لا سيما أنها زامنت وجود حكومة إسرائيلية بالغة التطرف، إذ بادرت بانتهاز اللحظة التاريخية في خِضم التحول السوري، وفرضت وقائع جيوسياسية جديدة على الأرض ذات تداعيات استراتيجية. إلا أن دمشق تمتلك مخارج تجنبها الالتزام باتفاقيات أو معاهدات أثناء المرحلة الانتقالية، إذ يمكن الإبقاء على صيغة التنسيق والتواصل في المسار الأمني بهدف تجنب التصادم المباشر فحسب، عوضًا عن التطبيع السياسي الشامل، كما أن عامل تمرير الوقت وانتهاج المناورات الدبلوماسية، والمماطلة في التفاوض السياسي مع إسرائيل؛ قد يفتح لدمشق آفاقًا أفضل إذا ما تصورنا حدوث تغيير على مستوى الحكومة الإسرائيلية، وبالتالي البقاء ضمن حدود القاعدة الدبلوماسية القائلة بأن الاشتباك المباشر لا يعني بالضرورة التوافق، وهو ما يندرج ضمن حدود حسابات الممكن في المرحلة الحالية.