سؤال العدالة الانتقالية في سوريا وحدود المساهمة الأردنية

أسدل الستار على حكم الرئيس السابق بشار الأسد باختفائه ليلًا من العاصمة دمشق، وخروجه من البلاد بعد ثلاثة عشر سنة من الحراك الاجتماعي السوري، الذي بدأ سلميًّا وسرعان ما تحول إلى صراع مسلح، بعد محاولات النظام السوري من وأده عبر استخدامه كل الوسائل الممكنة، بما في ذلك العنف المفرط. أدى ذلك العنف إلى خسائر بشرية هائلة، وتشريد ملايين السوريين، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان -بحسب الشواهد والتقارير الموثقة في المنظمات الدولية- لا يسع المجال ذكرها هنا. أدت حالة الحرب المستمرة، بطبيعة الحال، إلى تشوهات سياسية اجتماعية، وإلى إنهاك السلم المجتمعي، الأمر الذي تطور إلى انقسامات أفقية، طائفية ومذهبية ودينية وعرقية، لا يمكن التغاضي عنها.

كان قد لفت الجميع الخطاب المتسامح الذي قدمته المعارضة المسلحة خلال الحملة العسكرية الأخيرة، وما بعدها باتجاه الأقليات، وخاصة العلوية بحكم أنها الأقلية التي يرتبط بها بشار الأسد، رغم الشكوك التي تحوم حول الإبقاء على هذا الخطاب في المستقبل، لأسباب عديدة على رأسها الحالة التراكمية التي تسبب بها تاريخ الحكم الطويل لعائلة الأسد، والفظائع التي ارتكبت خلال السنوات الماضية، والتي كان كثيرون يحملونها للأسد ولطائفته، وإمكانية استخدمها كغطاء لتحميل شماعة الأخطاء المستقبلية، التي يمكن أن يحدثها النظام الحاكم بحكم الواقع اليوم.

إن تصريح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في هذا السياق مهم، عندما قال: “يمكن اليوم للشعب السوري اغتنام هذه الفرصة التاريخية لبناء مستقبل مستقر وسلمي، بعد 14 عامًا من الحرب الوحشية وسقوط النظام الديكتاتوري”. كما أن إعادة بناء دولة مستقرة بعد سنوات طويلة من العنف يحتاج من قبل كافة الأطراف السورية العمل الجاد وحسن النوايا وفهم عميق للتحولات الاجتماعية والسياسية في سوريا من أجل الاستقرار السياسي والاجتماعي، بالإضافة إلى أن العامل الإقليمي والدولي مهم في إنجاح هذه المرحلة الانتقالية.

في هذا السياق المعقد، تبرز العدالة الانتقالية كأداة أساسية في بناء مستقبل مستقر وسلمي، إذ تساهم في ضمان المساءلة وتعزيز المصالحة، وتأسيس أرضية لمستقبل عادل، من خلال آلياتها المختلفة مثل لجان الحقيقة، التعويضات، والمحاكمات، فالعدالة الانتقالية توفر وسيلة فعالة لمعالجة الفظائع المرتكبة أثناء الحروب، واستعادة الثقة بين الأطراف المختلفة، والحد من احتمال وقوع العنف في المستقبل.

هناك العديد من التجارب الإقليمية والدولية التي يمكن دراستها والاستفادة منها، بهدف التعلم من النجاحات وتفادي الأخطاء التي أدت إلى إخفاق بعض التجارب السابقة. ورغم التحديات الكبيرة المتوقعة في إنفاذ العدالة الانتقالية، ينبغي على الفاعلين في سوريا أن يتبنوا هذه التجارب كدروس قيّمة، ويتجنبوا الوقوع في الأخطاء التي ارتكبتها دول أخرى. من المهم التأكيد على أن هذه العملية ليست سهلة بأي حال من الأحوال، ولكنها قابلة للنجاح إذا توافرت العزيمة والإرادة السياسية، كما أن المنطقة العربية تزخر بالخبراء الأكفاء الذين يمكنهم تقديم الدعم والمشورة عند الحاجة، في ظل ملامح رغبة الانفتاح التي يمكن استنتاجها من مواقف هذه النخب، والتي أبدت تفاعلًا كبيرًا مع الأزمة السورية منذ بدايتها وما بعد سقوط النظام.

توفر العدالة الانتقالية أدوات مهمة وعملية مثل لجان الحقيقة التي تحقق في أسباب النزاع وتوثق الانتهاكات. هذه اللجان تساعد في تعزيز الحوار الوطني الجاد وبناء الثقة والتعاطف المتبادل بين الأطراف في ظل الانقسامات الطائفية والسياسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تنفيذ آليات أخرى مثل التعويضات والمحاكمات.

عانت مؤسسات الدولة السورية من فجوة كبيرة في الثقة من قبل الشعب السوري بما في ذلك القضاء والأجهزة الأمنية النافذة القمعية، حيث أن هذه المؤسسات تعرضت للكثير من التشوه إن كان بسبب الحكم أو سنوات العنف، وبالتالي فإن هذه المؤسسات تحتاج إلى إعادة البناء وكسب ثقة المواطنين لإعادة الأمور لنصابها والدفع باتجاه إقناع المجتمعات السورية بقبول فكرة أن احتكار العنف هو فقط لمؤسسات الدولة الشرعية، وهنا تبرز العدالة الانتقالية أيضًا كضرورة؛ فواحدة من أهدافها تعزيز ثقة الأفراد والمجتمعات بالمؤسسات وسيادة القانون.

تجدر الإشارة هنا إلى أن آلية العدالة الانتقالية لا تستثني أي طرف في المعادلة، فحتى القوات المسلحة غير النظامية تحت أي مسمى يسري القانون عليها كما يسري على القوات النظامية، فمن انتهك حقوق الإنسان ومارس العنف بأشكاله يقدم إلى المحاكمة ويعوّض الضحية بشكل عادل، سواء أكانت الجريمة قد ارتكبت من النظام السوري السابق أو من التنظيمات المسلحة مثل تنظيم داعش.

أردنيًّا، لا يمكن تجاهل أهمية الاشتباك الإيجابي في سوريا ما بعد الأسد؛ فدعم الأردن لسوريا والسوريين في إمكانية تحقيق العدالة الانتقالية والاستقرار تشكل أهمية إنسانية أولًا، وأيضًا استراتيجية لعدد من الأسباب منها؛ الحدود المشتركة الطويلة وأزمة اللاجئين المستمرة والتبعات الاقتصادية السلبية بسبب إغلاق الحدود ورفع الانفاق العسكري.

أدت أزمة اللجوء وتواجد أكثر من مليون لاجئ (مسجلين رسميًّا وغير مسجلين) يعيشون في الأردن، في جعله يستضيف الوكالات التابعة للأمم المتحدة العاملة في سوريا والمعنية باللاجئين السوريين في الأراضي الأردنية، ومن الطبيعي التوقع أن هذه المؤسسات ستتحرك بشكل سريع للتعامل مع الوقائع الجديدة والتي يجب أن تكون تحت ناظري الدولة لتكون جزءًا من صنع القرارات، على الأقل المرتبطة في الأردن؛ فمؤسسات الأمم المتحدة يمكن أن تتخذ بعض القرارات والإجراءات التي لا تأخذ بالضرورة بعين الاعتبار وجهة نظر الدول المستضيفة وذات العلاقة لأسباب مختلفة.

كما يمكن للمجتمع المدني في الأردن بخبراته ومهاراته أن يلعب دورًا حيويًّا في دعم جهود العدالة الانتقالية، ويمكن للمجتمع الدولي وسوريا الاستفادة من قوة البنى التحتية والموارد البشرية في الأردن في هذه المرحلة ولاحقًا مرحلة إعادة الإعمار في سوريا على الأمد البعيد، وذلك قد يساهم في حالة استقرار الحدود الشمالية الأردنية.

ومع إمكانية بدء عملية إعادة الإعمار، فقد يسهم ذلك في تنمية الاقتصاد الأردني، وخاصة من حيث التجارة والاستثمار والبنى التحتية، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن التقديرات الدولية المختلفة لإعادة الإعمار تتحدث عن الحاجة لمئات المليارات، والتي يمكن أن تنعكس بصورة إيجابية على الأردن والسوق الأردني الذي كان قد عانى خلال العقد الماضي جراء الصراع.

ومن مصلحة الأردن استتباب الأمن والاستقرار السريع في سوريا وعودة النظام والاستقرار، فالأردن مشتبك في الملفات المختلفة المتعلقة بمستقبل المنطقة وخاصة في فلسطين التي تعاني من ويلات الحرب على غزة والضفة والتبعات التي يرنو إليها اليمين الإسرائيلي المتطرف.

وبناءً على ذلك كله، قد يجد الأردن في الاشتباك مع الحكومة الانتقالية والهيئات الحاكمة الجديدة في سوريا ضرورة لحماية مصالحه الوطنية، مثل أمن الحدود ومكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات والاستقرار الإقليمي. ومن خلال الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية وتقديم الدعم والمساعدة في ملف العدالة الانتقالية وملفات أخرى مهمة منها إعادة الإعمار، وسوف توفر هذه الفرصة بالتالي دورًا كبيرًا للأردن في تشكيل مستقبل سوريا المستقر، وتحقيق الازدهار لكلا البلدين.

زر الذهاب إلى الأعلى