تصريحات نتنياهو وترمب: الجنون كأداة سياسية
![](https://i0.wp.com/politicsociety.org/wp-content/uploads/2025/02/AFP__20250205__36X8369__v1__HighRes__UsIsraelDiplomacyNetanyahuTrump-e1738745488623.webp?fit=1007%2C630&ssl=1)
منذ أيام يشرع، بنيامين نتنياهو، متدرعاً بالرئيس الأمريكي ببث تصريحات تجاوزت معقولات أو لنقل مقبولات السياسة في الإقليم، من تهجير الغزيين إلى مصر والأردن أو نثرهم في منازل جميلة حول العالم، أو التعدي على أراضي دول عربية أخرى لبناء دولة للفلسطينيين مثلما صرح نتنياهو بخصوص السعودية، ومن ثم مناقشة إعمار غزة دون أهلها.
قد تكون ملفتة فجاجة السلوك الذي يقوده الرئيس الأمريكي القديم الجديد، والذي يشبه تعامل العواصم مع العشوائيات على أطرافها. فالحرب على غزة بالنسبة إليه لا تعدو عن كونها عملية الهدم والتجريف -ولنسأل هنا عن الرمزية الاقتلاعية لحضور الجرافة العسكرية في غزة بقدر حضور الدبابة أحياناً- التي تسبق إعادة التأهيل للبنى غير المناسبة لموقعها الجاذب، ومحيطها المرموق، تزاح، ثم يعاد بناؤها بالشكل المناسب، ومن ثُم تمُلأ بأناس مناسبين لشكلها الجديد، غير أولئك غير المتكافئين حضارياً مع موقعهم. طبعاً يأتي كل هذا في تجاهل تام لمعاناة أبناء تلك الأرض وأهلها وكأنها غير معتبرة، بل وكأنها لم تحصل أصلاً. وبهذا تكون الحرب بالنسبة له يوماً واحداً قُتل فيه “الإسرائيليون” في “السابع من أكتوبر”. لكننا نعلم مسبقاً أن هذا متضمنٌ إلى حدٍ بعيدٍ في العقل الغربيّ، أو مكوناتٍ منه -على الأقل- ما زالت تحتفظ بروحها الاستعمارية، وقد تكون صادمةً تلك الفجاجة في طَرحِ ما طُرِح بصوت مرتفع، لكن وجوده بحد ذاته قد لا يكون صادماً. لكن الصادم؛ هو مستوى الفجاجة السياسية التي يتفوق فيها ترمب على نفسه هذه المرة، على نسخته الأولى، محفزاً نتنياهو على تصريحات مغامرة ومجنونة مثل تلك عن السعودية، بالرغم من أن المشروع الأهم لديهما لربما -مرحلياً على الأقل- هو إتمام مفاوضات التطبيع معها.
وإذا ما قلنا أن الجنون هو الخروج عن اصطلاحات العقلانية والمنطق وفقدان التوازن، فإن هذا ما أوصلت إليه الاحتلال عملية المقاومة في السابع من أكتوبر. وما قام به الاحتلال طوال الحرب في غزة وعلى مستوى الإقليم ينطوي تحت المعنى الحرفي للجنون “Madness”، وعدم تكافؤ الأفعال مع دواعيها. ولكن هنا، نلفت النظر لتحويل الاحتلال جنونه هذا إلى أداة سياسة، والسؤال هنا عن هذا الجنون إن كان جنوناً صرفاً، وجملة من الأخطاء السياسية، أم أنه من النوع الذي يمتلك وظيفة سياسية؟ والقول الأصلح هو أن لهذا الجنون وظيفة سياسية واضحة منذ وقت مبكر من الحرب على غزة، فصورة “إسرائيل” الغاضبة، التي وصلت حد السعار العسكري والسياسي كانت واحدة من أهم أدوات نتنياهو وإدارته في مخاطبة العالم ومخاطبة العرب، وتم الاستثمار بها بصورة جدية مع محاولات لتبريرها في بداية الحرب، وبعد إسراف الاحتلال في جرائمه، واستنفاد رصيد التبرير، وعند تلميح إدارة بايدن لضرورة تخفيف الحرج عليها بتهدئة نسبية في شكل التصعيد، أدّعى الاحتلال أنه يعرف المنطقة وإداراتها جيداً، ويعرفها أكثر من الأمريكيين، واستمر بجنونه لا لشيء سوى أنه قادرٌ عليه، وأن من ورائه دعماً أمريكياً غير مشروط. ولكن غياب المبررات لا يعني غياب الدواعي والوظائف، وتكمن الوظيفة الأساسية لهذا الجنون في أنه يمنح دولة الاحتلال موقعاً متقدماً في كل عملية تفاوضية، وكل محاولة فرض واقع سياسي، وخصوصاً عندما تتشبث كثير من الدول العربية من حوله بمسار العقلانية المفرطة والاحتواء والبراغماتية، فيصبح الجنون أفضل أداء يمكن من خلاله تحصيل مكاسب سياسية.
كان نتنياهو قد قدّر سابقاً أن ممارسة الجنون مقامرة تستحق مخاطرها، عندما قام هو وإدارته بإطلاق عملية عسكرية، في أوسع ممارسة يمكن وصفها بأنها إرهاب دولة إقليمي، عندما قرر في أقل من أسبوع أن يقوم بشن غارات تستهدف قيادات حساسة مثل إسماعيل هنية ومواقع استراتيجية مثل ميناء الحديدة، وقصف كل من دمشق والضاحية الجنوبية في بيروت واغتيال قيادات من الصف الأول في حزب الله. إن استهداف خمسة بلدان في المنطقة، وفتح كل هذه الجبهات في لحظة حساسة كانت المنطقة تقف فيها على شفير الانفجار، وتناقش احتمال انفلات زمام الأمور لحرب مفتوحة، كان أكبر جنونٍ ممكن، ومع ذلك راهن الاحتلال على أن هذه الممارسة المندفعة ستعود عليه بتثبيت الجميع في مواقع خلفية وتغيّر قواعد اللعبة، وتفرض استعلاءً عسكرياً، كرسه وجعله حتمياً عندما قرر اغتيال حسن نصرالله، ذلك التصعيد الذي كان يُعتقد أنه سيكون كفيلاً بأن يحول المنطقة إلى جحيم، ولم يفعل، فثبّت الجميع بالفعل في مواقع يمكن وصفها على الأقل بأنها دفاعية.
من حيث المبدأ، لا يختلف لا في المستوى، ولا الوظيفة، ما يمارسه نتنياهو اليوم من عدم اتزان -جنون- سياسي يتجلى في تصريحاته عن نهاية فكرة الدولة الفلسطينية، وتقديم مقترحات لإنشائها في السعودية مثلاً. نعم يراهن الاحتلال على أن هذا السقف من التصريحات المغامرة يمنحه صورة إعلامية مميزة، ويظهره في مظهر قوة خصوصاً مع عدم اكتمال صورة النصر في غزة مع مشاهد تسليم الأسرى من القطاع، وإصرار كتائب القسام على إظهار سيطرتها على زمام الأمور والتأكيد على عدم جدوى عملية التدمير، إلا أن هذا الخروج عن النص في التصريحات له آمال محددة غالباً فيما يخص عمليات التفاوض على عدة مستويات.
بالفعل قد يكون لتصريحات نتنياهو مفتوح الشهية بتصريحات ترامب أهداف استراتيجية، متعلقة بتغير قواعد التفاوض مع الفلسطينيين أولاً ومع العرب ثانياً، وخصوصاً السعودية، فيما يخص كامل القضية الفلسطينية، والطريق إلى تسويتها. فهو يحاول جاهداً التحلل من كل ما هو متصل بفكرة حل الدولتين، وأوسلو، ووجود سلطة فلسطينية سواءً نسقت أمنياً أو قاومت وسعت لتكريس دولة مستقلة -بغض النظر عن مدى واقعية هذا السيناريو في إطار حل الدولتين-، يساعده في هذا توجه ترامب للاستثمار في غزة، والاعتراف بالجولان جزءاً من دولة الاحتلال، والتلميح إلى إعادة دراسة وضع الضفة الغربية؛ وهي آمال صهيونية قائمة تاريخياً يصبح نتنياهو اليوم مع هذه الإدارة الأمريكية وظرف الإقليم أقرب قادة دولة الاحتلال إليها.
على ما يبدو تبقى هذه الأهداف الاستراتيجية في مستوى ثانٍ من الأولوية على حساب أهداف تكتيكية متعلقة بتوجيه مفاوضات غزة، التي من شأنها أن تقرر مصير حكومة نتنياهو، والتي سيُعتمد على نتائجها لتسمية نتيجة الحرب. إن ما يمارسه نتنياهو وقبل دخوله إلى جولة مفاوضات ثانية، يريد أن يجعل من عدم حل المسألة في غزة وفقاً لرغبات الاحتلال وفي الصورة التي يريدها، سبباً في تضرر كل طرف ممكن في المنطقة، ويعلن بتصريحاته وتصريحات الرئيس الأمريكي، أن العودة إلى الحرب خيار متاح طالما لم تحيد حماس كُلياً عن إدارة القطاع، لذلك فإن من أهم ما يراد من هذه التصريحات هو أن تدخل حماس إلى الجولة الثانية مثقلة بطلبات عربية تدفع نحو تقديم التنازلات، مؤكداً على استعداده واستعداد أمريكا لحل القضية على حساب الجميع سوى “إسرائيل”، ويثبّت هذه الرسائل بوفد مفاوضات هزيل مقيد الصلاحية يؤكد على أن الأمر مرة أخرى عاد ليكون في يده وحده، محصناً بجنون ترامب الذي يسعى جاهداً لإتمام مشروعه العقاري في القطاع.
إن طرح مسألة التهجير بهذه القوة، والاستمرار في التأكيد على احتمالية العودة إلى خيار الحرب، يريد إيصال الرسالة التالية، “أنه إذا لم يتم إنهاء المسألة والضغط على حماس للتنازل، فيمكننا تفعيل الخيارين معاً، التهجير- بقوة القذائف”، وبالرغم من الصمود الفلسطيني الذي رأيناه في مواقع عديدة أثناء الحرب، فلا يمكن الجزم بأن عودة الحرب بزخم أعلى، وبخيارات بديلة عن معبر رفح، من شأنه أن يحفز حركة تهجير كبيرة. فاليوم مع دعم أمريكي لا يستبعد أن تستخدم دولة الاحتلال موانئها ومطاراتها وعبر ما ستسميه “ممرات آمنة” لنقل عدد كبير من الفلسطينيين الغزيين إلى خارج القطاع، وإلى دول أخرى غير الأردن ومصر في حال إصرارها. وهنا لا يُقصد بأن هذا مؤكد، ولكن المؤكد أن هذا ما يريد الاحتلال أن يلوّح به ويؤكد على إمكانه، ليحصّل شروط تفاوضٍ أفضل، ويدفع العرب لتشغيل أوراقهم الضاغطة، وإيجاد حلول لما أصبح بالنسبة للاحتلال معضلة “سيطرة حماس”.
يمكن القول إن العرب انتبهوا لما قد يأتي مع ترمب من مفاجآت واستبقوا ذلك برسالة مهمة عشية فوزه بالانتخابات بدعوتهم لقمة الرياض، وبهذا حاولوا الاحتماء ولو ظاهرياً -مع احتمال وجود قناعة مشتركة فعلية بضرورة ضبط كل من ترامب والاحتلال الإسرائيلي- من مشهد التشرذم الذي باغتهم به ترمب في ولايته الأولى، ويحاولون أن يثبتوا هذه الصورة من الوحدة، ويبثون خطاباً متماسكاً إلى حدٍ ما، يرفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، ولكن تبقى خاصرته الضعيفة الوحيدة أنهم يريدون لغزة أن تبقى فلسطينية نعم، لكن أمر حماس وبقائها ليس محل اتفاق، بل إن البعض يميل فعلاً إلى اختفائها من المشهد، وهو طموح فيه إشكال، وصعب المنال، كون حماس هي القوة الوحيدة القادرة حتى الآن على تعطيل تحول احتلال القطاع لأمر واقع.
لربما إن واحدة من أهم الأوراق المهمة للصمود في وجه هذا الترهيب واللامبالة في التصريح والممارسة السياسية والعسكرية، والتي يمكن لها أن تساهم في تحصين العرب من خسارات فادحة، واستباحة طويلة الأمد لأمنهم واقتصادهم وسياستهم، أن يواجهوا هذا “الجنون” بمستوى مكافئ وجاد منه، حيث أنه هو الوحيد القادر على إجبار الولايات المتحدة على كبح لجام نتنياهو. فقدرة نتنياهو على إقناع الولايات المتحدة بمعرفته بالمنطقة، وبأن المنطقة رخوة، وبأنه قادر على أن يفعل ما يشاء فيها دون أن تنفجر في وجهه، هو الداعِ الأساس لتركها إياه يمارس هذا البجح السياسي والعسكري، ويكمن الحل في إقناع الولايات المتحدة بأن مقولة نتنياهو غير دقيقة، وأن المنطقة ستنفجر فعلاً، وأنه خيار ستتخذه الدول العربية إذا ما تم تجاهل خياراتها واستمر الضغط عليها، وأفضل هذه الأمثلة ما تم التلويح به كخيار الحرب مثلاً الذي وضعته الأردن على الطاولة، ولابد أن تضعه مصر معها، ويدعم العرب شرعيته، ويعبروا عن وجودهم كداعمين في حال اضطروا إليه. وهو خيار غير مجنون عملياً، إذا انتبهنا لفكرة أن اسرائيل عملياً تمارس الحرب، والعرب يلحون بها فقط.
لا أعلم إلى أي حد يعتبر هذا الطرح متفائلاً، بحيث يراهن على قدرة العرب على إنتاج موقف من هذا النوع، لا لأسباب سياسية ولوجستية فقط، بل لكونه يحتاج إلى أرضية مشتركة من فهم مشترك للأمن القومي العربي، وفهم معاني تحقيق الاحتلال مراده بتصفية القضية الفلسطينية، حتى وإن لم يكن على حساب دول عربية بصورة مباشرة بالتهجير، فإنه سيعني حتماً فرضه لنفسه في المنطقة كقطب أوحد، وستقتنع أمريكا بذلك، وستضطر النظم السياسية العربية وغير العربية في المنطقة للإقرار بذلك، وستدفن أي آمال لأي طرف عربي قوي بلعب دور إقليمي قيادي، ناهيك عن فرض الاحتلال لخياراته السياسية والأمنية والاقتصادية على المنطقة.