النظام في دمشق يوشك أن يتداعى: ماذا يعني ذلك لبغداد؟
بوتيرة متسارعة تسير المعارضة السورية باتجاه العاصمة دمشق، ومن جبهات متعددة تحاصر النظام السياسي الذي صمد لقرابة أكثر من 13 عامًا منذ أن بدأت الأزمة هناك، في سياق إقليمي أمني وسياسي يزداد تعقيدًا، وفي وضع يغيب عن النظام دعم الأطراف الذي كان غير محدود، وكأنه يترك الآن وحيدًا.
ليس سرًّا القول إن النظام السياسي في بغداد هو من أكثر الأطراف ترقبًّا وقلقًا مما ستؤول إليه عملية “ردع العدوان” التي أطلقها أحمد الشرع الملقب بـ “أبي محمد الجولاني”، في لحظة تستحضر فيها الحكومة العراقية وقوى سياسية مشهد سقوط المحافظات تلو الأخرى على يد تنظيم الدولة “داعش” عام 2014 الذي تقدّم عبر هجوم شنّه من جهة الغرب، وتسليم ألوية عسكرية كاملة أسلحتَها ولاذت بالفرار، وهو شبيه بتسليم ضبّاط من الجيش السوري أسلحتهم وعبورهم فرارًا نحو الحدود العراقية.
تاريخيًّا، شكلت الجغرافيا السورية معضلة استراتيجية للعراق، نتيجة لعوامل عديدة منها التباين الشديد لكل من النظامين العراقي والسوري في إطار حزب البعث، ولم تنته هذه المعضلة مع العهد الجديد في العراق بعد عام 2003 الذي برزت فيه قوى الإسلام السياسي الشيعي كفاعل رئيسي وأساسي في النظام السياسي العراقي، والتي رأت فيه بداية الأمر في النظام السوري حاويًا للتنظيمات الجهادية والحركات المناوئة للاحتلال الأمريكي على العراق ولقوى النظام الجديد على كل حال، حتى جاءت لحظة الربيع العربي التي شهدت في البداية اكتساحًا للمعارضة السورية التي نظرت بغداد إليها كـ “قوى سنية” لتقلب المعادلة وينتهج النظام السياسي حينها بقيادة، نوري المالكي، سلوكًا مختلفًا، أثر على مسار الصراع في سوريا وفجّر صراعات في الداخل العراقي، الأمر الذي دفع بالنظام السياسي الذي بدا منسجمًا للغاية مع المشروع الإيراني في المنطقة لفتح جبهة الدعم اللامحدود لدعم النظام السوري، وبنى من خلاله سردية تربط بين الدفاع عن النظام بالدفاع عن المقدسات الشيعية في دمشق، وهو ما خلق مبررًا لفصائل عراقية مسلحة للقيام بإرسال الآلاف من عناصرها إلى سوريا للقتال هناك.
تأتي الأحداث في سوريا اليوم في خضم حسابات معقدة بالنسبة لإيران وحلفائها، ففي ظل حالة الانهاك التي تمر بها منذ عهد ترمب الأول، كانت الضربة التي أودت بحسن نصر الله قتيلًا موجعة ونالت من رمزية المشروع الإيراني في المنطقة ومن الشيعة الذين يفكرون تجاه بعض الأطراف الحليفة لإيران بمعزل عنها، كونها ذات رمزية عالية، في الوقت الذي دأب فيه العديد من الباحثين للقول بأن إيران تبين أنها بعد واقعة “7 أكتوبر”، لا تهتم بغزة بقدر اهتمامها بلبنان وسوريا والعراق، لتجد نفسها اليوم ومحورها في العراق معقلًا أخيرًا لها بعد أن كانت الجغرافيا متصلة من طهران نحو البحر الأبيض المتوسط.
بطبيعة الأمر فإن ما ذكره مستشار الأمن القومي، قاسم الاعرجي، على منصة X بأن “زينب لن تُسبى مرتين”، يختصر واقع الصورة الذهنية للحكم في العراق الذي تسيطر عليه قوى الإسلام السياسي الشيعي، وهي بمثابة حدود الصدى الذي تلقته رسائل الجولاني والتي أرادت طمأنة النظام السياسي في العراق.
موقف حكومة بغداد الحالي لا ينفك عن الموقف الذي تبنته بعد “7 أكتوبر”، من خلال الاكتفاء باتباع وتكثيف الجهود الدبلوماسية والإغاثية، لكنها في ذات الوقت تجد نفسها مضطرة أيضًا للمسير على نفس الطريق في ظل التهديدات الإسرائيلية المتلاحقة وعودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وبالتالي بدا أن محاولات النأي بالنفس بالنسبة للحكومة في بغداد ضرورة ملحة، ولا خيار إلا تعزيز القوات على الحدود الممتدة إلى قرابة 350 كيلو متر من جهة القائم-البوكمال، والتي تضم صحراء واسعة يصعب تأمينها ومراقبتها.
ما يعزز من هذا الموقف اليوم، هي طبيعة الصراعات في المنطقة وما آلت إليه في غزة ولبنان واليوم سوريا، وعجز اللاعب الإيراني ووكلائه عن حفظ مناطق نفوذه ومد يد العون للفاعلين في محوره، إلى جانب ذلك فإن سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على محافظة دير الزور وتأمين منفذ البوكمال، لربما أنقذت النظام السياسي في بغداد -ولو مرحليًّا- من تداعيات وانعكاسات ما يجري نتيجة محاولة فصائل عراقية مسلحة العبور إلى سوريا، رغم أنها وُوجهت قبل سيطرة قسد بقصف أمريكي أودت بعدد من القتلى والجرحى، لكن اليوم تشكل “قسد” عازلًا جغرافيًّا بين العراق وبين المناطق التي سيطرت عليها المعارضة السورية التي تتصدرها “هيئة تحرير الشام”.
شعبيًّا، وبشكل عام، هنالك توجّس عام من الحالة اللادولتية والتنظيمات المسلحة، خاصة بعدما أدت إليه سيطرة داعش وسلوك الفصائل التي لا تأتمر بأوامر القائد العام للقوات المسلحة العراقية. أما شيعيًّا، على وجه الخصوص، فهنالك حالة من الحذر والترقب بعد الخسائر الفادحة التي تعرض لها حزب الله وفي كل حدث من هذا النوع تعود محاولات تحفيز سردية المظلمة والتهديد الوجودي، خاصة وأن صورة الجولاني المنتمي لتنظيم القاعدة وتصريحاته القديمة عن الشيعة ما تزال حاضرة في الذهنية الشيعية، لكن الواقع على الأرض اضطر بالعديد من الفصائل والقوى الشيعية القول بأن ما يجري في سوريا شأن داخلي، رغم أنها كانت سبّاقة في الزج بمقاتلين عراقيين إلى سوريا قبل سنوات. في حين أن الأمر سنيًّا أعقد بكثير، من أن يكون هنالك تنظيمات سنية تحاول السيطرة على مناطق النظام و “تحجيم النفوذ الايراني” بحسب السردية التي تتبناها المعارضة، فتجربة داعش ألقت بظلالها الثقيلة على الشارع السني وبات يشوبها الخوف والقلق من أي تحرك من هذا النوع ومن الضريبة التي سيتم دفعها نتيجة السيطرة على تلك المدن، ولربما إحدى الدلالات على ذلك التفاعل الخجول مع ما يجري، أو الاكتفاء بالإشادة بالمواقف الشيعية التي تدعو إلى عدم التدخل بشؤون سوريا الداخلية.
ختامًا، على ما يبدو، لا يجد النظام السياسي في العراق بدًّا من النظر إلى التطورات في سوريا كخطر محدق وداهم، وسيستخدم كافة الوسائل الدبلوماسية والممكنة للضغط باتجاه إيجاد حل سياسي، وسيجد نفسه في الأغلب الأعم يتعامل مع الموقف بحذر شديد ومتجنبًا -قدر الإمكان- التدخل المباشر خشية أن تصل التطورات إلى أراضيه، في مرحلة كانت فصائل عراقية مسلحة قد استهدفت سابقًا إسرائيل وقدمت الأخيرة على إثرها بيانًا إلى مجلس الامن متوعدةً باستخدام حق الدفاع عن النفس، مما يزيد من مخاوف أن يكون العراق هو الجبهة المفتوحة القادمة في المنطقة، بعد حالة التفكك التي أصابت حزب الله اللبناني، وسيطرة المعارضة على مساحات واسعة في سوريا، وسط عجز إيراني واضح في الدفاع عن الوكلاء والحلفاء.