المرحلة الانتقالية في سوريا: هل تُبنى المصالحة على أنقاض العدالة؟

أثار ظهور فادي صقر، أحد أبرز قادة “ميليشيات الدفاع الوطني” في عهد بشار الأسد والمتهم بالمشاركة في مجزرة حي التضامن عام 2013، موجة غضب في الأوساط السورية داخل البلاد وخارجها. فرغم ظهوره المسبق في الحي ذاته في فبراير الماضي، والذي فجّر احتجاجات شعبية من قبل أهالي الضحايا. إلا أنه عاد هذه المرة برفقة محافظ دمشق ماهر مروان ورئيس اللجنة العليا للسلم الأهلي حسن صوفان لتقديم واجب العزاء بمقتل شبان خُطفوا قرب العاصمة، في مشهد أثار تساؤلات حادة حول طبيعة التسويات الجارية ومآلات العدالة الانتقالية في سوريا.

في السياق ذاته، ظهر في الواجهة خالد الأحمد، المستشار غير الرسمي السابق لبشار الأسد، وابن قيادي بعثي سابق ينحدر من الطائفة العلوية، وصديق الرئيس الحالي أحمد الشرع. وبينما يُعاد تقديم الشخصيتين ضمن مساعي تحقيق السلم الأهلي، يطرح المشهد الأخير أمام هاتين الشخصيتين؛ تساؤلًا مركزيًا فيما لو تمثل اللجنة الانتقالية للسلم الأهلي مشروع مصالحة حقيقية يحقق المساءلة والمحاسبة لضحايا العمليات العسكرية الجرمية أم أنها غطاء لإعادة تدوير بعض أطراف منظومة القمع القديمة بأدوات جديدة؟ من خلال قراءة دلالات اختيار شخصيات مرتبطة بصلب النظام السابق مع تداعيات ذلك شعبيًا.

في مؤتمر صحفي عُقد في وزارة الإعلام بدمشق، أعلنت اللجنة العليا للسلم الأهلي عن إطلاق سراح عدد من الضباط العاملين منذ عام 2021، والذين كانوا قد سلموا أنفسهم طوعًا على الحدود العراقية ضمن ما يُعرف بحالات “الاستئمان”. وفي السياق نفسه، برّرت اللجنة منح فادي صقر-أحد المفرجين عنهم- الأمان وعدم توقيفه، بقرار من القيادة السورية، على اعتبار أن ذلك يندرج ضمن تقدير للمشهد يهدف إلى حقن الدماء وتفادي التصعيد. في وقت لاحق، خرج فادي الأحمد، المعروف بفادي صقر، ليعلن استعداده للمثول أمام القضاء السوري في حال توفرت أدلة تدينه بارتكاب جرائم خلال فترة قتاله إلى جانب نظام الأسد. وأكد أنه لم يحصل على عفو من الحكومة السورية الجديدة، مشددًا على أن خلفيته القيادية في ميليشيا موالية للنظام السابق تمنحه مصداقية أمام أنصار نظام الأسد السابق، مما يساعده في إقناعهم بعدم التخلي عن الحكومة الحالية.

غير أن هذا القرار يُسلّط الضوء على نقطتين محوريتين: أولًا، مدى فاعلية اللجنة العليا للسلم الأهلي في القيام بدورها والغاية من تشكلها وتحديدًا في تحقيق مصالحة حقيقية دون التفريط بحقوق الضحايا على اعتبار أن قرار الإفراج عن فادي صقر جاء بقرار من الإدارة السورية العليا؛ وثانيًا، حجم التنازل عن العدالة في سبيل الاستقرار الظاهري الذي قد يكون مؤقت اجتماعيًا، مع غياب الرؤية لتأثير حجم هذا التنازل شعبيًا. فيبدو أن هذا الشكل من المصالحة أو التسوية لا يعيد بناء المجتمع السوري المهمش المتعب من مرارة وويل سنوات الحرب، بل يكرس مما يمكن أن يُطلق عليه “العدالة الانتقائية” إذا صح التعبير. إذ كيف يمكن الحديث عن سلم أهلي في ظل تغييب المحاسبة عن جرائم موثقة مثل مجزرة التضامن، التي تُعد من أكثر الانتهاكات تأثيرًا في الذاكرة الجمعية السورية؟

إن مثل هذه السياسات تفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول مدى قدرة المسار على التوفيق بين أهداف السلم الأهلي ومتطلبات العدالة، لا سيما في حال طغى منطق التسويات على حساب المحاسبة. كما تثير هذه السياسات شعورًا عامًا لدى فئة مهمة من السوريين بنوع من “الخذلان” من عدم محاسبة رموز جرائم النظام، وعدم إحالتهم للقضاء العادل، دون إدراك عن حجم تأثيرها على ثقة المجتمع السوري بمشروع المصالحة الوطني. ومن الجدير تقديم مقاربة ناقدة هنا؛ تحديدًا مع شكل التسويات التي انتهجها النظام السابق خلال عامي 2018 و2020 برعاية روسية، والتي أفرزت تحديات أمنية ملحوظة في الجنوب السوري منها حالة الانفلات الأمني، وأسهمت في تعقيد شكل العلاقة ما بين المركز والأطراف، وكذلك بين الفاعلين المحليين أنفسهم بصورة خدمت المصالح المتباينة على الصالح العام.

أما عن خالد الأحمد، الذي عُيّن في لجنة السلم الأهلي في الساحل، كان قد برز دوره بعد اندلاع الثورة السورية، إذ كان ممن أسهموا في إطلاق مشروع المصالحة الوطنية وقام بتأدية دور دبلوماسي سري، وشارك في مفاوضات سرية مع مسؤولين أميركيين. إلا أن علاقته بالأسد تأثرت بعدما قام مدير المكتب الأمني في القصر الجمهوري حينها بكتابة تقارير تتهمه بالفساد المالي والارتباط بعلاقات دولية مضرة بالأسد بعد العام 2018، وأُبعد على إثرها إلى لبنان، لحين عودته إلى حاضنة الثورة إدلب عبر وسطاء أتراك حاملًا خطة تهدف إلى تقويض سلطة الأسد.

في المقابل، كان قد أكد وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى على إشكالية شخصية فادي صقر، للسوريين وللدولة السورية، مبينًا أن حالة الاستئمان حالة مؤقتة قابلة للمراجعة من قبل اللجنة، ولا تمثل حكمًا نهائيًا. في ضوء ما سبق، يُلاحظ أن المسار الذي تنتهجه اللجنة العليا للسلم الأهلي في هذه الحالة تحديدًا لم ينجح حتى الآن في تبديد المخاوف لدى بعض السوريين؛ لا سيما في ظل الشعور بأن مقاربة المصالحة قد تميل أحيانًا إلى تجاوز المساءلة، ما يثير تساؤلات حول إمكانية تحقيق توازن فعلي بين متطلبات الاستقرار ومتطلبات العدالة في جرائم لا تزال آثارها صارخة.

ربما يقرأ السوريون أن اختيار فادي صقر لا يعتبر حالة فردية، بل نموذجًا لنمط مقلق من الإفلات من العقاب يعكس إشكالية بنيوية في مشروع المصالحة المطروح: فهل يمكن بناء سلم أهلي على ركام عدالة مؤجلة دون أن تتضح خطوط كل من السلم الأهلي والعدالة الانتقالية. بالرغم من تأكيد رئيس لجنة السلم الأهلي في الساحل حسن صوفان على أن الافراج عنه ليس بديلًا عن العدالة الانتقالية وتقع مسؤولية تحقيق العدالة على عاتق اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية. مؤكدًا على أن جزءًا رئيسيًّا من دور وعمل لجنة السلم الأهلي العمل بعيدًا عن الإعلام، لدعم مسار الاستقرار في البلاد من خلال توفر الظروف الموضوعية التي تمهد لمشاريع المصالحة الوطنية بعيدًا عن الأجواء المضطربة التي قد تحرف بوصلة المسار.

في المقابل، قد تبدو شخصيات مثل خالد الأحمد وفادي الأحمد كمحاولة لإعادة إنتاج نوع وشكل من أشكال العلاقة بين الحكومة السورية وبعض المكونات المجتمعية السورية، بحكم امتلاك قدرة أعلى على التفاوض والتموضع. غير أن التباين بين النموذجين (صقر والأحمد) قد لا يعكس توازنًا واضحًا بقدر ما يكشف عن ازدواجية قد تعكس مسعى لتحقيق غاية وظيفية، وتطرح تساؤل عن آلية ضمان تحقيق شكل تكاملي في مسار السلم الأهلي بما لا يتعارض مع مفهوم العدالة، وترتبط بمن يملك القدرة على تعريف السلم الأهلي؟ ومن يملك حق العفو ضمن هذا السياق؟

زر الذهاب إلى الأعلى