الضربة الأمريكية على المنشآت النووية وحدود الاستجابة الإيرانية: تقييم أولي
يتدحرج المشهد الإقليمي المتأزم سريعًا بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، فجر اليوم الأحد عن شن هجوم على عصب المشروع النووي الإيراني من خلال استهداف منشآت (فوردو، نطنز، أصفهان)، باستخدام 6 قاذفات من طراز B-2 “الشبح” لإسقاط 12 قنبلة “خارقة للتحصينات” على موقع فوردو النووي في إيران، و 30 صاروخ كروز من طراز TLAM من خلال غواصات على موقعي نطنز وأصفهان، وأسقطت طائرة B-2 قنبلتين خارقتين للتحصينات على نطنز، بعد أن كانت إسرائيل في 13 يونيو/حزيران الجاري قد بدأت هجومًا مُحكمًا استهدفت من خلاله مجموعة من القيادات العسكرية العليا الإيرانية، تبعها قصف منشآت وقواعد عسكرية حيوية دفاعية وهجومية إيرانية، ردت عليه إيران بإغراق ناري جوي استخدمت من خلاله صواريخ باليستية نوعية وفرط صوتية “هايبر سونيك” استهدفت تل أبيب ومدن أخرى تسيطر عليها إسرائيل، في ظل جو من الضبابية كان يسود الموقف الأمريكي الذي كان قد أعلن عن مساندة إسرائيل دفاعيًّا إلا أنه لم يقرر حينها القيام بعملية نوعية بعد دخول الطرفين الإيراني والإسرائيلي في بدايات مرحلة الاستنزاف.
بقدر ما مارست إسرائيل والولايات المتحدة من تضليل للجانب الإيراني، فإن الأخير أيضًا كان قد فاجأ الجانب الإسرائيلي بعد أن فعّل منظومته الصاروخية، وأفرج عن صواريخ نوعية، لم تستخدم في (الوعد الصادق 1) و (الوعد الصادق 2)، العام الماضي، رغم أن بعض التقارير كان قد أشارت إلى أن المنظومة الصاروخية الإيرانية قد تم شلها بشكل كبير بفعل الرد الإسرائيلي على الهجمات الإيرانية في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، إلا أن الحليف الأمريكي في المقابل كان يعد العدة لهجوم مختلف ونوعي، إذ كانت المؤشرات العسكرية تشير بوضوح إلى وجود ضربة مرتقبة سواء من خلال وصول حاملات الطائرات إلى المنطقة أو وصول طائرات تحمل قذائف B-2 إلى قاعدة دييغو غارسيا، إلا أن التضليل كان يتمثل في التوقيت بعد أنأدعى ترمب أنه سيمنح إيران أسبوعين للجلوس على طاولة التفاوض.
على الرغم من أن الضربة الأمريكية بدت نوعية واستهدفت مواقع حساسة للغاية، ولم تظهر بعد التقارير من الجانب الإيراني التي تقيم حجم الأضرار، إلا أن هذا التدخل الأمريكي والخطاب الذي لحقه لترمب يشير بشكل أولي إلى عدم الرغبة الأمريكية بتوسيع الحرب، وهذه الرغبة كانت تتشارك فيها إيران -على الأقل قبل الضربة- لكن لا تتشارك فيها إسرائيل التي سعت منذ “7 أكتوبر” إلى توسيع رقعة الحرب والزج بالولايات المتحدة في حرب إقليمية.
لكن الضربة في نفس الوقت، تعكس الرغبة الجامحة للرئيس الأمريكي الذي سعى منذ البداية إلى تحقيق اختراق في الملف النووي الإيراني وتحقيق ما عجزت عنه الإدارات الديمقراطية، وتمثلت فيما يسميه ترمب “القوة من أجل السلام” أو ما يسمى علميًّا بـ “الدبلوماسية القسرية” Coercive Diplomacy التي كان الرئيس الأمريكي قد مارسها من خلال الدخول في المفاوضات رغم توقيعه على مرسوم “سياسة الضغوط القصوى ضد إيران”، إلا أنه اليوم انتقل إلى مستوى آخر عبر شن عمل عسكري يستهدف أهم مشروع استراتيجي بالنسبة للجمهورية الإسلامية، في الوقت الذي عمدت فيه إسرائيل منذ الإعلان عن البدء بعملية “الأسد الطالع” إلى قطف رؤوس القيادات الإيرانية ووضع الأجواء الإيرانية في حالة من الحظر في ظل محاولات إيرانية فرض الحظر الجوي على إسرائيل لتغيير مسار التصعيد بعد توجيه ضربات نوعية استهدفت الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل وألحقت خسائر بشرية وفي عدد من المنشآت وتوجيه عدد من المسيرات نحوها.
يدعو الرئيس الأمريكي إيران إلى السلام والجلوس على طاولة التفاوض، وهو بذلك يعتقد أن الضربة الأمريكية النوعية لا تعني بالضرورة توسع دائرة الصراع، فهو يدرك حجم الصدمة وحالة الانهاك التي كانت قد أصابت الجانب الإيراني، إلا أن التدخل الأمريكي يفتح المجال أمام مجموعة من السيناريوهات المتعلقة بالاستجابة الإيرانية لهذه الضربة، فمنذ البداية اتهمت إيران الولايات المتحدة بأنها شريك لإسرائيل في ضرباتها، وأعربت عن عدم الثقة بالجانب الأمريكي الذي مارس تضليلًا مستمرًا، وبالتالي لا يتعلق الأمر بالضرورة بتقييم حجم الخسارة فقط بقدر ما يتعلق بدلالات وتداعيات انخراط الولايات المتحدة وتهديد الرئيس الأمريكي بتكرار الضربات في حال عمدت إيران إلى الرد، مما يضع المشهد أمام مجموعة من الخيارات:
- توسيع الهجمات الإيرانية وتفعيل ما تبقى من حلفاء في المنطقة ليشمل الاستهداف المصالح والقواعد العسكرية الامريكية في المنطقة ومهاجمة مفاعل دايمونا الإسرائيلي، والذي قد يلحقه إغلاق أو التضييق على مضيق هرمز الذي سيتسبب بتداعيات اقتصادية عالمية؛ وهو ما تدرس إيران بالتأكيد كلفته الحالية والاستراتيجية، فهو يعني إعلان حرب شاملة.
- امتصاص الصدمة ومحاولة التعامل معها والبحث عن رد محدود، وسابقًا كانت واشنطن قد تعاملت مع هذا الخيار بعد مقتل الجنرال سليماني في محيط العاصمة بغداد في 2020، وقد يمثل خيارًا مناسبًا للجانب الإيراني الذي يرى ضرورة عدم رفع كلفة الخسارة مزيدًا؛ وما قد يعزز من هذا الخيار هي التسريبات التي تحدثت عن رسائل أمريكية الى الجانب الإيراني بعدم رغبتها بالإطاحة بالنظام السياسي، رغم أنه هدف إسرائيلي معلن، وتسريبات أخرى تتحدث عن إشعار أمريكي مسبق للجانب الإيراني بقصف المواقع النووية.
- القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات، وهذه المرة سيتحدث الجانب الأمريكي عن تفكيك البرنامج النووي بالكلية والبرنامج الصاروخي الذي أظهر قدرات نوعية في القصف على الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل.
- الاستمرار بحصر الصراع مع الجانب الإسرائيلي، عبر إطلاق الصواريخ واستقبال المسيرات، مما يعني الاستمرار بحرب الاستنزاف بين الطرفين لكن مع محاولة رفع الكلفة على الجانب الإسرائيلي في محاولة لتغيير المعادلة وهو ما لا يتسق كثيرًا مع الخطاب الذي ألقاه ترمب اليوم.
- رفع مستوى تخصيب اليورانيوم فيما تبقى من منشآت، أو إنتاج أسلحة نوعية، في ظل حديث خبراء عن احتمالية وجود منشآت سرية، إلى جانب انسحاب إيران من معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي.
في الوقت الذي أبدت فيه طهران، التزامًا بالعودة إلى المسار الدبلوماسي إلى جانب إطلاقها للصواريخ والمسيرات، فإنها قد تذهب باتجاه إحدى الخيارات آنفة الذكر أو قد تدمج أكثر من خيار في ظل محدودية الخيارات. ويبقى مستقبل النظام السياسي يحدده الداخل الإيراني، الذي حاولت إسرائيل والولايات المتحدة من خلال قصف المنشآت النووية واستهداف القيادات العليا والاستهداف المتكرر للعاصمة طهران في ظل تدهور الوضع الاقتصادي مع استمرار الحرب الأمر إلى أن يؤدي بطبيعة الحال إلى ضرب القيمة الرمزية للنظام السياسي الذي تحاول إسرائيل فصله عن الشارع الإيراني.
الأهم من ذلك، هو الأسئلة على المدى القريب والمتوسط سواء المتعلقة بمستقبل إيران أو مستقبل المنطقة، فما قبل الضربة ليس كما بعدها، وبالتالي بقدر ما أن الأمر يتطلب توقع حدود الاستجابة الإيرانية والخيارات، فهنالك حاجة ماسة إلى دراسة معمقة للتداعيات والكلف الاستراتيجية، لكن بشكل عام قد يجد النظام السياسي في إيران نفسه أمام خيارين؛ إما تقبّل الصدمة وامتصاصها مما قد يعني الحفاظ على النظام السياسي، وإما الانزلاق نحو خيارات تدفع كلفتها إيران والمنطقة وتسعى إلى أن يدفع كلفتها أيضًا كل من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.