الديناميات الداخلية في شمال شرق سوريا ومستقبل القضية الكردية
نُشرت هذه المادة، في العدد الثالث من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع JPS.
ملاحظة
إن الآراء والمواقف الواردة في هذه المجلة تعبّر عن وجهات نظر الكتّاب ولا تعكس بالضرورة مواقف أو توجهات معهد السياسة والمجتمع أو هيئة التحرير.
تُمثل منطقة شمال شرق سوريا (التي تضم ثلاث محافظات هي الحسكة والرقة ودير الزور) بؤرة توتر جيوسياسية معقدة، تتشابك فيها مصالح فاعلين محليين وإقليميين ودوليين، وتطرح القضية الكردية نفسها كأحد أبرز محددات مستقبل المنطقة وسوريا ككل. شهدت المنطقة تحولات جذرية منذ اندلاع الثورة السورية، ولاحقاً مع ظهور “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” و “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. تهدف هذه المقالة التحليلية إلى تقديم تحليل معمق للديناميات الداخلية في شمال شرق سوريا، ودور الفاعلين الإقليميين والعابرين للحدود، لا سيما تركيا وحزب العمال الكردستاني PKK، في تحديد مستقبل مسار الحكم المحلي والهياكل العسكرية في شمال شرق سوريا، وتقييم آفاق العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة السورية الجديدة في دمشق.
الديناميات الداخلية في شمال شرق سوريا
تتميز منطقة شمال شرق سوريا بتنوع عرقي وديني واسع يشمل العرب والكرد والآشوريين والسريان وغيرهم، عاشت هذه المكونات تاريخياً في تعايش نسبي قائم على علاقات اجتماعية واقتصادية متبادلة. لكن السياسات المتعاقبة للدولة السورية منذ منتصف القرن الماضي، تسببت في تهميش واسع للمنطقة، انعكس في غياب التنمية المستدامة ونقص حاد في الخدمات وتهالك البنية التحتية، إضافة إلى السياسات الزراعية الفاشلة التي أدت إلى استنزاف الموارد المائية وتفاقم ظاهرة الجفاف التي بلغت ذروتها في العقد الأول من الألفية الثالثة، مما أدى إلى هجرة واسعة لسكان المنطقة نحو المدن الكبرى[1].
كما انتهجت الحكومات السورية المتعاقبة منذ خمسينيات القرن العشرين سياسات تهميش ممنهجة بحق الكُرد تحديداً، أبرزها إحصاء عام 1962 الذي نزع الجنسية عن آلاف الأكراد، وسياسة “الحزام العربي” التي استهدفت تغيير التركيبة الديمغرافية لمناطق ذات أغلبية كردية عبر توطين أسر عربية فيها. كما تضمنت هذه السياسات تقييد استخدام اللغة والثقافة الكردية ومنع الاحتفالات بالأعياد الكردية، رغم محاولات استرضاء مؤقتة لأغراض سياسية، كدعم الأكراد في دول الجوار، أو السماح لعدد محدود من الشخصيات ذات الأصول الكردية بتولي مناصب حكومية عليا كدليل شكلي على المساواة والاندماج أو منح الجنسية لعدد محدود من الكرد بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 كنوع من “الرشوة السياسية” لثنيهم عن المشاركة في الثورة[2].
نتيجة هذه السياسات، ترسخت حالة من العزلة والاغتراب لدى الكرد، مما عزز التوجهات القومية والسياسية لديهم، وظهر ذلك بوضوح خلال أحداث انتفاضة القامشلي عام 2004، التي اعتُبرت نقطة تحول حاسمة في بلورة الهوية السياسية الكردية.
بعد انطلاق الثورة السورية 2011، أفرز التنوع الكبير في منطقة شمال شرق سوريا علاقات معقدة بين المكوّنات المحلية، حيث تراوحت بين التعاون والتحالف تارة، والتوتر والاحتقان تارة أخرى. ولقد أثّر شكل هذه العلاقات الداخلية على استقرار المنطقة وآليات الحوكمة فيها بشكل واضح.
مع انهيار مؤسسات الدولة السورية وانسحابها تدريجياً من مدن وبلدات شمال شرق سوريا، تشكلت إدارة ذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ككيان حكم محلي فرض سيطرته تدريجياً على أجزاء واسعة من شمال وشرق سوريا (إعلان الإدارات المحلية ثم “فيدرالية شمال سوريا” ولاحقًا “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”). وسعت هذه الإدارة إلى ترسيخ نموذج حكم محلي قائم على سردية “الأمة الديمقراطية”، التي تستلهم من أدبيات حزب العمال الكردستاني (PKK). منذ بدايات تشكّل الإدارة الذاتية حرص القائمون عليها على تبنّي خطاب التعددية وتمثيل كل المكونات، فتم إنشاء مجالس محلية وهيئات تضم ممثلين عن العرب والسريان إلى جانب الكرد، واعتماد ثلاث لغات رسمية (الكردية، العربية، السريانية) في مؤسسات الإدارة.
رغم هذه المحاولات الشكلية، تشير التجارب الميدانية إلى خلل واضح في توزيع السلطة، حيث تهيمن كوادر حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بشكل شبه تام على مفاصل اتخاذ القرار المدني والعسكري، بينما يتم تهميش القوى المحلية التي لا تتماهى مع هذا المشروع، حيث تُمارس المجالس المدينة والعسكرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية صلاحيات محدودة وتخضع لرقابة أمنية مشددة من الأجهزة الموازية التابعة لـ PYD وحزب العمال الكردستاني PKK، ما يُضعف فاعليتها التمثيلية. تراكم الشعور بالتهميش والاستياء، لاسيما في محافظتي دير الزور والرقة أدى إلى توترات عديدة، أبرزها الاحتجاجات التي شهدتها مدن مثل منبج والرقة بين عامي 2020 و2022، واحتجاجات متقطعة في دير الزور منذ 2019 والتي ركزت مطالبها في وقف عمليات التجنيد القسري التي تفرضها قسد، والإفراج عن المعتقلين وإيقاف عمليات الاعتقال التعسفية والانتهاكات التي تطال المدنيين وتحسين تمثيل المكون العربي في هياكل الإدارة الذاتية، إضافة إلى ضمان عادل لتوزيع الموارد والخدمات[3]. أثرت هذه الاحتجاجات المستمرة على تماسك قوات سوريا الديمقراطية، خاصة في أعقاب ماعُرف بـ “انتفاضة العشائر” في دير الزور التي بدأت في نهاية آب/أغسطس 2023، على خلفية اعتقال أحمد الخبيل “أبو خولة” رئيس مجلس دير الزور العسكري التابع لقسد، حيث امتدت الاشتباكات المسلحة على نطاق واسع في دير الزور واستمرت قرابة عشرة أيام، أسفرت عن عشرات الضحايا وانتهت باستعادة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المنطقة[4]. ويمكن اعتبار “انتفاضة العشائر ” في دير الزور تعبيراً واضحاً عن حالة التوترات المتراكمة وهشاشة الحكم المحلي الذي أفرزته الإدارة الذاتية منذ اعلان تأسيسها[5].
وفي السياق الكردي الداخلي، تعاني البيئة السياسية الكردية من انقسام عميق بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي[6]. إذ يتهم المجلس الوطني الكردي حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بالهيمنة على القرار السياسي ومنع التعددية الحزبية والتضييق على نشاطه في مناطق الادارة الذاتية. هذا الانقسام الحاد أضعف شرعية الإدارة الذاتية داخلياً وأسهم في توسيع الهوة بين الكرد أنفسهم، ما انعكس سلباً على استقرار المنطقة وفاعلية الحوكمة.
كما أن العلاقة مع المكون المسيحي، رغم غياب المواجهات المباشرة، تشهد حالة من التعايش السياسي المشروط، إذ يشارك جزء من المكون المسيحي السرياني والآشوري في الإدارة الذاتية ضمن حدود محددة، لكن أي توترات تتعلق بالمصالح أو توزيع النفوذ قد تهدد هذا التعايش الهش.
في المحصلة، ورغم نجاح الإدارة الذاتية النسبي في فرض الاستقرار الأمني، فإن دينامياتها الداخلية تكشف عن ضعف في آليات الحوكمة، حيث تواجه تحديات جدية تتمثل في ضمان مشاركة حقيقية لجميع المكونات، وفصل واضح بين المؤسسات العسكرية والمدنية، وتقليص التأثير الأيديولوجي لحزب العمال الكردستاني. ومن دون معالجة هذه القضايا البنيوية، ستظل المنطقة عرضة لتوترات دورية تهدد استقرارها وتعرقل بناء نموذج حكم محلي مستدام.
تأثير الجهات الفاعلة الإقليمية على مسار الحكم المحلي في شمال شرق سوريا
لا يمكن فهم الديناميكيات المعقدة في شمال شرق سوريا بمعزل عن تأثيرات الفاعلين الإقليميين والعابرين للحدود، لاسيما الدور المحوري الذي يلعبه كل من حزب العمال الكردستاني (PKK) وتركيا. فقد كان لهذين الفاعلين، بأجنداتهما المتعارضة ومصالحهما المتضاربة، تأثير عميق ومباشر على مسار الحكم المحلي وتشكل الهياكل العسكرية والسياسية في المنطقة ومسارها المستقبلي.
ترتبط الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا بحزب العمال الكردستاني PKK من الناحية الأيديولوجية والتنظيمية ارتباطاً وثيقاً. حيث يعتبر حزب الإتحاد الديمقراطي PYD – المهيمن على الإدارة الذاتية– فرعاً سورياً لحزب PKK، ويتبنى أفكار زعيمه عبد الله أوجلان بشأن “الكونفدرالية الديمقراطية”[7]. بالتالي، ومن الناحية العملية فقد تشكلت البنية العسكرية “قسد” استناداً إلى عقيدة وانضباط مستوحى من حزب العمال الكردستانيPKK، مع مراعاة لخصوصية الساحة السورية. إضافة إلى ذلك، فإن العديد من كوادر حزب العمال الكردستاني من جنسيات مختلفة (تركية وإيرانية) عبروا الحدود إلى سوريا للمشاركة في قتال تنظيم “الدولة الإسلامية” وتدريب مقاتلي قسد[8]. هذه العلاقة جعلت الإدارة الذاتية هدفاً للضغوط التركية، التي ترى فيها امتداداً مباشراً لـ PKK، وبالتالي خطراً أمنياً مباشراً على حدودها الجنوبية.
وفَّر وجود حزب العمال الكردستاني في خلفية المشهد الحوكمي في شمال شرق سوريا عمقاً استراتيجياً للإدارة الذاتية، لكنه وضع كذلك العديد من العراقيل في مسار هذه الإدارة. فمن جهة، استفادت قوات سوريا الديمقراطية من خبرات مقاتلي PKK وتكتيكاتهم العسكرية في قتال تنظيم “الدولة الاسلامية” وبناء منظومة أمنية فعّالة. ومن جهة أخرى، منعت قسد والإدارة الذاتية من كسب ثقة شريحة واسعة من سكان شمال شرق سوريا من العرب والكرد المعارضين لسياسات حزب العمال الكردستاني، وقيدت تسويقها السياسي داخلياً وخارجياً. على المستوى المحلي، تعرضت الإدارة الذاتية لانتقادات من أطراف معارضة كردية سورية (كالمجلس الوطني الكردي)، وتيارات سياسية سورية تتهمها بالتبعية المطلقة لـ PKK، وبقمع أي تنوع سياسي في مناطق سيطرتها. وعلى المستوى الدولي، شكل الارتباط الوثيق بـحزب العمال الكردستاني عقبة في طريق قبول كثير من الدول (لا سيما الغربية والعربية) للمشروع السياسي للإدارة الذاتية؛ إذ تتحفظ تلك الدول بسبب إدراجها الـPKK كمنظمة إرهابية، رغم تعاونها عسكريًا مع قسد ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”. في المحصلة، ألقت هوية الإدارة الذاتية المرتبطة بحزب العمال بظلالها على مشروعيتها، فمن منظور أنقرة وعواصم إقليمية أخرى لا تختلف قسد عن PKK في شيء، ومن منظور واشنطن هي شريك فعّال ضد الإرهاب لكنها مُحرِجة سياسياً بسبب خلفيتها الفكرية وارتباطاتها التنظيمية.
أما تركيا، فقد نظرت إلى بروز كيان حكم محلي بقيادة كردية وهيمنة لحزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية كتهديد وجودي لأمنها القومي. فعلى امتداد سنوات الحرب في سوريا لعبت أنقرة دوراً حاسماً في رسم خطوط وحدود تجربة الإدارة الذاتية عبر مزيج من التدخل العسكري المباشر والضغط السياسي والحصار الاقتصادي. بدأت تركيا منذ عام 2016 سلسة عمليات عسكرية في شمال سوريا استهدفت تقويض أي “كيان كردي” مستقل؛ فعملية “درع الفرات” (2016) قطعت التواصل بين كانتونات الإدارة غرب نهر الفرات وشرقه؛ وعملية “غصن الزيتون” (2018) انتزعت منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية من يد وحدات حماية الشعب التابعة للإدارة الذاتية؛ ثم أتت عملية “نبع السلام” (2019) لتسيطر على المنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض شرق الفرات، موجهة ضربة قوية لوحدة جغرافية مشروع الإدارة الذاتية. بهذا، نجحت أنقرة في حرمان الإدارة الذاتية من السيطرة على جزء معتبر من حدودها مع تركيا، وجعلت بقية المناطق تحت رحمة التفاهمات الأمنية الروسية-التركية- الأمريكية (كما في منبج وكوباني/عين العرب حيث حالت التفاهمات دون اجتياح تركي مقابل تراجع قسد عن الحدود)[9].
لكن تأثير تركيا و PKK لا يمكن اختزاله في الصراع بينهما فحسب؛ فكلاهما بات عاملاً مقرراً في معادلة الحكم المحلي. PKK بحكم حضوره الفكري والتنظيمي ضمن قسد رسم معالم تجربة الإدارة الذاتية، وتركيا رسمت الخطوط الحمراء الخارجية لهذه التجربة، وحددت حدود توسعها الميداني، وتسببت ضغوطها في تقييد طموحات الإدارة نحو الاعتراف الدولي. ولاتزال تركيا تلعب دوراً بارزاً في مسار مفاوضات دمشق مع الإدارة الذاتية وما يتعلق بها من مساعي دمج قوات سوريا الديمقراطية في وزارة الدفاع السورية الجديدة ومستقبل الشكل الحوكمي في شمال شرق سوريا.
وفي الوقت نفسه، شهدت السنوات الأخيرة قبل سقوط نظام الأسد تطورًا هامًا تمثل في انخراط إقليمي عربي حذر في معادلة الشمال الشرقي. حيث أبدت دول عربية (كالإمارات ومصر والسعودية) اهتماماً ملحوظاً بتوازنات هذه المنطقة، من خلال فتح قنوات مع قسد ومناقشة سُبل دعم مبادرات عشائرية عربية، وذلك في إطار منافسة النفوذ التركي والإيراني لاسيما مع ظهور بوادر بدء انسحاب أمريكي[10]. محاولات التحرك العربي أظهرت أن التأثيرات العابرة للحدود لا تقتصر على تركيا وPKK فقط، بل تشمل طيفًا أوسع من اللاعبين الذين يرون في شمال شرق سوريا ساحة صراع بالوكالة لتحقيق مصالحهم الجيوسياسية، غير أن الدور التركي يظل الأبرز والأكثر مباشرة، بحكم الحدود المشتركة الطويلة والتداخل السكاني والتاريخي، وكذلك بحكم الصراع الطويل مع حزب العمال الكردستاني.
يمكن القول إن حزب العمال الكردستاني وتركيا شكّلا بمثابة قوتي شد وجذب لمشروع الإدارة الذاتية. وفّر PKK له الإطار النظري والعصب التنظيمي، ولكنه جره إلى مأزق صراع دائم مع دولة مجاورة قوية. وتركيا دفعت نحو إضعاف المشروع وتقويضه، لكنها أيضًا أرغمته على التطور والتكيّف مع التحديات. ومع تطورات محادثات السلام الأخيرة في تركيا بين أنقرة وعبد الله أوجلان، فقد شكَّل إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) في أيار/مايو 2025 عن حلّ نفسه رسمياً وإنهاء العمل المسلح نقطة تحوّل استراتيجية لمستقبل الحكم المحلي في شمال شرق سوريا[11]. أزاح قرار حلّ PKK عن كاهل الإدارة الذاتية أحد أكثر العوائق التي كانت تحدّ من تمددها السياسي داخلياً، وتفرض عليها الدخول في صراع مستمر مع تركيا. إعلان حلّ الـ PKK قد يفتح الباب أمام إعادة تعريف قسد كقوة دفاع محلية مستقلة، قابلة للدمج التدريجي في بنية الجيش السوري والقيام بأدوار وطنية تتجاوز منطقة شمال شرق سوريا، وبالتأكيد سيكون له تأثير مباشر على الإدارة الذاتية ويمنحها هامشاً أكبر في مفاوضاتها مع دمشق وإمكانية التوصل إلى تفاهمات حول مستقبل هياكل الحكم المحلي في شمال شرق سوريا.
آفاق الاتفاق السياسي بين دمشق والإدارة الذاتية
مع سقوط نظام الأسد نهاية عام 2024، بدأت مرحلة انتقالية جديدة كُسِرَت فيها حلقة الاستعصاء السوري، وتبدلت معها توازنات القوى على مستوى الفاعلين المحليين. ومع ذلك، ما تزال إعادة توحيد البلاد تحت سلطة الحكومة السورية الانتقالية مسألة شديدة التعقيد، خاصة في ظل استمرار سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على مناطق شمال شرق سوريا، ووجود هياكل حكم محلي متمايزة ممثلة بـ “الإدارة الذاتية”، والتي نشأت وتوسعت خلال السنوات الماضية.
منذ تأسيسها، سعت “قسد” إلى التموضع كقوة ثالثة خارج ثنائية النظام والمعارضة، معتمدة على دورها المحوري في قتال تنظيم “الدولة الاسلامية” والدعم العسكري الذي وفره لها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وطرحت الإدارة الذاتية نموذجها الحوكمي مستفيدة من حالة التنازع على الشرعية بين النظام والمعارضة. إلا أن هذا النموذج لم يحظَ بأي اعتراف رسمي، لا من النظام السوري السابق، ولا من المعارضة المعترف بها دولياً، ولا من الدول الغربية التي اقتصرت علاقتها بالإدارة على البعد الأمني والعسكري.
اليوم، وفي ظل تشكل حكومة انتقالية جديدة في دمشق تحظى بقبول أولي من الأطراف المحلية والدولية، تجد “الإدارة الذاتية” نفسها أمام مفترق طرق وجودي. فالمفاوضات المباشرة الجارية بينها وبين الحكومة السورية قد تحدد مصير هياكلها السياسية والعسكرية، في وقت تواجه فيه ضغوطًا مستمرة من تركيا، ومؤشرات متزايدة على انسحاب أمريكي قريب من المنطقة.
رغم الاتفاق المبدئي الذي وُقّع بين الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي في آذار/مارس 2025، والذي تضمّن اتفاقاً مبدأياً لدمج مؤسسات “الإدارة الذاتية”، المدنية والعسكرية، ضمن بنية الدولة السورية[12]، لا تزال وتيرة التقدم في مسار المفاوضات بطيئاً، في ظل تباين عميق في الرؤى حول قضايا جوهرية، أبرزها مستقبل القوات العسكرية، وهيكل الحكم المحلي، وتوزيع الموارد السيادية، وخاصة النفط والمياه. وبينما تصر دمشق على استعادة السيطرة المركزية الكاملة، تسعى “قسد” للإبقاء على حد أدنى من الحكم الذاتي في إطار الدولة، بما يضمن تمثيلًا سياسيًا للكرد وضمانات لحماية مكتسباتهم.
أمام هذا الواقع المركّب، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لمستقبل هياكل الحكم المحلي في شمال شرق سوريا
1. الاندماج التفاوضي التدريجي:
يفترض هذا السيناريو التوصل إلى اتفاق سياسي بين الحكومة السورية والإدارة الذاتية، يُبنى على مبدأ اللامركزية الإدارية الموسعة ضمن إطار الدولة الموحدة. ويتضمن إعادة هيكلة مؤسسات الحكم المحلي لتكون أكثر شمولاً وتمثيلاً لكافة المكونات السكانية، إلى جانب إدماج تدريجي لقوات قسد ضمن بنية الجيش السوري، بما يحفظ لها دوراً تكميلياً على المستوى المحلي. إضافة إلى الاعتراف الدستوري بالحقوق الثقافية والسياسية للكرد وضمان خصوصيتهم الإدارية في المناطق ذات الغالبية الكردية. يتطلب نجاح هذا المسار توافقاً كردياً داخلياً بين المكونات السياسية (وخاصة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي)، فضلاً عن دعم إقليمي ودولي، لا سيما من قبل الولايات المتحدة وتركيا، لتخفيف المخاوف الأمنية والتوازنات الجيوسياسية.
2. الحكم المحلي المؤقت تحت إشراف مركزي:
يتيح هذا السيناريو الحفاظ المرحلي على بعض هياكل الإدارة الذاتية بوصفها أجساماً تنفيذية محلية، تعمل تحت إشراف مباشر من الحكومة في دمشق. ويشمل هذا الترتيب المؤقت تقليص صلاحيات الإدارة تدريجياً، ودمج قوات قسد إدارياً وأمنياً في مؤسسات الدولة الرسمية، مع الإبقاء على بعض الترتيبات الأمنية والمدنية ريثما يتم صياغة دستور جديد يعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف. يمثل هذا السيناريو حلاً مؤقتاً يهدف إلى احتواء الوضع الأمني ومنع الفراغ الإداري، ويُستخدم كمرحلة انتقالية باتجاه تنظيم الحكم اللامركزي في الدولة الجديدة.
3. التفكيك التدريجي والحل القسري:
يفترض هذا السيناريو فشل المفاوضات بين الطرفين، وتصاعد الضغوط الإقليمية والدولية، لا سيما في حال حدوث انسحاب أمريكي كبير أو اتفاق ضمني بين دمشق وأنقرة على إنهاء نموذج الإدارة الذاتية. وتلجأ الدولة السورية في هذا السيناريو إلى استعادة السيطرة عبر تفكيك تدريجي للهياكل المدنية والعسكرية التابعة للإدارة، إما عبر أدوات أمنية داخلية أو من خلال خلق بيئة سياسية وشعبية معارضة لقسد داخل المكونات المحلية (الكردية، والعربية، والسريانية). ويُعاد ضم هذه المناطق إلى الدولة المركزية. إلا أن هذا السيناريو ينطوي على مخاطر جسيمة، أبرزها تفجر حرب أهلية، وعودة مظاهر العنف المسلح، وتهديد السلم الأهلي، خصوصاً في ظل غياب خطة إدماج عادلة وتفاهمات مجتمعية شاملة.
خاتمة
إن مستقبل شمال شرق سوريا يظل محكومًا بمروحة معقدة من التفاعلات بين مقتضيات إعادة بناء الدولة السورية، ومتطلبات الإنصاف السياسي للمكونات المجتمعية، وضغوط الفاعلين الإقليميين والدوليين. كما أن قابلية أي من هذه السيناريوهات للتحقق ترتبط بمدى قدرة الأطراف السورية على تجاوز إرث الحرب، وتقديم تنازلات استراتيجية متبادلة، والعمل على صياغة عقد اجتماعي جديد يكرّس مبادئ المواطنة المتساوية، والحكم الرشيد، والتمثيل المتوازن لجميع فئات الشعب السوري.
[1] Fabrice Balanche. Sectarianism in Syria’s Civil War. The Washington Institute for Near East Policy, 2018, pp 56-58.
[2] إنكار الوجود..قمع الحقوق السياسية والثقافية للأكراد في سوريا، هيومن رايتس ووتش، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2009، https://2u.pw/Hs3zL
[3] المرصد السوري لحقوق الانسان، ” توتر تشهده بلدة الطيانة شرق دير الزور بعد اعتقال قسد لمتظاهرين خرجوا ضدها في إطار الاحتجاجات المتواصلة في مناطقها لليوم الخامس على التوالي”، أبريل 28, 2019، https://2u.pw/hC50UJC
[4] منهل باريش، ” انتفاضة عشائرية كبيرة في شرق سوريا: هل ينجح شيوخ العشائر بتحويلها إلى نصر سياسي؟”، القدس العربي، سبتمبر 2023، https://2u.pw/Lvn17cz
[5] أسامة شيخ علي، العشائر العربية في شرق سوريا.. ديناميات النفوذ والسيطرة، رؤية تركية، 2023- (1\13)، 63-78، https://2u.pw/oVvXg
[6] المجلس الوطني الكردي هو تحالف يضم عدة أحزاب كردية سورية مدعومة من إقليم كردستان العراق، https://2u.pw/4I6vS.
[7] ساشا العلو، “الإدارة الذاتية” مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية 2021، https://2u.pw/hZFji
[8] عبدي: توجد عناصر من PKK في “قسد” ونحتاج لوساطة أميركية مع تركيا، تلفزيون سوريا، 26.11.2020، https://2u.pw/wG9PF
[9] تسلسل زمني-العمليات العسكرية التركية في سوريا والعراق، يورو نيوز، 21.11.2022، https://2u.pw/o0UrjUv
[10] سوريا: سباق لكسب ود العشائر في شرق الفرات، القدس العربي، 6.7.2019، https://2u.pw/v2je7
[11] حزب العمال الكردستاني بتركيا يعلن حل نفسه وإلقاء السلاح، الجزيرة، 12.05.2025، https://2u.pw/RLA5x
[12] الجزيرة نت، نص الاتفاق بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، 10.03.2025، https://2u.pw/PMPNh