التطورات الأخيرة في الجنوب السوري والاعتبارات الاستراتيجية الأردنية
نظم معهد السياسة والمجتمع جلسة نقاشية، بمشاركة نخبة من الخبراء والباحثين والسياسيين أردنيين ومن سوريا، سعت إلى تقديم قراءة معمقة للمشهد الميداني في السويداء، واستشراف آفاقه وانعكاساته على المعادلات الإقليمية وخيارات السياسة الأردنية.
ورغم أن الجلسة سبقت الإعلان عن وقف إطلاق النار بين مجموعات العشائر والفصائل الدرزية المسلحة، إلا أن المناقشات تناولت السياق المؤدي إلى التصعيد، في محاولة لفهم التوازنات المعقدة في الجنوب السوري، والمرتبط بتوازنات إقليمية، وتأثيرها المباشر على الأمن الوطني الأردني.
ملخص تنفيذي
- ما حدث في السويداء ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية تمتد لعقود، حيث لعبت النزاعات بين البدو والدروز، إلى جانب السياسات المركزية للنظام السوري السابق، دورًا كبيرًا في إنتاج واقع اقتصادي وأمني هش.
- رغم أن الحكومة في دمشق تدرك خصوصية المحافظة، وتسعى لإدارة الوضع عبر قيادات محلية تحت إشراف وزارة الدفاع، إلا أن فاعلية هذا التوجه تبقى محدودة في ظل تضاؤل أدوات التأثير المركزي.
- ما يزال الأردن في مواجهة تهديد مباشر من الجنوب السوري، في ظل تمدد ظواهر التهريب، لا سيما السلاح والمخدرات، وإن شهدت الشهور الأخيرة انخفاضًا ملحوظًا، إلا أن استخدام بادية السويداء كممر آمن لعمليات تهريب عابرة للحدود لا يزال مستمرًا.
- لا تنحصر المشكلة في أداء الدبلوماسية الأردنية، بقدر ما هو متعلق بغياب الحاضنة العربية الداعمة لها، وتراخي الإقليم في توفير غطاء جماعي يُمكّن الأردن من تبني مقاربة استباقية لخفض التصعيد المستمر في جنوب سوريا.
- الأردن بحاجة ملحة إلى إحياء شبكة علاقاته التاريخية مع جنوب سوريا، وإعادة تموضعه في المعادلة السورية من موقع المبادرة لا الترقّب، تجنبًا لأن يصبح مجرد متلقٍ لانعكاسات الأزمة دون أدوات تأثير فعالة.
- إن تعزيز التحشيد لموقف إقليمي داعم للمقاربة الأردنية، بحيث تُشرك الأطراف العربية المؤثرة، مثل السعودية وقطر، سيمنح الدور الأردني بعدًا عربيًا جامعًا، وقد ينجح في منع إسرائيل من الاستفراد في الجنوب أو استثمار التطورات في بناء كيان طائفي يتصل بها وظيفيًا.
تمهيد
شهدت الساحة السورية خلال الأيام الماضية تطورات متسارعة تتركز بشكل خاص في محافظة السويداء، جنوب البلاد، والتي تحوّلت خلال أيام إلى مسرح صدامات مسلحة واسعة النطاق. هذا التحول السريع تزامن مع تدخلات إقليمية مباشرة، تمثلت أبرزها في الضربات الإسرائيلية التي استهدفت آليات للجيش السوري، ومن ثم منشآت سيادية في قلب العاصمة دمشق، مثل قصر الشعب ومبنى رئاسة هيئة الأركان.
تبرز التطورات الخطيرة في كونها لم تعد تُقرأ ضمن سياق سوري محلي محدود، بل باتت تؤثر في دول الجوار، وتحمل انعكاسات مباشرة على الأمن الإقليمي، وبشكل خاص على الأمن القومي الأردني.
جذور الأزمة وديناميات المشهد الداخلي في السويداء
يمكن القول إن ما حدث في السويداء ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية تمتد لعقود، حيث لعبت النزاعات بين البدو والدروز، إلى جانب السياسات المركزية للنظام السوري السابق، دورًا كبيرًا في إنتاج واقع اقتصادي وأمني هش. اتسمت إدارة الدولة السورية للمحافظة عبر العقود بنهج يقوم على استخدام الأجهزة الأمنية و”الاحتواء الناعم”، دون الولوج إلى مواجهة مباشرة، وهو ما خلق فراغًا في السلطة تم ملؤه لاحقًا من قِبل فواعل محلية مسلحة.
لكن الأوضاع في المحافظة أكثر تعقيدًا مما يبدو في المشهد الظاهري؛ إذ تُظهر السويداء تراكمًا لخلل اقتصادي طبقي بين الرعاة وملاك الأراضي، وسكان المدن وسكان البادية، في ظل غياب أي مشروع سياسي أو إداري محلي فعّال. وقد فاقم هذا الفراغ تمدد قوى تهريب الكبتاغون والأسلحة، وتغلغل بقايا شبكات النفوذ الإيراني والفرقة الرابعة، وحتى الاعتقاد بمحاولات استثمار داعش للمنطقة، ما يعزز من حالة التفكك والفوضى. فالسياسات المتعاقبة عززت عزلة المحافظة وقوقعتها، وأسهمت في تكوين بيئة غير مستقرة تعاني من تناقض داخلي في المواقف والهوية السياسية. في هذا السياق، تفتقر السويداء لمعادلة توازن واضحة أو تصور وطني جامع، بعكس التجربة الكردية التي طورت بعدًا للحكم اللامركزي، بينما تبقى السويداء غارقة في الجمود والغموض.
بشكل عام، فإن المشهد يحمل مؤشرات مقلقة، أبرزها المفاوضات الأمنية التي جرت في باكو بين سوريا وإسرائيل كما أظهرت التسريبات الدبلوماسية، وما أعقبها من رسائل سلبية تلقاها السوريون، وهو ما يعزز فرضية سعي إسرائيل لتثبيت نفوذها عبر قوى محلية انفصالية في السويداء.
إلى جانب ما سبق، تسود الخشية من استمرار عمليات الاغتيال بحق رموز معتدلة داخل المحافظة، خاصة قيادات رجال الكرامة ولواء الجبل، في ظل تصاعد “نشوة النصر” داخل تيار حكمت الهجري عقب انسحاب أجهزة الحكومة السوري العسكرية والأمنية، على الرغم من غياب الإجماع الشعبي حول تيار مشيخة الهجري. ورغم أن الحكومة في دمشق تدرك خصوصية المحافظة، وتسعى لإدارة الوضع عبر قيادات محلية تحت إشراف وزارة الدفاع، إلا أن فاعلية هذا التوجه تبقى محدودة في ظل تضاؤل أدوات التأثير المركزي، والارتباك في مقاربة الأمن مقابل الاستقرار في السويداء.
لكن النهج الحالي يتجه نحو فرض سيطرة الحكومة السورية مباشرة على كامل الجغرافيا السورية، وهو ما أفضى إلى احتكاك حاد مع القوى المسلحة في السويداء، لا سيما بعد فشل جهود التفاهم التي امتدت لسبعة أشهر بين الحكومة السورية ومشيخات العقل وأنتج تفاهمات واتفاق سابق في آذار/مارس، باستثناء تيار الشيخ حكمت الهجري والمجلس العسكري بقيادة طارق الشوفي، اللذان رفضا التسويات وكرّسا توجهًا مغايرًا.
توازن القوى داخل السويداء – مقاربة متعددة الأبعاد
المشهد في السويداء يتطلب تفكيكه إلى أبعاده الأربعة الأساسية:
البُعد الديني؛ تنقسم المرجعيات الدينية “مشيخة العقل” داخل الطائفة الدرزية بين ثلاث عوائل رئيسية: مشيخة حكمت الهجري، مشيخة يوسف جربوع، ومشيخة حمود الحناوي. حيث يوجد توافق بين مشيخة جربوع ومشيخة الحناوي مع الدولة، بينما يبرز تيار مشيخة الهجري باعتباره رافضًا لأي تفاهم مع الدولة، ما جعله في صدام مباشر مع السلطة ومع باقي المرجعيات الدينية. ويعزز هذا الانقسام حالة التشرذم الداخلي، ويُضعف إمكانية بلورة موقف درزي جامع يمكن البناء عليه في أي تسوية محتملة.
البُعد العسكري؛ يتوزع النفوذ الميداني في المحافظة بين فصائل متفاهمة مع الحكومة السورية مثل: “حركة رجال الكرامة” و”لواء الجبل”، وبين تيارات معارضة تجمع بين المرجعية الدينية لحكمت الهجري والذراع المسلحة التي يمثلها “المجلس العسكري” بقيادة طارق الشوفي. ويضم هذا التيار ضبّاطًا تابعين للنظام السابق يرفضون التسوية، ويعتقد باحثون أنه المسؤول عن عمليات تهريب، وربما تنسيق هجمات على النقاط الحدودية الأردنية، مما يُضفي بُعدًا إقليميًا على التهديد.
البُعد الأمني الإقليمي؛ ما يزال الأردن في مواجهةتهديد مباشر من الجنوب السوري، في ظل تمدد ظواهر التهريب، لا سيما السلاح والمخدرات، وإن شهدت الشهور الأخيرة انخفاضًا ملحوظًا، إلا أن استخدام بادية السويداء كممر آمن لعمليات تهريب عابرة للحدود لا يزال مستمرًا. وتزداد خطورة هذه التهديدات مع وجود مساحات خارجة عن سلطة الدولة السورية، ما يفرض على الأردن تعزيز الإجراءات الأمنية الاستباقية، وتكثيف التعاون الاستخباري مع الفاعلين الدوليين والإقليميين.
السويداء ومعادلة المصالح والتهديدات الإقليمية
في ظل هذه المعطيات، تُطرح دعوات صريحة إلى تحشيد موقف عربي تقوده السعودية، يعيد ترتيب المقاربة الإقليمية للملف السوري عمومًا، ولمحافظة السويداء خصوصًا. كما تشتد الأهمية إلى تعزيز الدور السوري في المحافظة، وعدم تركه لقوى متصارعة أو مؤثرة خارجيًا، مع إدخال تركيا كفاعل في المعادلة، إلى جانب تقوية ما يسمى بـ”ظاهرة وليد جنبلاط” كرمزية سياسية معتدلة، تمثل نموذجًا درزيًا داعمًا للدولة المركزية ورافضًا للاحتلال، مع أهمية تصدير هذه الرمزية إلى داخل السويداء، وخلق قنوات سياسية وإعلامية تدعم هذا التوجه في مواجهة التيارات المتطرفة تجاه المركز أو ذات شبهات انفصالية.
وعلى المستوى الأردني تحديدًا، فإن المملكة تملك الحق والأولوية في الجنوب السوري أكثر من إسرائيل، بحكم الجوار الجغرافي والروابط المجتمعية، لكن غياب أدوات تنفيذية إقليمية فعالة، وتراجع المواقف العربية الداعمة، حد من توجه الأردن للتدخل مباشرة، خصوصًا في ظل إحجام سياسي واضح عن التصعيد ولتجنب خلق ضغط إضافي على الجبهة الداخلية، وتعدد القضايا الشاغلة في ضوء استمرار الحرب على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبالتالي وفي المحصلة، لا تنحصر المشكلة في أداء الدبلوماسية الأردنية، بقدر ما هو متعلق بغياب الحاضنة العربية الداعمة لها، وتراخي الإقليم في توفير غطاء جماعي يُمكّن الأردن من تبني مقاربة استباقية لخفض التصعيد المستمر في جنوب سوريا.
ما يعزز من أهمية ما ذُكر، أن العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا، بما فيه قصف منشآت سيادية في دمشق، حظي بتوافق إسرائيلي داخلي كبير، ويُقرأ ضمن مقاربة انتخابية قصيرة المدى، واستراتيجية طويلة المدى تسعى لترسيخ هيمنة إسرائيل على الفراغات الأمنية في دول الجوار. ما يستدعي من الأردن والإقليم قراءة دقيقة لهذا التحول، وعدم الاكتفاء بإدانات رسمية محدودة التأثير أو انكفاء سياسي، بل الانخراط في تحرك دبلوماسي وأمني يعيد الاعتبارات السورية على أرضها أمام التوجهات الإسرائيلية، ويمنع تحول الجنوب السوري إلى بوابة تهديد دائم للأمن الوطني الأردني.
تداعيات المشهد على الأمن القومي الأردني
تكمن الخشية في أن استمرار حالة التوتر والاختلال الأمني في السويداء قد يؤدي إلى تقويض الطموحات الأردنية في عدد من الملفات الاستراتيجية، أبرزها؛ عودة اللاجئين السوريين، استقرار الحدود الشمالية، وضبط التهريب، بالإضافة إلى مشاريع إقليمية حساسة في مجالات المياه والطاقة؛ وبالتالي فإن أي انفجار أمني في السويداء سيؤدي حتمًا إلى موجة لجوء جديدة، في ظل تراجع سيطرة الدولة السورية، ما قد يُثقل كاهل الأردن سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
القلق الأردني يتزايد أيضًا في ضوء ما يمكن وصفه بـ”التمكين السياسي والعسكري السريع” لتيار مشيخة الهجري، خاصة بعد انسحاب الجيش السوري بهدف خفض التصعيد من بعض المواقع وسيطرة الفصائل المسلحة عليها. هذا التطور، إلى جانب المحاولات المتكررة لاستهداف قيادات معتدلة، يزيد من احتمالية دخول المحافظة في صراعات داخلية طويلة الأمد، والتي قد تمتد تداعياتها عبر الحدود السورية.
وعلى إثر هذه التطورات الأخيرة، تزداد الأهمية الاستراتيجية للجنوب السوري وتحديدًا محافظة درعا، خاصة مع تصريحات إسرائيلية تهدد بضرورة جعلها منطقة “منزوعة السلاح”، إلا أن ذلك يحتاج إلى إعادة تقييم شامل، نظرًا لتغير موازين القوى وتنامي المخاطر عبر الحدود؛ فالأردن بحاجة ملحة إلى إحياء شبكة علاقاته التاريخية مع جنوب سوريا، وإعادة تموضعه في المعادلة السورية من موقع المبادرة لا الترقّب، تجنبًا لأن يصبح مجرد متلقٍ لانعكاسات الأزمة دون أدوات تأثير فعالة.
استنتاجات وتوصيات
ما يجري في محافظة السويداء لا يمكن عده مجرد تصعيد موضعي أو اضطراب محلي، بل يمثل لحظة فارقة في معادلة الجنوب السوري بكل أبعاده، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والأمنية في المشرق العربي. وبالتالي، فإن سوريا أمام تحدٍّ استراتيجي يتجاوز أمن حدودها، ليمسّ بنيتها السياسية وقدرتها على التكيّف مع بيئة إقليمية متحولة.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الفراغ السياسي في السويداء، واستمرار إدارة الأزمة دون رؤية وطنية سورية جامعة، يمثلان بيئة خصبة للانفجار القادم، وأن الأردن لا يملك ترف الانتظار أو المعالجة المؤقتة، بل إن ذلك قد يتطلب منه الانخراط في بلورة حلّ شامل، يستند إلى مفهوم الأمن الوقائي واحترام السيادة المتبادلة بين العاصمتين. وفي المقابل، فإن الحكومة السورية، رغم هشاشتها خاصة لاعتبارها في مراحل بناء مبكرة؛ إلا أنها تحاول تأهيل نفسها، وهو ما يمنح عمّان هامشًا تفاوضيًا يمكن الاستفادة منه إذا ما أُحسنت توظيفه في سياق دبلوماسي منضبط ومدعوم عربيًا لاحتواء أزمات جنوب سوريا. خاصة أنه وفي ظل كل هذه التحديات، تظهر الحكومة السورية كطرف، كما يرى البعض، يسعى لإعادة تقديم نفسه كـ “الطرف الأقل سوءًا” مقارنة بخطر الانفلات أو فرص الحرب الأهلية.
وبالتالي تشتد الحاجة إلى صياغة استراتيجية أردنية شاملة للتعامل مع الجنوب السوري، قائمة على الدمج بين أدوات الردع الأمني، والسياسات الوقائية، والجهد الدبلوماسي الفاعل. وتركز هذه الاستراتيجية على النقاط التالية:
أولًا، تعزيز الجبهة الداخلية الأردنية، سياسيًا ومجتمعيًا، من خلال رفع مستوى الوعي بالمخاطر المتوقعة نتيجة لامتداد الأبعاد الطائفية أو العشائرية عبر الحدود، ومخاطر ذلك على الأمن الوطني والمجتمعي الأردني.
ثانيًا، ضرورة إحياء التجارب السياسية الإيجابية السابقة عربيًا، مثل نموذج وليد جنبلاط، وتعزيزها في سبيل دعم وحدة الدولة السورية من بوابة درزية معتدلة، مع أهمية تعزيز الوعي الإعلامي والسياسي بمخاطر التقسيم، وتسليط الضوء على المشاريع التي تسعى لخلق كيانات وظيفية تابعة لقوى الاحتلال أو التمدد الإقليمي.
ثالثًا، تحويل العلاقات التاريخية مع المكوّن الدرزي إلى رافعة سياسية، عبر توسيع قنوات التواصل مع الشخصيات والمجالس المعتدلة في السويداء، وتقديم الدعم السياسي اللازم، والذي سيعزز من مناعتها في مواجهة التيارات المسلحة الخارجة عن الإجماع الوطني السوري.
رابعًا، تعزيز التحشيد لموقف إقليمي داعم للمقاربة الأردنية، بحيث تُشرك الأطراف العربية المؤثرة، مثل السعودية وقطر، وهو ما سيمنح الدور الأردني بعدًا عربيًا جامعًا، وقد يمنع إسرائيل من الاستفراد في الجنوب أو استثمار التطورات في بناء كيان طائفي يتصل بها وظيفيًا.
خامسًا، الضغط عبر المسارات الدولية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، والدفع نحو فرض تسوية سياسية قائمة على وحدة سوريا وسيادتها، بما يقطع الطريق على المشاريع التقسيمية، ويحاصر التدخلات الخارجية الإسرائيلية.