من بين اقتحامات الحرم القدسي المتكررة من قبل المتطرفين اليهود، وتحديدًا من قبل الصهيونيين المتدينين، يبرز اقتحام التاسع من آڤ أو “تِشْعَة بآب” من التقويم العبري والذي يصادف في هذا العام ليلة الثاني والثالث من آب في التقويم الميلادي، ليكون أضخم الاقتحامات التي يقوم بها المتطرفون لباحات الحرم القدسي وساحات المسجد الأقصى، بل ويشهد هذا اليوم أيضًا العديد من الممارسات التي كانت إلى زمنٍ ليسَ ببعيد، تعتبر محرمةً على اليهود داخل الحرم / الهيكل كما يوصف من قبلهم.
يختتم يوم التاسع من آف العبري ثلاثة أسابيع من الحزن اليهودي المتواصل، تبدأ في اليوم السابع عشر من شهر تموز، الذي يصادف وفق التقويم العبري، ذكرى تدمير الهيكل الأول على يد البابليين عام 586 ق.م، ومن ثم تدمير الهيكل الثاني على يد الرومان عام 70 ميلادي، ويعتبر هذا اليوم هو ذروة أيام الحداد اليهودي، وفيه أيضًا يتم استذكار العديد من الاضطهادات والكوارث التي حلّت باليهود مثل سقوط مدينة بيتار خلال ثورة بار كوخبا، بدء الحرب العالمية الأولى (يوليو 1914 – نوفمبر 1918) ، بداية الحل النهائي للهولوكوست عام 1941، وقد اضيف مؤخرًا ذكرى انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من غزة – غوش قطيف – يومًا حزينًا يتم استذكاره أيضًا، بالإضافة إلى السابع من أكتوبر.
طقوس التاسع من آف
أبرز ما في هذا اليوم من طقوس هو الصيام من غروب الشمس حتى اليوم التالي، وفي باحات الحرم القدسي يقرأون مراثي إرميا (مغلات إيخا) وهي تتحدث عن غزو أورشليم وخرابها والآلام المروعة المرعبة التي قاساها المدافعون عنها في وقت الحصار من جوع وسيف، كما يقومون بالزحف على أرضية الهيكل ويمتنعون عن الاستحمام والعلاقات الزوجية والتعطر.
دلالة الاقتحام في ظل الظروف الاقليمية
بدأت سلسلة الاقتحامات للحرم القدسي عام 2000 حين قرر أرئيلشارون ومعه مجموعة من المستوطنين المتطرفين باقتحام المسجد الأقصى بحماية الشرطة الإسرائيلية وذلك بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي استمرت أحداثها لحوالي خمس سنوات، وانتهت بعد لقاء جمع شارون مع محمود عبّاس الرئيس الفلسطيني الحالي في شرم الشيخ.
عادت اقتحامات ساحات المسجد الأقصى لتأخذ منعطفًا جديًا خلال الأعوام الخمس الأخيرة، من أهم أسبابها بروز أحزاب الصهيونية الدينية المتطرفة بزعامة ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، والتي تؤمن بأن عليها إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، ولا يتم ذلك الا بفرض سيطرتهم الزمانية والمكانية على الحرم القدسي.
منذ السابع من أكتوبر للعام 2023، أصبحت هذه الاقتحامات أكثر من حيث عدد المشاركين فيها من المستوطنين المتطرفين، وأكثر عنفًا تجاه الفلسطينيين المرابطين في باحات الحرم القدسي لمواجهة هذه الاقتحامات، ويلاحظ أيضًا ارتفاع سقف الممارسات اليهودية عن السابق، فلم يعدون يكتفون بالاقتحام وممارسة الصلاة أو السجود، بل شهد الحرم القدسي أيضًا اقتحامًا لمستوطنين بقربان من اللحم.
ولقد ازدادت حالات الابعاد والاعتقال والتنكيل بالمصلين الفلسطينيين والعرب بشكل واضح، وأصبح منع المصلين من الدخول لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى عادةً أسبوعية تمارسها شرطة الاحتلال لتقليل عدد المصلين المسلمين، بالمقابل تحمي المستوطنين في مسيراتهم وطقوسهم التي يقومون بها داخل الحرم، والتي تزدادُ عنفًا وايذاءً وتدنيسًا لقدسية المكان يومًا بعد يوم.
اقتحام اليوم الثالث من آب / أغسطس 2025، يعتبر الأخطر في تاريخ الاقتحامات المستمرة، حيث أنها المرّة الأولى التي يمارسُ فيها وزير إسرائيلي طقوس الصلاة في ما يُسمى جبل الهيكل في انتهاك واضح وصارخ لمبدأ “الوضع القائم” Status Quo المعمول به بين الأردن وحكومة إسرائيل، حيث أن هذا المبدأ يقضي بالسماح لليهود بزيارة المكان فقط، ولا يحق لهم تأدية أي طقوس دينية أو صلواتٍ فيه، الأمر الذي استدعى إصدار بيان من مكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل ملتزمة بالحفاظ على الوضع القائم وأن سياستها لن تتغير حول هذا المبدأ، وقد دانت وزارة الخارجية الأردني على لسان الناطق الرسمي هذا الاقتحام محذرة من عواقبه.
لا يمكن فصل ما قام به وزير الأمن الحالي في الحكومة الإسرائيلية اليوم من خرق للوضع القائم في الحرم القدسي عن تصريحاته وتوجهاته السياسية والأمنية المتطرفة تجاه الأردن، فقد سبق وطالب علنًا باحتلال قطاع غزّة كاملًا والعمل على طرد وتهجير الفلسطينيين بشكل كامل من القطاع والضفة الغربية، ودعا إلى التوسع في بناء المستوطنات لتكريس الوجود اليهودي على أرض فلسطين.
كما ان الاقتحام الأخير للحرم القدسي يشكل جزءً من المخطط الذي يقوده بن غفير لجعل التقسيم الزماني والمكاني للحرم أمرًا واقعًا، والذي يعني تخصيص وقتًا ومكانًا لليهود داخل الحرم يُمنع فيه المسلمون من التواجد فيه، لممارسة طقوسهم وعباداتهم وصلواتهم بحرية تامّة، كما أن هذا التقسيم يمنع إجراء أية أعمال ترميم أو صيانة لأي جزء من أجزاء الحرم بما فيها المخصصة للمسلمين. بالإضافة لذلك، فإنه يمنع المسلمين من الدخول والتواجد في الحرم في أيام الأعياد اليهودية (حوالي 100 يوم) في السنة ويمنع إقامة الآذان خلالها. ي
إنّ اقتحام بن غفير للحرم وما قام به من طقوس دينية ليس حدثاً عابراً، هو جزء من سياقات وأجندة وسياسات باتت واضحة تنذر بما هو أشد وأكثر خطورة في المرحلة القادمة، مما يدفع إلى مراجعة سياسات الوصاية الهاشمية على المقدسات بما يتواءم ويستجيب للتحولات على الصعيد الإسرائيلي، وما قد يحدث خلال الفترة القادمة بما يضع مسؤولية كبيرة على الدور المهم والحيوي الذي يقوم به الأردن أصلاً.